“أورفيوس” مونتيفردي ولدت من رغبة مبدعها في تلحين كلام الناس
من المؤكد أن ليس ثمة في تاريخ الفنون فناً ولد بكل بساطة من رغبة فنان محدد بأن يبدع بمفرده وفي مبادرة منه، فناً جديداً ينطلق فيه من جملة من فنون أخرى ليصبها جميعاً في إبداع يوحد في ما بينها غير آبه بأن تكون أعماله في هذا المجال نهايتها كما كانت بدايتها، بقدر ما فعل الإيطالي مونتيفردي بالنسبة إلى فن الأوبرا الذي كان أول المبدعين فيه لكنه وبأية حال من الأحوال لن يكون آخرهم.
في مقدورنا بالتأكيد أن نتحدث عن هذا هنا منطلقين مما قاله هو نفسه في خضم النجاح الذي حققته أوبراه الأولى “أورفيوس” التي لم تكن فقط أول أوبرا لحنها، بل أول أوبرا وجدت على الإطلاق في تاريخ الفن وتاريخ الإبداع الإنساني. وما قاله مونتيفردي كان في منتهى البساطة حتى وإن كان الفن الذي يتحدث عنه في منتهى التعقيد. قال مونتيفردي يومها “إن ما ينحو إليه عملاي (آريانا) و(أورفيوس) هو تقديم عمل يتحدث فيه الأشخاص وهم يغنون”.
إشارة أولى
هذه العبارة التي أوردها الموسيقي الإيطالي في رسالة كتبها عام 1616، تعتبر الإشارة الأولى والأكثر دلالة على ولادة هذا الفن الجديد في ذلك الحين، والذي من المدهش أنه سيحمل اسماً غريباً لا يعني في ترجمته من اللاتينية/الإيطالية معنى آخر غير “عمل” منجز بشكل بديع، ليسمى “أوبرا” وبالتحديد فن الأوبرا. ومن هنا تعتبر “آريانا” و”أورفيوس”، اللتان لحنهما مونتيفردي أوائل القرن الـ17، اثنتين من أوليات الأوبرات التي كتبت في تاريخ الموسيقى، من ثم يعتبر كلوديو مونتيفردي أبا الأوبرا من دون منازع، حتى وإن لم يكن هو على مر القرون التالية الاسم الأكبر في عالم هذا الفن الشامل، الذي سيرتبط، أساساً، ببلده إيطاليا وبألمانيا بصورة خاصة، وإن كانت شعوب كثيرة ستعرفه من طريق مبدعين فيها خاضوا غماره، وصولاً إلى القرن الـ20 الذي تفجرت فيه فورة الأوبرا وارتبط هذا الفن بفن السينما، لكن تلك حكاية أخرى.
مجمع الفنون
الحكاية هنا هي تلك التي بدأت، إذاً، مع مونتيفردي، الذي كان قبل ابتكاره الفن الجديد، يكتب كثيراً من المادريغالات، والأوراتوريو، وهي أعمال شبه أوبرالية يكتفى فيها بالتلاوة الموقعة للنصوص، ويغيب عنها البعد المسرحي بشموليته. ومع هذا يمكن القول إن مونتيفردي لم يطلع من العدم، فهو كان شاهد أعمالاً تقترب من الأوبرا، من إنجاز أسلاف له كبار، منهم رينوتشي وجاكوبو بيري وإميليو دي كافالييري، قبل أن يوسع هو الدائرة ويكتب “أورفيوس”. مع هذا العمل “تكلمت الموسيقى أخيراً”، كما يقول المؤرخ الموسيقي إميل فوييرموز “تكلمت لغة مباشرة، مقنعة ومؤثرة” وأصغى الجمهور بذهول. ولعل أجمل ما في هذا العمل الأول هو أن مؤلفه الموسيقي، مونتيفردي، الذي لحنه انطلاقاً من اقتباس حققه أليساندرو ستريدجيو للأسطورة الإغريقية القديمة، مهد فيه للأحداث عبر “مقدمة” (برولوغ) تعلن فيها شخصية تمثل “الموسيقى” (بصوت نصف – سوبرانو) عن موضوع الأوبرا وطرافتها، وكذلك عن “التأثير الهائل الذي تتركه الأصوات في الأرواح البشرية”.
أصوات البشر آلات موسيقية
وهكذا، منذ البداية، حدد مونتيفردي غايته عملياً. وبعد تلك المقدمة تتألف الأوبرا نفسها من ثلاثة فصول – ثم أكثر من ذلك وأحياناً أقل على أية حال – علماً أن غاية ذلك التقسيم كانت وتبقى إيجاد فسحة من الراحة بين الأحداث، التي تروي جميعها بواسطة الغناء البشري الفردي والثنائي والجماعي حكاية تشبه ما يرويه المسرح مع إضافة مميزة تكمن في استخدام الأصوات البشرية هنا استخدامات متعددة، لعل أهمها ما يجعلها تبدو وكأنها آلات موسيقية حقيقية مقابل استخدامها المسرحي وحتى في الأوراتوريو والمادرغال حيث يكون دورها إخبار المستمعين – المشاهدين بما حدث ويحدث وسيمعن في الحدوث خلال الزمن الذي يستغرقه العرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقيناً أن التجديد الرئيس هنا يتمثل في ذلك التكامل العضوي بين أصوات البشر والموسيقى. أما في ما تبقى فإننا نجد أنفسنا وسط عمل يجمع بين العناصر التي يتشكل منها الأوراتوريو – الترتيل الديني في الكنائس عادة لحكاية ومواقف يؤتى بها بخاصة من الأناجيل – وما شابهه من غناء ينتشر في الحانات. مع اهتمام بالعناصر المختلفة من أزياء وديكورات… إلخ. وهي عناصر تتشارك للمرة الأولى تحت وطأة الموسيقى الغامرة كل شيء لتروي جميعاً هنا في الأوبرا الأولى “أورفيوس” عبر كورس من الرعاة يحكون تلك الحكاية التي تبدأ قرب معبد، حيث يروون كيف أن “أورفيوس” نجح في الاستحواذ على فؤاد أوريديس، ويرد على الرعاة هذان قبل أن يتوجهوا جميعاً لشكر الآلهة على سعادتهم، ولكن فيما يكون أورفيوس إثر ذلك غارقاً في ذكريات جزلة، تصل إليه سيلفيا ناقلة خبراً مأسوياً مفاده أن حبيبته أوريديس قضت بلسعة أفعى فيما كانت تقطف الزهور.
يغمر اليأس أورفيوس، الذي يقرر على التو أن يتوجه للبحث عن حبيبته في ملكوت الموت. وهو إثر ذلك يصل إلى ضفاف نهر ستيكس الذي يفصل ملكوت الأحياء عن مملكة الموتى، ومعه صديقه “الأمل” وقيثارته. غير أن حارس مملكة الموتى شارون لا يسمح له بالمرور ويبدي أذنين صماوتين إزاء موسيقاه وتوسلاته. هنا ينجح أورفيوس في إقناع “الآلهة” بجعل شارون ينام، وهكذا يعبر النهر ويتمكن من استعادة حبيبته، شرط ألا يدير وجهه ليراها قبل وصولهما إلى الأرض. يقبل أورفيوس الشرط، لكن وهما في الطريق يلتفت إليها، فتعود أدراجها، عقاباً له، إلى مملكة الموتى. ومن جديد يبكي أورفيوس ويشكو، وتكون النتيجة أن يتدخل أبولون ويصعد به إلى أعالي السماء حيث يمكنه إلى الأبد أن يتأمل وجه محبوبته.
كانت “أورفيوس” أولى الأوبرات، بالمعنى الحرفي والعلمي للكلمة، وهي أسست أيضاً لنوع من استخدام الأساطير اليونانية ذات الدلالات الرمزية في صراع الإنسان مع مصيره والقوى التي تتجاوزه قدرة واتساع أفق. واللافت هنا أن يكون باحثون كثر قد رأوا أن استخدام الأساطير اليونانية في فن الأوبرا إنما أعطى تلك الأساطير بعداً جديداً: أنسنها عبر استخدام موسيقى جديدة تصل إلى عمق وجدان المستمعين. وفي هذا الإطار معروف أن مونتيفردي قد استخدم أساليب وتلاوين موسيقية جديدة، إذ قسم العمل إلى مقطوعات تعزف بالآلات، تتألف من خمسة وسبعة وثمانية أجزاء، وإلى “مونوديات” وأغان ثنائية وثلاثية وخماسية (هنا بواسطة كورالات). وهكذا، عبر هذا الاستخدام، تمكن مونتيفردي من تحقيق حلم كان يداعب الموسيقيين منذ زمن بعيد.
إضافات ابن الطبيب
ولد كلوديو مونتيفردي في كريمونا الإيطالية عام 1567، لأب طبيب، وبدأ حياته الموسيقية منذ طفولته، إذ انضم إلى كورال الكاتدرائية الرئيسة في مدينته. وكان في الـ15 حين كتب أول أعماله الغنائية “أناشيد لثلاثة أصوات”، بعد ذلك خاض غمار “المادريغال” – سلف الأوبرا – وحقق أعمالاً عدة، واشتهر وصار يدعى إلى القصور، وبدأ يكتب أعمالاً دينية ستخلد بعد ذلك. وفي تلك الأثناء انكب على ابتكار فن الأوبرا الذي أجاد فيه، وظل يمارسه حتى رحيله عام 1643، ومن أشهر أوبراته: “آريانا” و”حفل الجاحدين” و”معركة تانكريد وكلورندا” و”تتويج بوباي” و”عودة يوليس إلى الوطن”، إضافة إلى “أورفيوس”، التي افتتح بها فناً سيكون من أجمل الفنون وأشهرها.
كلوديو مونتيفردي (1567 – 1643) (غيتي)
ولعل في وسعنا أن نختتم كلامنا هنا بالإشارة إلى كيف أن تقديم الأوبرات قد تطور خلال نصف ألفية من الزمن ليصل في المئتين من السنين تقريباً وطوال القرن الـ20 بخاصة إلى التمازج مع عديد من الفنون وصولاً إلى السينما والرقص – الذي كان على أية حال جزءاً منه بصورة أو بأخرى منذ البداية – ليتحول إلى واحد من أنجح الفنون جاعلاً أهل المدن الكبرى بخاصة يتابعونها، ميدانياً أو عبر صورتها المتحركة على الشاشات العملاقة كما عبر أجهزة التلفزيون في البيوت، وبفضل تقنيات تسخر جميعاً لخدمتها، فناً شاملاً إنما دون أن يبدو في نهاية الأمر شديد الاختلاف عما أعلن مونتيفردي عن رغبته في أن يجعل منه “مجرد فن يموسق كلام الناس” لا أكثر ولا أقل.
#أورفيوس #مونتيفردي #ولدت #من #رغبة #مبدعها #في #تلحين #كلام #الناس
تابعوا Tunisactus على Google News