- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

أحنّ إلى خبز أمي حقاً – رصيف 22

- الإعلانات -

 الخبز المرّ

الخبز منحدر الحضارة، تمخض فولد الجبل أولاً ثم استقر إلى البطون. لو تأملت كلمة “البطون” ببعض المسخ الذي يسكن رأسك، ستتذكر ولا شك رئيس دولة عربية شقيقة، وستربطه بعدها بطابون تونس، وها أنت ترى كيف أن خبز المرأة الذي، عكس صدرها، لم يختمر بعدُ بين أفخاذها، يوحّد الشمال المغربي ببيت لحم الفلسطيني.

أؤكد لك أن غار حراء، المـعروف بمشقة الوصول إليه، الذي يتحنث فيه العبّاد بالسنوات ذوات العدد، الذي نرقى إليه من أعلى إلى أسفل، هو نفسه الغار الذي نفخ فيه الله من روحه هكذا “آآه”، ذات يوم نبوي، فأوقد فيه ناراً للحرب لم يطفئها حتى هو، عزّ وجل، فخلق له المطر، ولكن المرأة خلقت منه السنبلة، في كل سنبلة مئة غار من غيران حراء.

أذكر والدتي وهي ترش القصعة بالطحين، لتبدأ كفّاها بدلك العجين المختمر صانعة منه كُرات. كان الزمنُ حينها متكلّساً، ينزل من السماء على شكل بلوراتٍ، وأراقب انتشار بدعة اقتناء دراجات تروتينيط.

أما السيدة “إكرام بناني الرطل” فهي على حالها، تنمص حواجب الإسلام على القناة الأولى، مستضيفة خيرة شباب الشيوخ الإسلاميين، عمرو خالد مثالاً. وقتنا هذا كان آخر العهدِ بالألفية، والأفران تعرف كلاً منا من شكل الخبز الذي تصنعه والدته.

أحنّ إلى خبز أمي حقاً. أما الآن فنشتري خبز الماكينات. وهو خبز لم تعركه أصابع النساء، وإن حالفنا الحظ، أخذنا خبز بائعات تقليديات يعرضن في السوق هذا العجين المقدس الذي أعلن الثورة على البريّوش الفرنسي، ذات يوم غير بعيد، كان قد ملأ بعض الشوارع المغربية بالدماء. إنه كائن خطير.

أحنّ إلى خبز أمي حقاً. أما الآن فنشتري خبز الماكينات. وهو خبز لم تعركه أصابع النساء، وإن حالفنا الحظ، أخذنا خبز بائعات تقليديات يعرضن في السوق هذا العجين المقدس الذي أعلن الثورة على البريّوش الفرنسي، ذات يوم غير بعيد، ملأ بعض الشوارع المغربية بالدماء… مجاز

لنكن علميين قليلاً، لو أردتُ لصغتُ موجز تاريخ للخبز. منذ زرع الإنسانُ القمح إلى حين اكتشاف آدم للأثداء.les petits pains d’Eve  وإن فعلتُ، فسأحاول ما وسعني أن أتفادى الحديث عن طقس التناول لدى المسيحيين.

الخبز أمومةٌ ولا ينبغي ربطه بالذكور. لذلك لن تُجدي مقاربات النوع في إقناعي بعكس ذلك… اتفقنا؟
خبز المغاربة يختلف عن رغيف المشارقة. خبزنا منتفخ غليظ ومليء باللبّ ويسع كرسيه السماوات والأرض. نحتفل به بالشاي وصحون السمن والعسل وزيت الزيتون. ولا يقسمه إلا كبير الأسرة قبل أن نتسيّد، نحنُ بنات آوى هذا الجيل، فنمدّ أيدينا إلى مائدة السلطة أيضاً. لا أتحسّر على المجتمع البطريركي يا عزيزتي بقدر ما أندب حظي في ضياع لذة الطقس.

ليس سهلاً تناول الخبز المغربي بالدراسة كما ظننتُ. ذكرياتي لا تحتمل الأمر. سنجد عدة أبعاد أمام هذه “الظاهرة”، لن يقف الجائع عند الجانب الأنطولوجي والسيسيولوجي والثيولوجي، ولا حتى المورفولوجي للخبزة. هناك الصنف الباريسي الطويل وخبز التوست المكعب أيضاً، ونجد أشكالاً أخرى اقتحمت مخابزنا الأرثوذوكسية، فصارت تبيع الخبز بالجبن الأحمر وخبز الشوفان وخبز بذور عباد الشمس وخبز الخشخاش وخبز الذرة، وهناك الخبز الحافي الذي تبيعه المكتبات ويصنعه مشكوراً محمد شكري، وكانت جدتي تدعو معي لتيسير أموري وتقول: الله يعطيك خبزة ساهلة ماهلة. هذا النوع الأخير مجازي للأسف ولا يؤكل إلا بعرق الجبين.

“ليس بالخبز وحدهُ يحيا الإنسان”. ينبغي القليل من المربى والزبدة على كل حال

الخبز الحافي هو الخبز وحده لا شريك له. خبز سادة، بلا زيت أو مربى. عسير على البلع ويتطلب جهداً لمضغه. حياة شكري كانت خبزاً حافياً قبل أن يكتب عنه فيدهنه ببعض الزبدة. وأكرّر في غصّة: أحنّ إلى خبز أمي. إنه محمود درويش. حسناً. لكنها لا تعجن الآن إلا في الأعياد، أقصد أمي. ويكون خبزها لذيذاً مُنسّماً بالسانوجِ وحب اليانسون. أما السيد المسيح فما كان ليحبذ كثيراً انتشار الخبز الحافي، وهو القائل “ليس بالخبز وحدهُ يحيا الإنسان”. ينبغي القليل من المربى والزبدة على كل حال.

في العيد الكبير، تصنع الأمهات الحريصات على التقليد “خُبيْزات” للصغار تسمى “العمّاريات”، وهي خبز صغير تتوسّطه بيضة مسلوقة بقشرها، وتزيّنها خيوط من العجين. عشّ صغير لبيضة واحدة أيها الصبي. وينبغي أن ننوّه إلى قداسة الخبز أيضاً في الثقافة الشعبية التي تستمد من التراث الإسلامي وغيره أساسيات لا يمكن إغفالها. حين نجد كِسرة خبز فنحنُ نُكرمها، بأن نلتقطها، نمسحها ثم نقبلها ونجعلها في الطاق، فوق أن تكون ممتهنة. ولا ينبغي بأي حال أن تُرمى مع بقية المخلفات. بل تُجمع الكِسر في كيس وتترك جانباً. سيمر بالتأكيد من يحتاجها، إما لطيوره ودواجنه، أو لاستهلاكه الشخصي المعدم، أو لـ”مائدة الخال ميلاد”. المعنى يقول: لا يمكن للمجتمع الزراعي أن يدنّس طوطمه الأول.

أؤكد لك أن غار حراء، المـعروف بمشقة الوصول إليه، الذي يتحنث فيه العبّاد بالسنوات ذوات العدد، هو نفسه الغار الذي نفخ فيه الله من روحه هكذا “آآه”، ذات يوم نبوي، فأوقد فيه ناراً للحرب لم يطفئها حتى هو… مجاز

المِرشمُ قطعة مستطيلة قد تكون من خشب أو عظم، يُنحت طرفها على شكل نجمة أو زخرفة بسيطة يُطبع بها الخبز الخمير. وقد يُقال أيضاً إنه في القديم، كان لكل أسرة مِرشم خاص بها. شعار نبالة من القرون الوسطى يدمغ الخبزة فيجعلها في حِرز. وقد رأيتُ أن طقس التناول عند المسيحيين الأرثوذوكس، وعفواً على إقحامه هنا، يتم بمخبوز غليظ ذي لب، عكس الرقائق الكاثوليكية، ويدمغونه بشعار ملكي جميل.

إذا زرت المغرب وسمعت هذا القول الجميل: “أنت خبزُ ربي في طبقه”. فهو يعني أنك بسيط ساذج، أو باصطلاح دارج آخر: “أنت نية، يسهل خداعك”.

خبزُ ربي في طبقه، تمر عليك النائبات فتقضم منك كل واحدة إلى أن تفنى في بطون العصافير. عيالُ الله عيالٌ على خلقهِ. سنرى ذلك. وأحاول دائماً استدراج السماء إلى قدمي حتى أطأها لذلك أسأل: هل للخبز ذكر في القرآن؟

الخبز أمومةٌ ولا ينبغي ربطه بالذكور

كنتُ أفرح دائماً بحمل لوح الخبز إلى فرن الحيّ. وأبقى أراقب الرجل المتفحّم وهو يمد العجين على مِطرحه، يثقبه من الوسط قبل إدراجه داخل التنور الذي تفوح منه رائحة أخشاب الغابة. تحترق بعض النباتات لينضج خبز نبات آخر، فآكله أنا بمجرد خروجه من الأتون. يكون لذيذاً ساخناً غير مسخّن.

كنتُ سعيداً، حتى وأنا على مشارف الثالثة والثلاثين (وهذا ما يفسّر هروبي من سيرة المسيح) أقرض من خبز الدار اللذيذ وأنا أستذكر عجرفتي ذات مرة:

“تنطلق الحضارات من الفرن، ثم تمر بالأرض فتحرثها، قد تستعين بالمخطوطات لهندسة الاكتساح، وفي أوقات الفراغ الحضاري تؤسس لدار بغاء كبيرة تسميها المكتبة، شيء رفاهي يُؤسطر فيه العظماء أمجادهم، ويتوغل فيه فاقدو الأنساب الشريفة وأيادي السيوف، ليدعوا أنساباً فوق الدم والحديد، أنساباً من الورق”.

في مرحلة أولى، حسب سورة قريش، فإن الله أطعهم خبزاً وآمنهم من خوف، ثم أرسل في مرحلة ثانية نبيّه. لا ينبغي القفز على مراحل الدعوة، وهذا ما لم تفهمه السلفيةُ بعدُ. يريدون أن يصليّ الجائعون وتُعفي التيوس لحاها قبل ملء بطونها.

لا أحب أن ينجر هذا الحديث عن خبز أمي إلى أفران البرلمان. ولكن أزمة أوكرانيا تجعلني أشكّ حتى في تداعياتها على علاقتي بحبيبتي.

#أحن #إلى #خبز #أمي #حقا #رصيف

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد