“أغلفة موازية” تدفع الثقافة والشباب إلى السخرية
يصعب تجاهل تلك الحدة الناعمة والسخرية الطائشة المنمقة والدعابة التي تمشي على حبل رفيع خطير تتأرجح بين الممنوع والمسموح مرة، وبين المفهوم أو غيره كرة، وبمعنى آخر المفهوم للكبار والعصي على فهمهم تارة أخرى. وهو عصي على الفهم، لا لنقص ذكاء أو شح ثقافة أو أنيميا معرفة، ولكن لأن سلاح السخرية الحاد بمقاييسه الشبابية الجديدة وأدواته المتفردة وغاياته المتأرجحة بين الواضحة الصريحة المضحكة والغامضة المموهة المضحكة كالبكاء، يواجه صعوبات في حفرة فجوة الأجيال.
الـ”ميمز” والـ”كوميكس” وغيرها من أدوات السخرية التي يتقنها الشباب على منصات التواصل الاجتماعي ذائعة الصيت، محدودة الفهم، بحسب الفئة العمرية. وحين أطلّت “الأغلفة الموازية” على الملايين من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي “صدفة”، لاقت ردود أفعال مختلفة بنكهة ثقافية مغايرة، لكنها سرعان ما لحقت بما سبقتها من أدوات سخرية خضعت للاستقطاب وتحوّلت إلى أداة طيعة في أيدي التحزبات السياسية والفرق المتناحرة أيديولوجياً.
بعيداً من الأيديولوجيا
أيديولوجياً، لم يُعرف صاحب “الأغلفة الموازية” التي تحولت بين غلاف موازٍ وضحاه إلى ترند وصرعة وأداة سخرية ووسيلة معارضة ومنصة ثقافة، بميل لفكر سياسي هنا أو تحيز لأيديولوجيا سياسية هناك. الصحافي والمترجم من الإسبانية للعربية محمد الفولي (35 سنة) صاحب “أغلفة موازية” نفسه يتعجب مما حدث. اعتاد الفولي نشر مقاطع أو وصور من أفلام ومسلسلات عربية قديمة أثناء الترجمة وربط مضمونها أو عنوانها بهموم الترجمة، وذلك على سبيل المزاح مع أصدقائه وزملاء المهنة.
وقبل أيام، استيقظ ليجد أن ما سمّاه بـ”أغلفة موازية” تحوّل من مزحة بين الأصدقاء من المترجمين والصحافيين والمثقفين الشباب إلى ترند عربي، يتأرجح بين الضحك لغرض الضحك والسياسة بغرض المعارضة والتعبير عن وجهات نظر، قد تكون مقموعة أو مقهورة أو تعرّض صاحبها لخطر المساءلة والتوقيف.
الفولي الذي ما زال في مرحلة الدهشة مما يجري من حوله، وما يثار حول أغلفته الموازية، قال في تصريحات صحافية عدة إن “الغاية من الأغلفة كان الضحك والتنكيت. لكن يبدو أن الترند يشبه الجائحة، إذ تعقب ظهور الفيروس الأصلي متحوّرات عدة. لا أقصد أوميكرون، لكن أقصد المتحوّرات في عملية الإبداع الفكاهي المرتبط بالأدب”.
أدب “الأغلفة الموازية”
أدب “الأغلفة الموازية” فتح أبواباً عدة على مصاريعها. صحيح أن الفولي نفسه تحدث عن عوامل مثل الحظ أو التوقيت، ساعدت في تحوّل أغلفته الموازية إلى ترند عربي جارف، لكن الترند الظاهرة يستحق أكثر من ذلك.
أكثر ما يلفت النظر في انتشار “الأغلفة الموازية” هو أنها فتحت ينابيع ثقافية لم تكُن على البال أو الخاطر. العشرات وربما المئات أقبلوا على صناعة أغلفتهم الموازية التي تعكس درجات متباينة من الثقافة ومضامين عدة من الأفكار والانتماءات. هذا الإقبال أشاع أجواء من التفاؤل وعودة الأمل، في وقت كان يعتقد البعض أنه مسألة ميؤوس منها. “إنهم يقرأون” قالها أحدهم على “تويتر”، معلقاً على انتشار ظاهرة صناعة الأغلفة الموازية. “تواتر الأغلفة الموازية بين الشباب بعناوين روايات وأعمال أدبية وأفلام يؤكد أن هذا الجيل يقرأ أو على الأقل مطلع أكثر مما كنا نعتقد”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفولي نفسه قال إن “انتشار الفكرة وتحوّلها إلى هاشتاغ يعني أن الناس تقرأ، وأن أذواقهم في ما يقرأون مختلفة وهذا أمر طبيعي في شعب تعداده يفوق المئة مليون”.
نقاشات ثقافية
من الملاحظ أن نقاشات ثقافية عدة آخذة في النمو على هامش الأغلفة الموازية. يخرج أحدهم بغلاف موازٍ يحمل عنواناً لم يسمع عنه الآخرون، فيسألون ويبحثون ومنهم من يسعى إلى القراءة وهكذا. وهذا أسهم في تحويل “أغلفة موازية” من مجرد دعابة ثقافية ساخرة أو مزحة ترجمة مضحكة، إلى ما يشبه الحملة أو المبادرة الثقافية التي لا تتبع منهج النصح والإرشاد الكلاسيكي لمزيد من القراءة والتثقيف. مزيد من القراءة والتثقيف، أحد الأعراض الجانبية بالغة الإيجابية لأغلفة الفولي الموازية، لكنه ليس الوحيد. عرض جانبي إيجابي آخر هو تغيير الصورة النمطية السائدة بين الناس عن طبقة المثقفين باعتبارهم أشخاصاً معزولين في أبراج نائية، ثقيلي الظل، لا يتمتعون بحس دعابة أو روح سخرية. كثير من الحراك يدور على منصات التواصل الاجتماعي في ضوء الأغلفة الموازية. ومن لم يكُن طرفاً في الحراك عبر الاطلاع على الأغلفة ومتابعة الجديد منها والبحث عن المجهول فيها، فقد سمع عنها عبر تغطيات إعلامية وأحاديث شعبية في الشوارع والمقاهي. المئة مليون مصري لم يخرجوا بـ100 مليون غلاف موازٍ. لكن المئات منهم يفعلون، والآلاف من العرب الذين امتدت إليهم حمى الأغلفة وفيروس الترند يفعلون.
من السودان إلى العراق ومنه إلى لبنان وصولاً إلى ليبيا والمغرب وتونس والجزائر ومنها إلى السعودية والكويت والبحرين مروراً بمصر، حيث تفجرت الفكرة وانطلق الترند وذاعت الأغلفة وتلوّنت بألوان الثقافات والاهتمامات والأولويات، لكن أيضاً مسّتها السياسة وخدشتها الأوضاع الصعبة هنا وهناك. الأوضاع السياسية الصعبة في السودان وليبيا ألقت بظلالها على الأغلفة الواردة من هناك، والأحوال المعيشية الملتبسة في لبنان تركت بصمتها على أغلفته، ومنافسات كرة القدم وتكهنات مستقبل “داعش” وتوقعات متحوّرة “أوميكرون”، وحتى مصير طلاب الصف الرابع الابتدائي، وإرهاصات زيادة سعر الوقود، وعودة شيرين لحسام حبيب، ووضع المثلية وخلع الملابس الداخلية في “أصحاب ولا أعز”، وخلطة الدين بالدولة وهتلر والهولوكوست، ونجاح مرتضى منصور في انتخابات الزمالك، ودخول مبروك عطية على خط ضرب الزوجات، والموقف من النظام السوري ومصير بوريس جونسون في ضوء حفلات الحظر والعزل، دخل جميعها على خط الأغلفة الموازية.
اجتهاد صناعة الغلاف
“الأغلفة الموازية” فتحت كذلك باب أغلفة الكتب للنقاش وربما مزيداً من الاجتهاد وقدراً أوفر من الإبداع. الفولي يتوقع أن تؤثر “الأغلفة الموازية” في تصميم الأغلفة بالمستقبل القريب. يقول “ربما تلجأ دور النشر الشبابية إلى أغلفة فكاهية أكثر، وربما يمتد التأثير لدور النشر الكبيرة، التي قد تولي اهتماماً أكبر لفكرة الغلاف، خوفاً من ظهور غلاف موازٍ ساخر يغطي على أو ينال من نظيره الأصلي، وهو ما ربما يؤدي إلى ربط أكبر بين الغلاف ومضمون العمل وروحه”.
روح الأغلفة الموازية ومضامينها المتفجرة إبداعاً في رأي البعض وانفلاتاً في تقييم البعض الآخر، تشي بمكانة مرتفعة للسخرية في الثقافة العربية عموماً والمصرية على وجه خاص. فحين يجد دوستويفسكي رائعته “حلم رجل مضحك” عنواناً للفنان محمد هنيدي وهو نائم ويضحك، أو يتفاجأ ويل ديورانت بأن كتابه الموسوعي التاريخي “قصة الحضارة” يعبّر عنه رجلان يرتديان الجلباب ويدخنان الشيشة (النرجيلة) في مقهى شعبي، أو أن “كائن لا تحتمل خفته” لكونديرا ما هو إلا مذيع مثير للسخرية والانتقاد من قبل المصريين، أو أن “فن الإغواء” لروبرت غرين ما هو إلا فخذ لحم بقري، فإن المعنى يبقى واضحاً حاضراً ثاقباً في أذهان الملايين من الشباب، المتعطشين لسخرية حادة لا يفهمها سواهم، أو لساحة تعبير لا تفضي إلى عقوبة أو ملامة، وربما إلى أغلفة موازية تفضي إلى ترند ساحق، يأخذ وقته لحين بزوغ نجم جديد في عالم موازٍ آخر.
عوالم موازية
العوالم الموازية كانت في ما مضى غارقة في خيال علمي يتوقع البعض أو يتمنى أن يكون حقيقة، حيث حياة أخرى في كواكب أخرى، تعيش عليها كائنات أخرى. لكن الحاضر يحوي عوالم موازية عدة صنعها الإنسان، منها على سبيل المثال لا الحصر عالم الإنترنت والحياة على منصات التواصل الاجتماعي، وهي عوالم موازية تتأرجح بحسب استخدام المستخدمين بين الواقع والخيال، ودرجة المزج بينهما والقدرة على العودة من الخيال إلى الواقع أو العكس.
“أغلفة موازية” يسهم في كشف حقيقة العوالم الموازية وقوتها وقدرتها على فرض ترنداتها ونشر أفكارها في العالم الكلاسيكي المعترف به، سواء فهم سكانه ما يرِد إليهم من العوالم الموازية أو قبلوه أو استساغوه أو لم يفعلوا. وتبقى السخرية شكلاً فريداً من أشكال المعارضة السياسية والتنفيس عن الآلام والضغوط، وكذلك البقاء على قيد الحياة ولو عبر غلاف موازٍ.
#أغلفة #موازية #تدفع #الثقافة #والشباب #إلى #السخرية
تابعوا Tunisactus على Google News