رفع القيود المفروضة والعودة إلى عالم ما قبل كورونا | القدس العربي
تونس ـ «القدس العربي»: يتجه العالم نحو الرفع الكلي لقيود كورونا والعودة إلى الحياة الطبيعية التي كانت سائدة قبل ظهور هذا الوباء منذ أكثر من سنتين خاصة مع ارتفاع معدلات التطعيم لدى مختلف الشرائح العمرية، ومع حصول قناعة مفادها أنه لا يمكن القضاء نهائيا على كوفيد-19 وأن التعايش معه أمر لا مفر منه. فالإنسانية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تنعزل وتتقوقع على ذاتها ولا تتواصل مع بعضها البعض أبد الدهر باعتبار أن الإنسان مدني بطبعه على رأي العلامة التونسي مؤسس علم الاجتماع إبن خلدون.
كما أن الحرمان من متعة الحياة، التي تتمثل لدى الكثيرين في ارتياد المطاعم والمقاهي والمسارح وقاعات السينما وفضاءات العروض الفنية والملاعب والمنتجعات السياحية والتسوق في الفضاءات التجارية الكبرى وغيرها من أماكن الترفيه، بات على ما يبدو أمرا مملا إلى أبعد الحدود وخانقا للكثيرين، خاصة مع هذا التقيد ببروتوكولات يراها البعض مزعجة لنسق حياته اليومي وتشمل التباعد وارتداء الكمامات والاستظهار بجواز التلقيح وغيرها. فهناك حالة من التمرد على حياة القيود تسود العالم، ويوجد توق إلى الحرية وحنين متزايد إلى حياة ما قبل كوفيد-19 حيث لا قيود على حرية التنقل والسفر ولا على ارتياد الفضاءات العامة ولا تباعد ولا كمامات ولا غيرها من البروتوكولات الصحية الخانقة.
ولعل هذا الشعور العالمي بالضيق والإختناق من القيود التي فرضت على الإنسانية جراء هذا الفيروس، وأيضا حماسهم وتوقهم للعودة إلى الحياة الطبيعية في عالم ما قبل كورونا يلخصه قول رئيسة وزراء الدنمارك ميت فريديركسن بحماس منقطع النظير وسعادة بالغة ولافتة «وداعًا للقيود ومرحبًا بالحياة التي كنا نعيشها قبل كورونا». كما تجسد في ترحيب الشعب الدنماركي بقرار رئيسة حكومته رفع القيود ومشاركته لها لهذا الحماس في العودة إلى الحياة الطبيعية غير عابئ بالمخاطر التي قد يتسبب فيها مثل هكذا قرار في وقت ما زال العالم لم يتخلص من هذه الجائحة بشكل كامل.
والدنمارك ليست استثناء في كل الحالات، فأغلب بلدان القارة العجوز رفعت القيود سواء بشكل كامل أو بشكل جزئي رغم أن متحور أوميكرون ما زال يفتك بالبشر في مختلف أنحاء العالم وما زال انتشاره سريعا كحاله مع بداية ظهوره. ويبدو أن الاقتصاد هو المحرك أيضا لمثل هكذا قرارات وليس فقط التوق الإنساني للحرية وللعودة إلى مرحلة ما قبل فيروس كورونا باعتبار أنه لم يعد ممكنا أن تتعطل أكثر حركة تنقل البشر والسلع في عصر السرعة والأسواق والحدود المفتوحة ورفع الحواجز الجمركية.
خسائر بشرية فادحة
لكن هذا الرفع للحواجز وإن لقي تأييدا واسعا من أباطرة المال والأعمال والمتحكمين والفاعلين في الاقتصاد العالمي وكذلك من عدد هام من مواطني هذه البلدان التي رفعت الحواجز، إلا أن هناك من يعتبر أن الرفع كان سابقا لأوانه وأنه كان لزاما على الإنسانية الانتظار بعض الوقت حتى يحصل هذا الرفع. فما الذي يضمن برأي هؤلاء أن لا يعيد الفيروس انتشاره بكثافة وبمتحور جديد في صفوف من لم يتلقوا التطعيم سواء بشكل كامل أو بشكل جزئي وأيضا في صفوف من تلقوا التطعيم لكنهم يعانون من أمراض مزمنة ترهق أجسادهم الضعيفة؟
ألم يكن من الأفضل مزيد تلقيح سكان العالم قبل رفع القيود باعتبار أن هناك أكثر من 3 مليارات شخص لم يتلقوا جرعتهم الأولى بعد؟ ألم يكن من الأفضل، وفي إطار القضاء على الوباء نهائيا، لو قامت الدول الغنية بمساعدة الدول الفقيرة على تصنيع اللقاحات محليًا بدل منحها لها في إطار مساعدات قد يتأخر شحنها وقد لا تتوفر بالكامل؟ إلى متى سيعاني العالم من جشع شركات الأدوية ورغبتها في جني الأرباح الطائلة على حساب صحة ملايين البشر حول العالم ومستقبل الجنس البشري برمته؟
لذلك فإن هناك انتقادات عديدة تطال قادة الدول الذين رفعوا القيود على غرار بريطانيا التي وجه فيها المئات من مسؤولي الصحة والأكاديميين والعلماء رسالة ينتقدون فيها قرار رفع القيود الذي وصفه البعض بـ«المتهور والذي من شأنه أن يعرض صحة المواطنين إلى الخطر». ولعل أصدق مثال يمكن أن يساق في هذا الإطار تأكيدا لما ذهب إليه الخبراء البريطانيون هو تونس التي كانت سباقة في رفع القيود بعد الموجة الأولى وذلك خلال الثلاثية الثانية من سنة 2020 بعد نجاحها في بلوغ «الصفر حالة» لكنها عانت الأمرين لاحقا من خلال موجة ثانية مدمرة في سنة 2021 تسببت في خسائر بشرية فادحة. واعتبر قرار رفع القيود في ذلك الوقت متسرعا أدى إلى غضب شعبي على حكومتي إلياس الفخفاخ التي رفعت القيود وحكومة المشيشي التي تهاونت لاحقا في إعادة فرضها وهو ما تسبب في الكارثة.
لكن البعض يرى أن رفع القيود هذه المرة في تونس سيكون مختلفا عن المرة السابقة، ولن تحصل كارثة شبيهة بتلك التي حصلت في السابق، باعتبار أن التطعيم قد شمل أكثر من نصف سكان البلاد وما زال متواصلا بجهود حثيثة ليشمل البقية. وبالتالي يصعب مع هذا العدد الهام ممن تلقوا جرعاتهم من التلاقيح المضادة للفيروس أن تعيش الخضراء مجددا تلك الفاجعة التي أودت بحياة قرابة 35 ألف تونسي خلال أشهر معدودات وأدت لاحقا إلى حصول تغييرات في المشهد السياسي.
الخشية من رفع القيود
ولعل السؤال الذي يطرح ماذا بشأن بلدان مثل الجزائر التي، وخلافا لتونس، أغلقت حدودها البرية بالكامل منذ أكثر من سنتين ولم تستأنف الرحلات الجوية إلا مع عدد محدود من دول العالم؟ وماذا بشأن المغرب الذي كان حذرا كجارته الجزائرية وسارع إلى إيقاف الرحلات الجوية مع كل بلد ينتشر فيه الوباء بما في ذلك البلدان الأوروبية؟ هل ستنخرط هذه البلدان في موجة رفع القيود، أم ان الخشية من حصول كارثة ما في الأرواح قد تجعلها حذرة تخشى رفع القيود؟
يبدو أنه لا خيار أمام هذه البلدان كما باقي دول العالم سوى التعايش مع فيروس كورونا والتخفيف التدريجي من القيود وصولا إلى رفعها بالكامل، فاقتصاديات الجزائر والمغرب كما باقي بلدان العالم التي بالغت في التقوقع تضررت كثيرا بفعل الجائحة ولم تعد تحتمل المزيد من الإنكفاء على الذات. فلا مفر إذن من التعايش مع الفيروس مهما بلغت خطورة متحوراته خاصة مع ارتفاع معدلات التطعيم وتراجع أعداد الإصابات في الآونة الأخيرة.
وللإشارة فإن رفع القيود الذي حصل في الآونة الأخيرة ليس سابقة يشهدها العالم، فهناك دول عديدة على غرار تونس انخرطت باكرا في هذا الخيار، سواء مكرهة بفعل ظروفها الاقتصادية، أو عن طواعية مراعاة لظروف المواطنين ومصالحهم أو لقناعاتهم الخاصة الرافضة للتطعيم والحجر. ويبدو أن البعض ترسخت لديه قناعة اليوم بضرورة احترام الحريات على غرار الكويت التي رفعت القيود بالكامل على غير الملقحين، وتم الاكتفاء فيها بضرورة وجود فحص سلبي لشرط للدخول إلى الأماكن العامة والسفر إلى الدول التي تستقبل غير المطعمين.
كما يبدو أن الشارع الرافض للتلقيح وللبروتوكولات الصحية ولإغلاق الأماكن العامة فاعل يشكل كبير، حتى أن البعض أكد على أن موجة رفع القيود هذه، التي يشهدها العالم، سببها بالأساس تلك الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها بعض الدول رفضا للحجر الصحي وللتلقيح وجوازه. فهناك دول تحترم إرادة مواطنيها حتى وإن تعلق الأمر بوباء فتاك يهدد صحة وسلامة الجنس البشري.
#رفع #القيود #المفروضة #والعودة #إلى #عالم #ما #قبل #كورونا #القدس #العربي
تابعوا Tunisactus على Google News