فن الغصن المنقوش التونسي… سحر الخشب الذي ينطق جمالاً
ليبيا المستقبل (عماد حامدي – رصيف 22): حاملاً منشاره، ومتسلحاً بالعزيمة، يتوغل العم حسين (54 عاماً)، كيلومتراتٍ داخل جبال عين دراهم الشاهقة في شمال غرب تونس، غير عابئ بحرارة طقس الصيف، أو ببرد الشتاء، من أجل الظفر ببعض الأغصان التي سيطوّعها في وقت لاحق ليخرجها على شكل تحفٍ خشبية، وهو ما دأب عليه منذ سنوات.
تزدهر في مدينة عين دراهم أو عروس الشمال التي تبعد 172 كلم عن العاصمة تونس، تجارة التحف الخشبية التي اتخذها بعض سكان المنطقة مورد رزق أساسياً في ظل غياب حلول بديلة في الجهة، وعجز الدولة عن حلحلة الأمور في تلك المدينة السياحية الساحرة.
حرفة الأجداد
يغادر العم حسين مع بداية كل أسبوع منزله باتجاه الغابات المجاورة لمدينة بني مطير، أو باريس الصغرى كما يحلو للبعض تسميتها، بحثاً عن أغصان “البوحداد واللنج والزيتون”، وهي من أفضل الأغصان التي يحبّذها ليعود بها مساءً إلى منزله وينطلق في نحتها وإخراجها بأشكال وأحجام مختلفة.
يتقن هذا الرجل الخمسيني فن النقش على الخشب، وتجسيم أنواع من الحيوانات مثل النسور والغزلان والطيور والفيلة وغيرها، بالإضافة إلى أواني الطعام والمهاريس.
يقول لرصيف22، إنه ورث هذه الحرفة عن والده وأجداده الذين كانوا يعتمدون على خيرات الغابة في صنع أواني الطعام، مثل ملاعق الأكل والصحون و”المعجنة” (صحفة كبيرة الحجم)، وكذلك القصعة التي يُعجن فيها دقيق القمح، بالإضافة إلى العكّاز الخشبي أو “البكيتة” كما تُعرف في المنطقة.
ويؤكد العم حسين أن هذه الحرفة كانت مخصصةً لتغطية حاجيات المنزل الداخلية فحسب، قبل أن تتطور مع بداية ستينيات القرن الماضي لتصبح محل اهتمام وبات البعض يستعملها كتجارة ومورد رزق”.
وكان سكان هذه المناطق الجبلية يعانون من الفقر والخصاصة بعد سطوة الاحتلال الفرنسي على المدينة، لذلك لجأوا إلى الصناعات اليدوية غير المكلفة من أجل تأمين بعض الحاجيات الأساسية، كأواني الطعام والطاولات والكراسي وأسرّة النوم.
ولا يفوت العم صالح (67 عاماً)، وهو من كبار المنطقة الذين عاشوا مراحل تطور هذه الحرفة، الفرصة كي يحدثنا عن السر وراء اكتشاف هذا الفن، إذ يقول إن أبناء الجهة الذين يسكنون في المناطق المحاذية للجبل لم يكونوا يملكون أي خيار سوى الاستثمار في الثروة الحرجية، إذ كانت الانطلاقة بصنع “المحاريث” (المحراث الخشبي)، الذي يتم استعماله لشقّ الأرض، قبل أن تتطور لتشمل أواني الطبخ والأواني الخزفية والخيزران.
وتنتشر على طول الطريق الرابطة بين مدينتَي عين دراهم وفرنانة، دكاكين لبيع هذه التحف الخشبية التي يُقبل عليها الزوار، خاصةً في أيام العطل والمناسبات.
ويقول سفيان الحيزاوي (27 عاماً)، قاطن في المنطقة، إن عالم النقش على الخشب فن راقٍ لا يمكن لأي إنسان إتقانه لأنه يعتمد على الدقة والصبر والتركيز.
ويستدرك قائلاً: “هذه الحرفة أصبحت ميزةً خاصةً تنفرد فيها المنطقة، إذ يأتي الزوار من داخل البلاد وخارجها من أجل شراء هذه التحف والتقاط الصور أمام واجهات هذه المحالّ التي تزيّن أرصفة المدينة وشوارعها”.
وتتميز عروس الشمال عين دراهم، بسحر خاص إذ تتوسد إحدى سفوح جبال خمير التي تنمو فيها بكثافة أشجار الفلّين والصنوبر والزان العاتية، كما تتميز بعمارتها الفريدة التي تحاكى تاريخ ذلك المكان وعراقته، حيث تتزين أسقف المنازل بالقرميد الأحمر الذي يكسر خضرة المكان ليقدّم لنا لوحةً فنيةً طبيعيةً غايةً في الجمال.
كمال، في العقد الرابع من عمره، وهو أيضاً من بين العارفين في هذا المجال ولديه محل لبيع التحف، يسابق الزمن من أجل الظفر بكميات من المواد الأولية لصناعة بعض التحف، قبل الانتقال في آذار/ مارس المقبل، إلى معرض الكرم وهو أكبر معرض للصناعات التقليدية في تونس.
ويتحدث عن بعض المشكلات وأهمها تراجع الإقبال على السلع بعد تفشي فيروس كورونا، بالإضافة إلى حادثة عمدون التي راح ضحيتها 31 شاباً وشابةً وجُرح 14 آخرين.
“فاجعة عمدون هي حادث مرور وقع على الطريق الرابطة بين محافظة باجة وعين دراهم، وأدى إلى وفاة شبّان كانوا يقومون برحلة ترفيهية إلى المنطقة”.
كمال على عكس العم حسين، لا يذهب إلى الجبال لقطع أغصان الأشجار والعودة بها إلى ورشة العمل، بل يقوم بشراء حطب الزيتون من محافظة سيدي بوزيد وسط البلاد، أو من عاصمة الجنوب صفاقس، نظراً للجودة الكبيرة التي تتميز بها تحف الزيتون.
ويشتري الألف كلغ من الحطب مقابل 400 دولار، وهو مبلغ باهظ مقارنةً بأسعار عامي 2009-2010 حين كانت تباع بـ30 دولاراً فقط.
وعلى الرغم من كل تلك المتاعب والمصاعب، يقول لرصيف22، إن هذه الحرفة أنقذت العديد من الشبان من جحيم البطالة وأهدتهم صنعةً من ذهب.
يقول الفيلسوف أفلاطون: لا تطلب السرعة في العمل بل جودته، لأن الناس لا يسألونك في كم من الوقت فرغت منه، بل ينظرون إلى إتقانه وجودة صنعه.
هذه الحكمة تنطبق تماماً على ما يقوم به فوزي، وهو أحد المغرَمين بهذه الحرفة، إذ يتفنن في النقش على الخشب ليُخرج منه ما يسرّ الناظرين، على الرغم من قلة ذات اليد وعدم توفر الإمكانات اللازمة.
هذا الرجل الذي يبلغ من العمر 45 عاماً، قرر العمل على بعض الحاجيات التي تُعد الأكثر طلباً في السوق، مثل ملاعق الأكل والمهاريس والصحون وما يُعرف بالتقطوقة التي يضعون داخلها بقايا السيجارة.
لا يترك فوزي صغيرةً ولا كبيرةً خلال عمله، إذ يتفنن في رسم تحفه ليخرجها في أحسن تقويم، وهو السرّ وراء الإقبال على سلعه كما يقول.
ولا يملك محدّثنا محلاً خاصاً أو ورشةً، بل يعمل في منزله عندما يعود إليه مساءً، بعد يوم شاق يقضيه بين رعي الأغنام في سفوح الجبال وقطع الأغصان.
ويبيع فوزي الذي يصنع سلعه مما تجود به عليه الطبيعة من خيرات، في السوق الأسبوعي في مدينة فرنانة المتاخمة لعين دراهم، كما يبيعها لبعض التجار الذين يأتونه من العاصمة، ويؤمّن طلبات بعض الجيران والأقارب.
يقول لرصيف22: “لا أحقق مداخيل ضخمةً من هذا العمل، لكن الحمد لله أننا نوفّر قوت يومنا وحاجياتنا الضرورية على الرغم من التعب والشقاء”.
ويقبل الناس في السوق على شراء الأواني الخشبية لأنها صحية وغير قابلة للكسر بسهولة، كما أن لها جمالاً ورونقاً خاصّين.
وتستقبل مدينة عين دراهم، أسبوعياً، العشرات من الرحلات القادمة من كل محافظات الجمهورية التونسية، إذ يأتي الزوار للاستشفاء في مياهها الساخنة في مدينة حمام بورقيبة، ولممارسة رياضة المشي وتسلق الجبال، بالإضافة إلى الابتعاد عن صخب المدينة للارتماء في أحضان الطبيعة حيث الهدوء والسكينة والطمأنينة… في انتظار الظفر بإحدى التحف الخشبية التي تتوارثها الأسر.
رصيف 22
#فن #الغصن #المنقوش #التونسي #سحر #الخشب #الذي #ينطق #جمالا
تابعوا Tunisactus على Google News