- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

ألا نُسمّي أداء الممثلين “لعباً”؟

طبعت السينما وكرة القدم مخيال الشعوب المغاربية وأساليب فرجتها، باعتبارهما ممارستين حداثيتين وطقسين يعكسان وجهاً من السلوك المدني، الذي وَطّنه الاستعمار في هذه البلدان، لتصبح رافداً مهماً من هويتها الحديثة، وإرثها الحضاري المتميّز بعادات أخرى، كفرجة “الحلقة” (حلقة العروض والحكايات الشعبية) في الميادين والأسواق، وحلبات المصارعة على هامش المواسم.
شَكّل الذهاب إلى صالات السينما، بدءاً من أواسط القرن الماضي، عماد البرنامج الترفيهي للمغاربيين، خصوصاً في النصف الثاني من الأسبوع، ليبلغ الذروة في سهرة ليلة الأحد، حين تضيق الصالات بالجماهير، المُقبلة جماعات وأزواجاً وأفراداً، على مشاهدة الأفلام، لتتسلّم فرجة كرة القدم المشاهد منذ ظهيرة الأحد، حيث تقصد كلّ فئات المجتمع الملاعب لمشاهدة مباريات الفرق المحلية والمنتخبات. وتمتدّ نقاشات كرة القدم، وسجالاتها التي لا تنتهي، إلى الأيام الأولى من الأسبوع التالي، في نواصي الأحياء، وحجرات المكاتب، ودكاكين الأسواق.
لكنّ ثورة البثّ التلفزيوني الأرضي، ثمّ عبر الـ”ساتِل”، أودت بقدسية الفرجة في صالات السينما والملاعب، مُطيحة بنسب الإقبال على الأولى، ومُتسبّبة في تغيير جذري في نوع الجمهور وطقوس المُشاهدة في الثانية (هيمنة الشباب، وتنامي التعصّب، وظاهرة الـ”إلترات” والشغب)، وأضحت الفرجة السينمائية والكروية طقساً منزلياً في المقام الأول، خصوصاً مع تفشّي عادة مُشاهدة المباريات في المقاهي، مع ازدهار عروض القنوات المشفّرة للدوريات الكبرى والتظاهرات الرياضية، بالتوازي تقريباً مع نجاح عروض “الفيديو تحت الطّلب” للأفلام السينمائية.
توازٍ لا يُمثّل نقطة الالتقاء الوحيدة بين هذين الفنّين. فكلاهما يستمدّ روحه ومعناه من الفرجة الجماعية، رغم أنّ كرة القدم ترنو أكثر من السينما إلى صنف الفنون الحيّة، وكلاهما يعتمدان -في أحسن حالاتهما- على خلق مزيج من الأحاسيس في نفوس المتفرّجين: البهجة والفرح، الترقّب والتشويق، الخوف والفزع، وحتّى دموع النشوة أو الأسى. يرتكز كلاهما كذلك على المال، باعتبار جانبهما “الصناعي” والتسويقي، الذي يخلق أيضاً من أبرع المؤدّين فيهما، ممثّلين أو لاعبين، نجوماً تتقفّاها عدسات وكاميرات الإعلام، وتؤلّهها الجماهير.
ألا نُسمّي أداء الممثلين “لعباً”؟ أليس في داخل كلّ لاعب كرة قدم جيّد مُمثل بارع؟ العرض الذي كان يخلقه دييغو مارادونا وإريك كانتونا، بمناسبة لقاءاتهما الصحافية، ومرور الأخير إلى احتراف التمثيل في السينما، أبرز أدلّة على ذلك. لا ننسى أنّ كليهما أسالا لُعاب السياسيين الساعين إلى استغلال شعبيّتهما الجارفة، للتّحكم في الحشود، والتأثير فيها، بصرفها عن الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وحتّى توظيفهما لخدمة أهداف السلطة. “الخبز والسيرك” يقول جوفينال مُنتقداً السياسة التي كانت تنتهجها حكومات روما العتيقة، لإلهاء الشعب عن الانشغال بالأمور العامة، بمباريات القتال بين المصارعين في مدرج “كولوسيوم”، أحد المسارح المؤسِّسة لمفهوم الفرجة في الحضارات الغربية.
لكنّ الكرة والسينما شكّلا، من جهة أخرى، لحسن الحظ، أداة قوية في أيدي مبدعين، جعلوا منهما وسيلة مقاومة وتأثير مهمّة لخلق الوعي في أوساط الجماهير بقضايا أساسية، كالانعتاق من الاستعمار، والتّحرّر من قيود التحكّم والاستبداد.
يناوب التونسي سامي التليلي، في وثائقيه “عالْبار” (“على العارضة”، 2019)، بين نبرتين مفارقتين، للقبض على تعقيد إرث سبعينيات القرن الـ20: نبرة حميمية، ينقلها بصوت تعليقه، حول ذكريات طفولته عن وفاة بورقيبة، وعلاقته بكرة القدم، وكيف عاش تمثّلات مسار المنتخب التونسي في “مونديال الأرجنتين 1978″، بنجاحاته وحسراته، لكونه من الجيل الذي لم يعشه مباشرة. كان يظنّ، في طفولته، أنّ تونس فازت بكأس العالم، من فرط الطابع الأسطوري للذاكرة المتكوّنة حول هذا الحدث. يتخلّل ذلك حوارات مع الصحافي الرياضي محمد الكيلاني، واللاعب السابق خالد القاسمي. النبرة الأخرى تطبعها الجدّية والخطورة، لالتقاط أجواء الاضطرابات السياسية التي جعلت عقد السبعينيات نقطة انعطاف محورية، في عصر تونس الحديثة، بالانتقال من عهد التوازنات الصعبة بين معسكر الحزب الدستوري الحاكم (الجناح الليبرالي)، ومعسكر “نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل” (الجناح الاشتراكي)، إلى الصدام والمواجهة المباشرة، التي أفضت إلى أحداث الخميس الأسود (26 يناير/كانون الثاني 1978)، حين وقعت اضطرابات بين المتظاهرين المستجيبين لدعوة الإضراب العام، التي أطلقها الحبيب عاشور، زعيم الاتحاد، ردّاً على تضييق الحزب الحاكم وسياساته الموغلة في الليبرالية، فقامت قوات الأمن، بأمر من السلطة، بإطلاق النار على الحشود، مودية بحياة العشرات، ومُسقطة مئات الجرحى.
أحداثٌ وزخمٌ سياسي وظّف التليلي لاستدعائهما أرشيفاً تاريخياً غنياً، وحوارات مع شخصيات مؤثّرة، كوزير الداخلية السابق الطاهر بالخوجة، والمعتقل السياسي السابق فتحي بالحاج، والصحافية سهير بلحسن. الرابط بين المقاربتين، الحميمية والجدّية، كامن في الحوار المحوري -رغم قصره- الذي أجراه المخرج مع والدته نعيمة مفتاح (نتذكّر “مباراة العودة” (2014)، للروماني كورنيليو بورومبويو، المتكوّن من حوار بين المخرج ووالده، حكم الساحة السابق، على خلفية مباراة ديربي، حكّمها بين فريقي بوخارست، وناقشا من خلالها ذكريات العائلة، وصراع جناحي العسكر والشرطة على السلطة، في عهد تشاوتشيسكو)، التي كانت مُدرِّسة مُنتمية إلى نقابة الاتحاد، لأنّه وضع قسماً منه في افتتاح الفيلم، وقسماً آخر في خاتمته.

تحكي نعيمة مفتاح كيف أنّ قلبها لم يطاوعها لمُشاهدة مباريات المنتخب التونسي في الأرجنتين، صيف 1978، بسبب حدادها على ضحايا الخميس الأسود، وحسرتها على تفكيك الاتحاد، واقتياد عدد كبير من قياديّيه وكوادره إلى السجون.

في ختام الفيلم، يعرض عليها ابنها المخرج لقطاتٍ، تشاهدها للمرّة الأولى من المباراة الحاسمة بين تونس وبولندا، وانتهت بفوز الأخيرة بهدف من دون ردّ، مُركّزاً على اللقطة الشهيرة، حين ارتطمت تسديدة المهاجم تميم الحزامي بالعارضة (مغزى العنوان)، وكانت كافية، لو سُجّلت، لانتقال المنتخب التونسي إلى الدور الثاني، مُتسائلاً: “ماذا كان سيحصل لو دخلت تسديدة تميم المرمى؟”. تُعلِّق الأمّ، بعفوية ساخرة، وبجملة رائعة تمزج الجدّ بالهزل، وتقول كلّ شيء عن الترابط المُعقّد بين الكرة والسياسة: “كنّا سنتمتّع بديمقراطية كاملة منذ ذلك الحين”.
من المواد الأرشيفية، التي اعتمد عليها سامي التليلي، هناك فيلمٌ يُعدّ من أرفع ما أُنجز حول كرة القدم، والرياضة عامة، في السينمات العربية: “كرة وأحلام” (1978)، لمحمد علي العقبي. فيلمٌ وثائقيّ، مع عناصر تخييلية (من توضيب مُفيدة التلاتلي، ومساهمة توفيق الجبالي في كتابة السيناريو)، يركّز على لحظات عيش مُدرّب المنتخب التونسي، عبد المجيد الشتالي، مع أسرته، التي تخفي توتّره وتركيزه على اللقاء الحاسم ضدّ المنتخب المصري، في نهاية مشوار طويل من التصفيات الأفريقية المؤهّلة لمونديال الأرجنتين 1978، قبل أن يقتفي الفيلم، في متواليات مشهدية، انتقال أبرز لاعبي المنتخب إلى مركز التدريب، لخوض تربّص إعدادي للمباراة.
هناك مَشاهد رائعة يتضمّنها القسم الأول، منها لقطات صامتة لهواجس اللاعبين، تجسّد مخاوفهم ليلة المباراة. ومشهد الراعي، الذي يتابع خفية إحماءاتهم، ويردّد أسماءهم، الواحد تلو الآخر، عند مرورهم بالقرب منه، بالموازاة مع تعليق جميل، يُبرز دور البادية الحاسم في إمداد الفرق بالمواهب الكروية: “القرية تمدّ الكرة بالمادة الخام، والمدينة بالتشجيع”. تشجيعٌ يمثّله مراهقان من حي شعبي، تتتبّع الكاميرا شغفهما بالمنتخب، عبر حديثهما عن أجواء المباراة، وتشكيلة المنتخب، والسيناريوهات المحتملة.

من أبرز نجاحات الفيلم توفّقه في نقل الأجواء الحماسية والاحتفالية، المُرافقة لمواجهة مصر، في لقطات رائعة للمدرّجات، تؤطّر لوحات جماعية للفرحة العارمة، التي استبدّت بالحشود، مع توالي الأهداف الأربع التي سجّلها المنتخب التونسي؛ وتخطف، في لقطات أخرى مُقرّبة، وجوهاً من الجمهور الحاضر، تظهر ولع الكادحين والطبقات البورجوازية، على حدّ سواء، بالكرة، وردّات فعلهم المتجاوبة مع الحركات التقنية للاعبين، أو المتحسّرة على ضياع الفرص. وثيقة لا تُقدّر بثمن، عن أجواء فريدة، كان الملعب يتحوّل فيها إلى فضاء ديمقراطي يضجّ بالعزف والرقص والغناء، حيث يسود تعايش وتسامح بين مختلف طوائف المجتمع، وتختفي فيه فوارق الطبقات والمستوى المعيشي والعرق، وحتى الجنسية (لقطات تفاعل الجمهور المصري مع هدف تذليل الفارق، بروح رياضية، رغم يقينه بالهزيمة).
يوثّق “كرة وأحلام”، في قسمه الثاني، رحلة المنتخب التونسي إلى الأرجنتين، من دون أنْ يغفل التركيز على سياق الدورة، المتمثّل في أجواء الاحتجاج والمقاطعة، التي رافقت الدورة، بسبب ممارسات نظام فيديلا العسكري السادية (عملية كوندور) ضد المعارضين الأرجنتينيين، مُستبطناً الشعور المختلط للاعبين، بين الحماسة لتقديم أفضل ما عندهم، والرهبة من المجهول. وهذا بفضل التعليق على خلفية تجوّل اللاعبين في شوارع بوينس آيرس، ثمّ تمارينهم الاستعدادية، وأجوبة الشتالي اللافتة باقتضابها الجامع على أسئلة الصحافيين، مع جواهر تفصيلية يصعب تخيّلها اليوم، كامتعاض أحد الصحافيين من التسامح مع تدخين بعض اللاعبين، رغم تأثير ذلك على عطائهم البدني. رُمّم الفيلم مؤخّراً، بدعم من وزارة الثقافة التونسية والسفارة الأرجنتينية، ويُرتقب عرضه في نسخة رقمية، أكثر نضارة وإشراقاً، بمناسبة “كأس العالم ـ قطر 2022”.

السينما الجزائرية: كوميديا اجتماعية حول الهوية والحرية

تظهر جلّياً زاوية الكوميديا الاجتماعية، في تناول امتزاج كرة القدم بأسئلة الهوية والحرية والعيش الكريم، في فيلمين جزائريين اثنين تحديداً: “تيمغاد” (2016) لفبريس بنشاويش، و”بور بلان روج” (2006) لمحمود الزموري (بور: لقب يُطلق على المولود في فرنسا لوالدين مغاربيين). يتناول الأخير، في فيلمه الطويل السادس، بنبرة ساخرة وهجائية، مواضيع شكّلت قلب اهتمامه وطرح مشروعه السينمائي، كتناقضات نظام التجمع العائلي للمهاجرين الجزائريين في فرنسا، وأزمة الاندماج، وانقسام الهوية، التي يعيشها الشباب هناك، بالإضافة إلى شبح التطرّف الديني، المخيم على المجتمع الجزائري. وسيلته هنا، لتحفيز المفارقات وشحذ المواقف الكوميدية، موشور مقابلة ودّية تاريخية، تُعتبر أول لقاء بين المنتخبين الجزائري والفرنسي للكبار، جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2001، مع كلّ الحمولة الثقيلة للتاريخ المشترك بين البلدين، وفي السياق المضطرب لما بعد هجمات سبتمبر/أيلول، في ملعب فرنسا في باريس، حيث طغت ألوان المنتخب الجزائري بين 80 ألف متفرّج حاضر، ما دفع تييري هنري إلى التصريح ساخراً بأنّها مقابلة جرت خارج فرنسا.
يحكي الفيلم قصة براهيم (ياسمين بلماضي)، شابٌّ فرنسي من أصل جزائري، يمضي يومه في التسكّع ومغازلة الفتيات، هرباً من أسرة تقليدية، لا تنفكّ تلومه على اختياراته في الحياة (فضاء المنزل)، ومن ضيق الأفق المخصّص للشباب المنحدر من أصول مغاربية، والمنعكس على صديقي براهيم، الممتهنين وظيفتين قاسيتين بأجور زهيدة (فضاء الشارع). يجد الشاب في أجواء اقتراب المباراة ظرفاً مواتياً للتنفيس عن سخطه، من خلال التحمّس لتشجيع المنتخب الجزائري، بإشهار ألوانه على سيارته، وفي ملابسه، وخطابه الميّال إلى التعصّب، ما يؤدي إلى تذمّر محيطه. ينسج السيناريو، ببراعة ونَفَس سردي محكم، خيوط الحبكة بانسياب، ومن دون السقوط في التشتّت، رغم تعدّد الشخصيات الثانوية، حول تنامي التوتّر مع اقتراب ضربة بداية المباراة، بتوازٍ مع متوالية من الانكسارات العائلية والعاطفية، ثمّ الهوياتية، التي تجتاح براهيم، مُلتقطة دور السياسات الفرنسية في التعليم والتشغيل والثقافة، في خلق “غيتوهات”، تُفاقم شعور فقدان الهوية لدى الشباب من أصل مغاربي، لكنها تضع البطل، في نهاية المطاف، أمام الحقيقة العارية، التي مفادها أنّ عدوه الأساسي ليس فرنسا أو العنصرية الناتجة من أصله الجزائري، بل سلوكه السلبي والاتّكالي.
يُعبّر ملعب فرنسا، في بداية المباراة (بفضل مزيج متقنٍ من صُوَر أرشيفية من المباراة الحقيقية، وإعادة تمثيل أجواء الملعب مع الممثّلين)، عن فكرة فضاء التلاحم بين مختلف أطياف المجتمع الفرنسي، بيض وسمر وسود، حيث يجتمع الشاب المتحمّس لبلده الأصلي (رغم أنّه يكاد لا يعلم عنه أي شيء، ولا يحفظ سوى الكلمة الأولى من نشيده الوطني)، والفرنسي العاشق لكرة القدم، والإسلامي المُتشدّد، القادم من الجزائر لمشاهدة المباراة، والعائلة المجتمعة حول الشاشة الصغيرة في المنزل. لكنّ توالي الأهداف المُسجّلة لصالح فرنسا (4 ـ 1) يقود إلى توتّر، ينتهي باجتياح براهيم أرضية الملعب، برفقة مجموعة كبيرة من مشجّعي الجزائر، وتتوقّف المباراة 35 دقيقة قبل انتهاء وقتها الأصلي. يُثير القبض على براهيم، والحكم عليه بغرامة، سخط والدته، التي تصرّ على الذهاب به إلى الجزائر، عقاباً له على فعلته. لكنّ سوء فهم حول تأشيرة الدخول يُحوّل هذه الرحلة إلى زيارة خاطفة، يرى براهيم أثناءها، في مشهد بديع (أورده المخرج بالعرض البطيء)، انعكاساً لصورة جموده وسلبيته في مرآة شُبّان جزائريين، يكادون يردّدون أقواله وحركاته نفسها، وحتّى عادته في الاتّكاء على عمود النور، في ناصية الحيّ.
“بور بلان روج” أحد أجمل تمثّلات كرة القدم في السينما، كاستعارة عن الحياة، حين يتحدّد نجاح شخص من فشله، ورحيله عن موطنه بالتبنّي من بقائه، وتكلّل علاقة حبّ من عدمه (موكب الزفاف في المطار)، وحتّى الموت نفسه، ارتباطاً بمآل مباراة ودّية.
أما “تيمغاد”، فيروي قصة عودة جمال، مُهندس آثار، من فرنسا إلى بلده الأم الجزائر. قرية “تيمغاد” ذات الآثار الرومانية العريقة بالتحديد، حيث يجد نفسه، بضغط من المختار مُدرّس القرية ذي الأهواء اللائكية، مُرغماً على شغل منصب مدرّب لفريق “يوفنتوس تيمغاد”، المُكوّن من أطفال القرية، المولودين جميعهم في يوم واحدٍ، في خضمّ العشرية السوداء، وفق لفتة عجائبية تفتتح الفيلم. الأطفال ذوو موهبة كروية أكيدة، رغم افتقارهم إلى الدعم والمعدّات الرئيسية من قمصان وأحذية.
تحت غطاء الكوميديا الخفيفة، يطرق بنشاويش، في عمله الأول هذا، تيمات أساسية، كالأخذ بزمام المصير، وتحدّي فتاوى التطرّف الديني، التي تحجر على الهمم والطاقات. رغم ضعف التحكّم، الذي يطبع بعض المشاهد بالبرهانية، ويجعل الحبكة متوقّعة إلى حدّ ما، يتّسم الفيلم بسخاء وصدق، تمتدّ بفضلهما حماسة الأطفال، لتتجاوز واقعهم القاسي، ومعانقة حلمهم الرياضي، ليُعدي المُشاهد، فيأخذه إيقاع الفيلم في سفرٍ، يمزج تراجيديا أبطال المسرح الروماني، الذين يتحدّون شرطهم ويخوضون تحدّيات مصيرية، بخفّة الفيلم الرياضي، المبني على تطوّر المستوى بشكل تدريجي، مع تكوّن الألفة والتفاهم بين أعضاء الفريق، من لاعبين وطاقم فني وإداري. استعارة فنية بليغة عن قدر شعبٍ بأكمله، وأمله في الخروج من سراديب الظلام والخوف، لخوض معركة الحرية والكرامة، مُستعيناً بطاقات أبنائه وإرثه الحضاري المتعدّد والعريق.

السينما المغربية وكرة القدم: بيوغرافيا ممجّدة وأحلامٌ مجهضة

في “انهض يا مغرب” (2006) لنرجس النّجار، حكاية حبّ مزدوجة: الأولى بين لاعب كرة متقاعد يُدعى أحمد الهيشو (حسن الصقلي) وعجوز (راوية) من قارئات الطّالع في “سيدي عبد الرحمان” (جزيرة صغيرة في ساحل الدار البيضاء، بها ضريحٌ تقصده الفتيات لطلب الزواج)؛ والثانية بين عالية، حفيدة الهيشو، وجاد، طفلٌ يعيش في دارٍ للأيتام، ويحلم بأنْ يصبح لاعب كرة مُحترفاً في أفق كأس العالم 2010، وسط حلم الجميع بحصول المغرب على حقّ تنظيم هذه الكأس، عن القارة الأفريقية، بعد أن أخفقت الملفات التي قدّمها لهذا المسعى في مناسبات عدّة، منذ 1994.
يُفتَتح الفيلم بجينيريك مع لقطات أرشيفية مُشوِّشة عن العربي بنمبارك، الملقّب بـ”الجوهرة السوداء”، رغم أنّ الرابط السردي الوحيد معه أنّ الهيشو زميله في فترة احترافه في “أتلتيكو مدريد”، قبل أن تضعنا المخرجة في قلب فضاء الجزيرة، حيث تهيمن الشخصيات النسائية، وتزدهر ممارسات الشعوذة والتطيّر، كناية مُتعسّفة ومُبالغ بها عن تخلّف العقليات ورجعيتها. مُبالغة، كان يمكن تقبّلها لو أنّ النّجار قاربت موضوعها بانزياح فنّي، بفضل الكوميديا مثلاً، أو برؤية إخراجية متفرّدة. لكنّ مشكلة الفيلم أنّه ينتهج الإطناب والحشو (ما يعكسه العنوان المتضخّم) إلى حدّ الإشباع، ليقول فكرة مغرقة في الأطروحية (من موقع إعطاء الدروس)، مفادها: “ينبغي الانكباب على تنظيف العقليات، قبل البحث عن تنظيم الملتقيات الرياضية”، لا تنفكّ المخرجة تصدح بها في الحوار على ألسنة شخصياتها، وتدخل بموجبها هذه الأخيرة في صراع مانوي وفظٍّ مع شخصيات كاريكاتورية لإسلاميين متطرّفين، يكاد يصرخ بها كلّ فوتوغرام من الفيلم، أعلام وشارات وأغانٍ مُقحمة، ونوايا حسنة.
سقوط المخرجة في كلّ أفخاخ النظرة الإكزوتيكية يزيد الطين بلّة. في القسم الأخير، تستعين بلاعبي المنتخب الوطني آنذاك، مثل الحسين خرجة وعبد السلام وادو ووليد الركراكي (مُدرّب المنتخب المغربي في “مونديال قطر 2022”)، لترسم أبعاد ملحمة من دون طعمٍ ولا روحٍ، يتألّق فيها جاد شاباً ورفاقه في أراضي جنوب أفريقيا، التي اختطفت حلم المغرب في تنظيم مونديال 2010. مشاهد متشابهة ونسقية، تعالج فيها ظروف وحيثيات مباراة كرة القدم ككليشيه مطلق، تتوالى فيه الأهداف، وصرخات الجمهور، والابتسامة الساذجة لمراد الزاوي، بينما تتعافى حبيبته عالية (دورٌ أدّته الكاتبة ليلى السليماني في شبابها الأول، قبل أنْ تهاجر إلى فرنسا، حيث توّجت مسارها بالحصول على جائزة “غونكور”) في المستشفى.
العربي بنمبارك محور فيلم مغربي آخر، عالج كرة القدم من باب البيوغرافيا: “العربي، مصير أسطورة كرة القدم” (2011) لإدريس المريني، يتناول حياة لاعب الكرة الأسطوري العربي بنمبارك، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، أواسط القرن الماضي، حيث انتقل من ملاعب أحياء المدينة القديمة في الدار البيضاء، إلى الاحتراف في نادي الاتحاد المغربي، قبل أن يتألّق في “مارسيليا الفرنسي”، وينال لقب “الجوهرة السوداء”، قبل منحه لبيليه، ويُحقّق بعدها صيتاً عالمياً في نادي “أتلتيكو مدريد”، مساهماً في إحرازه لقب البطولة الإسبانية مرّتين (1950 و1951)، مُفتتحاً بذلك مسيرة تألّق اللاعبين العرب والأفارقة في أوروبا، تصلنا بإنجازات محمد صلاح في إنكلترا اليوم. ولولا أنّ اندلاع الحرب العالمية الثانية أوقف مساره، وهو في أوجّ تألّقه، لشارك حتماً في كأس العالم، ولخَطّ صفحات مجد أكثر ترسّخاً في ذاكرة كرة القدم.
يرتكز سرد “العربي” على فترة أسبوع قبل وفاة بطله وحيداً في شقّته في الدار البيضاء (16 سبتمبر/أيلول 1992)، بعد أن طاله النسيان، وغبنه تنكّر الجميع له في آخر حياته، خصوصاً أنّه كان يعاني قلّة ذات اليد، وأنّ طبيعة شخصيته الانطوائية ساهمت في ابتعاده عن الأضواء. لكن الاختيار المحمود، القاضي بتركيز زمن القصة في فترة محدودة، أبطله سريعاً اللجوء إلى “فلاش باك” متكرّر، يعود بالمُشاهد إلى طفولته الصّعبة، ومعارضة عائلته لشغفه بالكرة، الذي يصرفه عن الاهتمام بدراسته، قبل الانتقال إلى حيثيات صعود نجمه في المغرب، ثم الاحتراف في الخارج.
يُلامس الحكي باحتشام نزاعاً داخلياً لبنمبارك، يتعلّق بمعارضة محيطه فكرة لعبه في أندية أنشأها المستعمر الفرنسي، بدل الأندية المغربية، وفيما بعد، استجابته لنداء المنتخب الفرنسي (لعب 17 مباراة بقميصه)، في سياق اشتداد المقاومة ضد الاستعمار، رغم اقتناعه بأنّ ذلك لا ينتقص شيئاً من وطنيته، وشعور انتمائه إلى المغرب. لكنّ السيناريو لم يستثمر هذه المفارقة، ليصل بها إلى مرتبة صراع داخلي، نلمس أثره في وجدان الشخصية الرئيسية، وتفاعلاً يمور فيها، ويؤثّر على اختياراتها، لأنّ الوازع القاضي بأنْ يشمل السرد مسلسل ممارسة احترافية طويلة (دامت زهاء 30 سنة)، وسراب الإحاطة بكلّ شيء، لا يفسح المجال لقول أي شيء عميق، ويفضي في نهاية المطاف إلى طغيان التوضيحية على مقاربة البيوغرافيا.
يُضاف إلى ذلك الاشتغال على الديكور، المفتقر إلى الإقناع، بسبب ضعف الإمكانات (حفلات التوقيع للفرق وتوديعها خصوصاً)، وآفة أغلب الأفلام البيوغرافية المغربية، المتمثّلة في نيّة التكريم، التي تمنع المخرجين من أخذ مسافة من الشخصية الرئيسية، فيرسمونها أحادية لا أبعاد متناقضة لها، ويسقطون في فخّ التمجيد المنافي لرهافة الفنّ، والثنائية الوجدانية الكامنة في قلب تصوّره.
من أجل تلمّس تمثّلات مثيرة للاهتمام لكرة القدم في السينما المغربية، ينبغي طرق أفلامٍ لم تكن فيها هذه الأخيرة التيمة الأساسية، كرائعة نبيل عيوش “يا خيل الله” (2012)، حيث أفادت كرابط اختزال للزمن، وانتقال بين طفولة الشخصيات الباكرة في دور الصفيح، ومراهقتهم ثم شبابهم، وكلازمة ترتكز عليها فكرة أساسية، مفادها ألا شيء تغيّر في عيشهم الضنك، وأنّ كرة القدم متنفّسهم الوحيد، والمنفذ الأوحد لما تبقى من أمل فيهم، لا سيما ياسين، الذي يحلم بأنْ يُصبح يوماً ما حارساً بارعاً ومشهوراً، مثل قدوته ليف ياشين، حارس عرين منتخب الاتحاد السوفييتي السابق.

هناك أيضاً مشاهد دالّة، رغم قصرها، على غرار دخول والد الزيرو المُقعد (محمد مجد)، في فيلم نور الدين لخماري بالعنوان نفسه، “زيرو” (2012)، في حالة هستيرية من الغضب وكيل السباب لأفراد المنتخب الوطني المغربي، قبل أنْ يدفع التلفاز بعصاه، ليتهشّم على الأرض، كناية عن تذمّره من تردّي الوضع العام، واستشراء الفساد. أو لقطة “ضربة في الراس” (2017) التي تمزج السخرية بقتامة النظرة، كعادة هشام العسري، حين يجلس الشرطي (عزيز حطاب) ليأخذ قسطاً من الراحة أمام مباراة مصيرية للمنتخب المغربي، في “مونديال المكسيك 1986”. لكنّ زوجته تقف في مواجهته، وتحول دون مشاهدته المباراة، مُتسبّبة في غضبه وارتكابه المحظور، بعد أنْ حذّرها، قائلاً ما مفاده “ابتعدي من أمامي. ابتعدي من فضلك. دعيني أشاهد المباراة، فهذه أول مرة نحقّق فيها شيئاً ما”. إشارة إلى تغلّب المنتخب المغربي على نظيره البرتغالي بـ3 أهداف مقابل هدف واحد، في غوادالاخارا، وحجزه تذكرة العبور إلى الدور الثاني للمرة الأولى في تاريخ المشاركات العربية والأفريقية.
قصّة أخرى تستحقُّ تقاطعاتها الغنية والمثيرة مع سياسة حكم الحسن الثاني، في فترة الثمانينيات المفصلية في تاريخ المغرب، أنْ تُروى للسينما.

- الإعلانات -

#ألا #نسمي #أداء #الممثلين #لعبا

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد