أكاديميون يقتفون أثر ابن بطوطة.. “مواطن عالَمي مفترٍ ومفترى عليه”
مساءلة لرحلة ابن بطوطة شهدتها جامعة نيو- إنغلاند بطنجة، على مدار يومَي الجمعة والسبت، حضرها أكاديميون اهتموا بمجموعة من إشارات “الرحلة”، ودلالاتها، والنقاش حول صحة وقوع مقاطع مما أوردته.
نظمت هذه الندوة بشراكة جمعت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ومجلة “رباط الكتب”، وجماعة طنجة، وجامعة نيو- إنغلاند الأمريكية، وهي، أيضا، احتفاء بترجمة كتاب “مغامرات ابن بطوطة.. الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي”، الذي ألفه الأكاديمي الأمريكي روس دان، وترجمه الأكاديمي المغربي أحمد بوحسن، الذي ظفرت ترجمته بجائزة المغرب للكتاب في أحدث دوراتها.
واعتذر مؤلف الكتاب عن الحضور بسبب صعوبات صحية.
ابن بطوطة.. ما الجديد؟
المؤرخ عبد الأحد السبتي قال في افتتاح اللقاء إن جواب سؤال: “لماذا ابن بطوطة من جديد؟” هو أن أمّهات الكتب، أو “الكلاسيكيات”، لا تنتهي، عادة، مساءلتها؛ و”كل من ساهم بقراءة جديدة، يطرح جانبا جديدا”.
وذكر السبتي أن روس دان يعتبر ابن بطوطة “رحالة عالميا، يساعد على فهم التاريخ العالَمي، وخاصة العالَم في القرن 14 الميلادي”.
وفي أولى جلسات الندوة، تحدث مترجم العمل أحمد بوحسن عن “صداقة” المترجَم مع ابن بطوطة منذ سنة 1963، في سياق تعلمه اللغة العربية، قبل أن يهتم بـ”مقاومة المغاربة، في الجنوب الشرقي، للغزو الفرنسي”، عمله الذي سيقوده إلى محاورة فلاحي المنطقة، بمساعدة دليل ومترجم مغربي لم تنقطع علاقته به حتى رحل.
وتابع بوحسن شارحا كون توطدِ علاقة دان بابن بطوطة كان مرتبطا باطلاعه على حقل معرفي جديد سمي في وقت لاحق بـ”التاريخ العالَمي المقارَن”، في وقت كان يدرّس فيه تاريخ إفريقيا، ليتأثر برؤية لـ”الفضاء الأفروأوراسي” لاحقا (إفريقيا- أوروبا- آسيا)، تعتبره فضاء واحدا للتفاعل المشترك.
ومع دخول ابن بطوطة إلى الصورة، اهتم الباحث بالإسلام كظاهرة اجتماعية وثقافية في نصف العالَم، ورأى في الرحلة مصدرا مرجعيا لوصفه، ليعمل بعد ذلك على عرض قصة هذا الرحالة، الذي كان “محبا لروح التسامح والفضول في عالَم ابتُلي بغير ذلك”، ومساره، في ظل التغيرات السريعة للقرن 14 الميلادي، الذي عرف سيطرة المغول، وانتشار الطاعون الأسود الذي قتل أمه.
ومع الزيادة المستمرة للسمعة العالمية لابن بطوطة، الذي يصفه البعض في الضفة الأخرى من المتوسط بـ”ماركو بولو الإسلام”، فإن الأكاديمي الأمريكي، وفق بوحسن، يتطلع إلى اليوم الذي يعتبر فيه ماركو بولو “ابن بطوطة أوروبا”.
الرحلة.. مغربٌ غير منعزل
تحدث الأكاديمي لطفي بوشنتوف عن إعادة المنطقة اكتشاف ابن بطوطة عبر الباحثين الغربيين في القرن 19، وتقديم روس دان سردية جديدة للرحلة، هي تأويله الخاص، وتخييل لقصة حياة ابن بطوطة، وذكر أن هذا الباحث الأمريكي ينتمي إلى مدرسة “تنتقد موضعة الغرب في قلب العالم”، ومن يكتبون “تاريخ عالمهم الصغير، وهم يظنون أنهم يكتبون تاريخ العالم (…) ويتحدثون عن مناطقَ مجهولة، بينما الجاهل هو الغرب الذي لم يكن يعرفها، أما تلك المناطق فكانت تعيش حياة عادية”.
وتطرق الأكاديمي إلى “الأجزاء الصغيرة المصطنعة” في رحلة ابن بطوطة بالنسبة إلى دان، التي هي بالنسبة للمتدخل “كبيرة”. وتابع قائلا: لم يورد ابن بطوطة ما شاهده فقط، وأعيدت صياغة مشاهد الحج والحجاز من رحلة ابن جبير، ومشاهد بلاد الشام وفلسطين من الرحالة محمد العبدري في القرن 13 الميلادي. ثم زاد “إذا ما أزلناهما، ماذا تبقى؟ فما أورده عن الغرب الإسلامي ضحل، ويبقى مركز قوة “الرحلة” الإسلام الآسيوي”.
واستعاد المتدخل رؤية معاصري ابن بطوطة له، حيث كان يوصف بكونه “مجرد كذّاب”، إلا من طرف ابن خلدون الذي “لم يدافع عنه”، بل كان له موقف منهجي، وقدم دليلا هو “لا تنكروا ما لم تشاهدوه”.
واعتبر الباحث “الرحلة” دليلا على أن “المغرب لم يكن منعزلا”؛ حيث وجد ابن بطوطة “مغاربة في الصين، ومغاربة جوالين تجارا وفقهاء (…) كما يتحدث عن السبتي في الصين وابن عمومة له التقاه في بلاد السودان”.
ونفى بوشنتوف أن يكون ابن بطوطة فقيها أو صوفيا، كما ذكر أن المناطق التي تولى فيها القضاء “كانت لا تتقن العربية”، مع كثرة زيجاته، وجواريه، ومتاعه، بل غلمانه، وقبوله عطايا الحكام ولو كانوا ظالمين، في حين أنه “خرج من المغرب زاهدا”.
وحاول المتحدث تتبع نقطة تحول ابن بطوطة إلى زيارة سلاجقة الروم بعد حجته الثانية، ولما كان على وشك الذهاب إلى شبه الجزيرة الهندية مع السلاطين المغول.
ومن بين ما تظهره هذه الرحلة، حسَب المتحدث، أن “الإسلام يتلون بألوان شعوب شتى، ويدمج مجالات جديدة”.
كما أنها تقدم صورة عالَم إسلامي مترابط لا حدود بينه، ويعرف استقرارا، كانت تعتمد فيه رحلات الرحالة على شبكة الزوايا والقضاة والصوفية والعلماء، حيث كان ولاء شبكات التجار والفقهاء للمدن لا للحكام الوقتيين الزائلين؛ وهو ما يميل روس دان إلى اعتباره “ما حافظ على هذا المجتمع في ظل الاضطرابات”.
بين ابن بطوطة المفتري والمفترى عليه
عاد سعيد بنسعيد العلوي، أكاديمي وروائي، ثلاثين سنة إلى الوراء، متذكرا ندوة عن ابن بطوطة بطنجة، تدخل فيها إلى جانب روس دان، قائلا إنه اليوم يتحدث من منطلق آخر، عن الرواية، روايته “سبع ليال وثمانية أيام”، التي حضر فيها ابن بطوطة.
وسجل بنسعيد العلوي أن السارد في “رحلة ابن بطوطة” غيرُ المُؤَلِّف، فابن بطوطة الطنجيّ مُملي الرحلة، وابن جُزي الغرناطي مؤلفها.
وحمل مسؤولية عدد مما يؤاخذ على “الرحلة” إلى ابن جزي؛ فهو “السارد الآخر”، ومع طول الرحلة قد يكون ابن بطوطة عجز عن التذكر، فاستعان المؤلف بأوصاف رحلات أخرى ووظفها أدبيا، وقد يكون أضاف مقاطع دون علم ابن بطوطة، كما لم يستبعد تدخل ساردين آخرين بعد ذلك عند نسخ “الرحلة”.
ومع تنبيهه على ضرورة التفريق بين صورتين: “صورة ابن بطوطة المفتري وابن بطوطة المفترى عليه”، قال بنسعيد العلوي: “ابن بطوطة المفتري يعجبني كروائي، أحبه”، لكن المفترين عليه كثر وأولهم السلطان “أبو عنان المريني، الذي اهتم بالإمتاع وما يمليه ابن بطوطة، أكثر من اهتمامه بابن بطوطة نفسه”.
كما تحدث المتدخل عن الأشكال المتعددة للعشق عند ابن بطوطة؛ فمن عشق السفر إلى النساء، والمال، والمغامرة، دون أن تخلو حياته من الابتلاء بالحب؛ حب “عاشورة” التي تعلق بها وحزن لموتها، هو الذي لم يكن يحزن لموت أبنائه.
وتخيل بنسعيد العلوي، في روايته، حسرة ابن بطوطة لإسلام لا يعرفه، إذا ما عاد ليكتشف إسلام كره الديانات السماوية، وإسلام التفجير والتقتيل والترويع.
ابن بطوطة والمسافة بين “الإسلام” و”الشريعة”
الأكاديمي عبده فيلالي أنصاري اهتم برحلة ابن بطوطة من منظور مختلف، كنافذة على “العالَم القديم”، تقدم مثالا على أن الأسلمة، في المناطق الإسلامية عالَميا، جرت “على مراحل”.
واستحضر المتدخل، عن بعد، تراكمات البحث في كيف تغير الجماهير دينها، خاصة لدى ريتشارد بوليت؛ الذي تساءل عن “لغز انتقال جماهير إلى الإسلام دون معرفة بالعربية، ودون إلمام بالعقائد”.
وذكر أنصاري أن هذه الأسلمة بدأت بـ”دخول أصحاب السلطة في نوع من الحلف مع الجيوش المسلمة أو القادة العسكريين، وتقديم أنفسهم على أنهم تحت سلطتهم وعلى أنهم مسلمون دونَ تغيير في معتقداتهم، ثم تأتي مرحلة السفر إلى الحج مثلا، قبل أن يأتي آخرون من بقع أخرى من العالم، مثل ابن بطوطة، مشيرين إلى ما يخالف الإسلام في نظرهم”.
وقدم أنصاري مثالا بما شاهده ابن بطوطة لمّا كان قاضيا على إحدى جزر المالديف ووجد نساء لا يغطين صدورهن، فأنكر ذلك، وأمر بألا تدخل النساء إليه إلا بصدور مغطاة. وعلق المتدخل قائلا: “يكون الإسلام، بداية، بشكل عفوي دون انتباه إلى نتائج ذلك”.
وذكّر المتدخل بأن الدولة لم تكن بالمعنى الحديث، ولم تكن هناك مؤسسات، بل كانت “سلطة مركزية تؤخذ بقوة السلاح، وكانت العلاقة مع الساكنة تنبني على بيعة شخصية، وطُوّرت الشريعة، بوصفها منظومة قانونية شاملة، في وقت لم يكن فيه ممكنا تصور فكرة الديمقراطية”، لكن عبر التاريخ “حدث تقديس لها، وكأنها والإسلام واحد”، ولو أنها بناء لاحق، وما يذكره ابن بطوطة في الرحلة “شاهد على ذلك”.
كيف سافر المسلمون في القرن 14؟
الأستاذ الجامعي حميد تيتاو اعتبر الرحلة أحد أفضل مصادر مقاربة “السفر” في القرن الرابع عشر، وقال إن أبرز أسباب السفرة، بالمنطقة الإسلامية، في هذه المرحلة كانت الحج والتجارة.
وتكشف الرحلة، وفق تيتاو، تنوع المسافرين بين الحجاج المسيحيين نحو بيت المقدس، والحجاج اليهود للسبب نفسه، والمسلمين الحاجين إلى بيت المقدس ومكة والمدينة، إضافة إلى الحج نحو مزارات الأولياء والأضرحة.
هذه الأصناف المتعددة “نصادف مدنا تلتقي فيها”، كما يذكر تيتاو، الذي يضيف أن أكثر الفئات تنقلا في “العالم الإسلامي” كان العلماء وطلبة العلم؛ وهي “حركة بشكل مدهش”، وفق روس دان، ثم قدم المتدخل مثالا بما ذكره ابن بطوطة من لقائه بطالب علم من غرناطة بدمشق، ولقائه به مجددا في الهند.
وتطرق تيتاو إلى غياب النساء في السفر، باستثناء نساء البلاط الذاهبات للحج، وحديث ابن بطوطة عن عجوز مسافرة من بغداد توفيت في الطريق ودفنت في الصحراء، وأميرة تنقل إلى القسطنطينية إلى عائلتها.
ومن بين ما تحدث عنه الباحث فئة المسافرين رغما عنهم، من عبيد وإماء وجوارٍ والمسافرين مع الأمير والسلطان، كما سجل أن النساء آنذاك “لا يتخذن غالبا قرار السفر”.
ومع هذه الحركية وطول الطريق ومشاقها يرى تيتاو إمكان الحديث عن “مجتمع السفر”، الذي هو “مجتمع متنقل، نجد فيه الزواج والطلاق والولادة، مثلما حدث مع ابن بطوطة الذي ولدت له جارية في الطريق، مع وجود نزاعات إنسانية، وموت ودفن.
“الرحلة” ليست مصدرا لتأريخ الأفكار والعلوم الإسلامية
فؤاد بن أحمد، أستاذ الفلسفة بدار الحديث الحسنية، نفى إمكان التأصيل لدعوى الانحطاط في القرن الرابع العشر الميلادي انطلاقا من “الرحلة”، التي لم يرد فيها حديث عن فلسفة أو “كلامٍ” أو علم، ولم يرد فيها إلا ذكر بعض المتكلّمين، مع ورود أسماء كتب لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، باستثناء القرآن والسُّنة.
ونبه ابن أحمد إلى أن إجازات ابن بطوطة كانت في الرواية، أي الحديث، وكانت له مشاركة يسيرة في طلب العلم، و”لم يكن بوسع نظاراته رصد الدينامية الحاصلة المفترضة”.
ويرى الأكاديمي أن كتاب روس دان لما صدر كان مقصده تقريب “الرحلة” من الجمهور العريض غير المختصّ، فكان عليه “أن يمهّد لبعض محطاتها تمهيدا يساعد على موضعة المغامرات والرحلات”، لكن “هناك هوّة بين صورة العالَم الإسلامي عند دان، وصورته عند ابن بطوطة؛ بل إنه يُنقذ ظاهرة ابن بطوطة الذي يعكس في رحلته حالة جمود تام، ولو أنه قد كان له إمكان الوصول إلى الحُكّام والوزراء والولوج إلى مناطق العالم الإسلامي (…) ومؤرخ الأفكار يكاد لا يجد شيئا في الرحلة”.
ولا يرى ابن أحمد أن هذا يعكس حقيقة العالَم الإسلامي، بل إن الرحلة لا تتضمن دليلا على ادعاء أن “ابن بطوطة ملمّ بأدنى علوم زمانه، باستثناء علوم الرواية والسماع (الحديث)، فلا علم كلام، ولا أصول فقه، فضلا عن أخطاء كارثية في أحكامه كقاضٍ”.
وقدم المتدخل أمثلة برحلة ابن رشيد السبتي، التي تتضمن أسماء أزيد من 400 عالم، ورحلات عبد الله الآبلي، كما قدم مثالا بعدم إيراد شيء عما دار بين صاحب الرحلة وابن تيمية، ولا إيراده كلمة عن تلمسان التي زارها لما كانت عاصمة علمية، وذكرياته القليلة عن تونس التي كان بها ازدهار، وكانت أول بلد تلقى مدرسة المتأخرين في علم الكلام بإفريقيا، مدرسة فخر الدين الرازي.
هل التقى “المواطن العالمي” ابن تيمية فعلا؟
أشارت الباحثة مليكة معطاوي العربي، في مداخلتها، إلى مفهوم “الإنسان الكوني”، الذي اقتبسه روس دان من سابقيه عند حديثه عن ابن بطوطة.
فيما اهتمت مداخلة عبد الواحد بنعضرا، باحث في التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – عين الشق بالدار البيضاء، باللقاء الذي تحدث عنه ابن بطوطة في “الرحلة” مع ابن تيمية، والذي لا يزال موضع جدل إلى اليوم، ويقول الرحالة في مطلعه: “وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية، كبير الشام، يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئا”.
ومع سرده حجج القائلين باستحالة اللقاء، والمدافعين عن وقوعه، يبتعد الباحث عن السجال قائلا إن ابن بطوطة لم يكن مبدع النص وحده، بل ابن جزي أيضا، ولهذا يمكن أن يتضمن النص صفحات فيها دعاية للمرينيين، ولتصوف المالكية، والاهتمام بالأولياء، ولم ينف احتمال تأثير ظروف التدوين، الحاصل بأمر من السلطان، على هذا العمل.
ويرى الباحث أن أهمية نص ابن بطوطة تتجاوز حدوث اللقاء من عدمه، لتعبر عن صراع متعدد الأبعاد اختلط فيه السياسي بالديني، وفيه الدعاية المرينية، وتخوفات المرينيين، التي لم تكن بعيدة عن الواقع بالنظر إلى المحصلة التاريخية.
#أكاديميون #يقتفون #أثر #ابن #بطوطة. #مواطن #عالمي #مفتر #ومفترى #عليه
تابعوا Tunisactus على Google News