أوهام ”المساندة النقدية”… عن ظاهرة ”يسار السلطة” في العالم العربي – رصيف 22
بعد 25 تموز/ يوليو 2021، دخل قطاع من اليسار التونسي في حالة سمّاها “المساندة النقدية” لمسار الرئيس التونسي قيس سعيّد. ودون نقاش المصطلح وما يتضمنه من تناقض بين المساندة والنقد، فإن هذه المساندة تبدو خاليةً من أي نقد، رغم الوتيرة التصاعدية للسلبية في مسار سعيّد منذ احتكاره السلطة، بداية من إخضاع البلاد لحكم المراسيم الفردية ووصولاً إلى إقرار دستور، دون أي عملية تشاركية، يشرع لحكم الفرد، ومروراً بالسيطرة على القضاء وهيئة الانتخابات والأزمة ااإقتصادية المديدة.
هذا الانحياز المغلّف بـ”النقدية” للرئيس من طرف جناح من اليسار أدّى إلى حالة انقسام في صفوفه، تبدو تقليدية ودورية في كل مرة يحدث فيها تغيير على رأس النظام السياسي في تونس منذ عقود، وهي حالة يفترق فيها بين جناحين على أساس الموقف من النظام الحاكم، وتتجلى خلالها بوضوح ظاهرة “يسار السلطة”.
قبل فترة وجيزة، أعلنت مجموعة داخل حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد عدم اعترافها بقيادة الحزب الحالية وتوجهها نحو عقد مؤتمر عام لإفراز قيادة جديدة. هذا الانقسام الجديد كان مداره المركزي الموقف من نظام سعيّد، إذ تمثل هذه المجموعة جناح “المساندة النقدية” فيما تحتفظ قيادة الحزب بمواقف نقدية بوضوح تجاه المسار الذي يسلكه الرئيس التونسي، سياسياً وخاصة اقتصادياً.
كان هذا الانشقاق متوقعاً، لكنه جاء ليؤكد إحدى السمات الرئيسية في تجارب الانقسام داخل اليسار التونسي، وهي دور السلطة سلباً وإيجاباً في حدوث هذه الانقسامات، مع أن هذا الدور ليس ضرورياً أن يكون أمنياً كالاختراقات أو التأثير، وإنما هو دور غير مباشر في تحديد الموقف من السلطة القائمة. والحال ذاتها بالنسبة إلى الخارطة اليسارية العامة في البلاد، فقد اختارت أحزاب يسارية برمّتها الانحياز إلى مشروع سعيّد، مثل حركة تونس إلى الأمام.
الحالة التونسية ليست فريدة في هذا الشأن. تشكل ظاهرة “يسار السلطة” جزءاً مهما من تاريخ اليسار العربي المعاصر. ظهرت أجنحة أو أحزاب يسارية موالية للسلطة أو داعمة لها في أغلب الدول العربية، لا سيما في المجتمعات الشبيهة بالمجتمع التونسي من حيث حركة التطور التاريخي والسياسي، والتي تأسست فيها مبكراً تنظيمات شيوعية ويسارية، خلال فترة الاستعمار الأوروبي، ثم حكمتها أنظمة وريثة لحركات التحرر الوطني من “البرجوازية الصغيرة” كما تسمى في معجم الماركسية العربية.
وأول نماذج هذه الظاهرة أطلّت علينا من مصر، بعد تقارب نظام جمال عبد الناصر من الاتحاد السوفياتي، ومن تجارب البعثيين السوري والعراقي، عبر ما سُمّي بـ”الجبهات الوطنية”، مع أن التجربة السورية كانت وما زالت أكثر تعبيراً ودلالةً.
في ظل ما تحمله من برامج تغييرية جذرية وسعيها بشكل صريح أو ضمني إلى إنهاء التشكيلات السياسية والاجتماعية الحاكمة وإقامة أنظمة بديلة أكثر عدالةً، تبدو دوافع أفراد أو تيارات أو أحزاب من اليسار للانحياز إلى النظام الحاكم أكثر تعقيداً من أن تُفَسَّر بسبب واحد أو على أساس سياسي أو فكري محض.
فهذا الانحياز تدخل في تحقيقه نزعات فردية ومصالح شخصية وسياقات سياسية. وتشكل الانتهازية وتحقيق مصالح الأفراد جزءاً منه لكنها ليست حتمية الوجود بالضرورة.
وإنْ كانت الانتهازية سبباً عميقاً في الكثير من الحالات، إلا أنها تُغطّى عادةً بحزمة من المبررات السياسية والأيديولوجية، ويُصاغ الانحياز في شكل نظري جذاب ومؤثر يحمل من الوجاهة ما يجعله مقنعاً لقطاع كبير من مناضلي هذه الأحزاب.
ولا ينفي تنوع التجارب واختلافها في كل بلد عربي، واختلاف ظروفها وسياقاتها، اشتراك أرضيتها الأيديولوجية في روافد سوفياتية وصينية جعلت من ظاهرة تشكل “يسار السلطة” ممكنةً فكرياً وقدّمت لها المسوغات الأيديولوجية الضرورية لتكون إلى جانب السلطة وفي الوقت نفسه تحافظ على هويتها الماركسية المزعومة.
ساهمت التحليلات السوفياتية لموقع بعض الأنظمة العربية من “الثورة ضد الإمبريالية” في انحياز تنظيمات شيوعية عربية لهذه الأنظمة. فقد سادت خلال ستينيات القرن العشرين سياسة سوفياتية خارجية داعمة لما أصبحت تسميه بـ”الأنظمة الشعبية الثورية” مثل أنظمة عبد الناصر في مصر وهواري بومدين في الجزائر وأنظمة البعث في سوريا والعراق، وأفرزت هذه السياسة الخارجية مقولات نظرية عززت توجه الشيوعيين العرب المنحاز إلى جانب الأنظمة السائدة، أبرزها نظرية “طريق التطور اللارأسمالي”.
تشكل ظاهرة “يسار السلطة” جزءاً مهما من تاريخ اليسار العربي المعاصر، فقد ظهرت أجنحة أو أحزاب يسارية موالية للسلطة أو داعمة لها في أغلب الدول العربية، لا سيما في المجتمعات التي حكمتها أنظمة وريثة لحركات التحرر الوطني بعد الاستقلال
تعطي هذه النظرية للأحزاب الشيوعية المسوغ الأيديولوجي للتوقف عن النضال ضد النظام الحاكم في دول كثيرة، بوصف هذا النظام جزءاً من المعسكر المناهض للإمبريالية، حتى وإنْ لم تتحقق الاشتراكية في دولتها. فهي تقوم على فكرة إمكانية انتقال البلدان التي تتميز بتخلف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية (العديد من المستعمرات السابقة والبلدان شبه المستعمرة) إلى الاشتراكية دون المرور بمرحلة التطور الرأسمالي، من خلال عملية ثورية محددة يتم عبرها خلق الظروف المادية والإنتاجية والاجتماعية الاقتصادية والسياسية للانتقال إلى التنمية الاشتراكية.
لكن هذه العملية الانتقالية لا تتم إلا من خلال بناء جبهة وطنية من القوى الثورية التقدمية، لا تتكون فقط من الأحزاب الشيوعية وقاعدتها الاجتماعية من العمال والفلاحين بل تمتد إلى الشرائح البرجوازية الصغيرة والأحزاب القومية والوطنية، وتقود هذه الجبهة التحولات الاجتماعية المناهضة للإمبريالية والإقطاع، وتضع الأسس لتحوّل الدولة اللاحق نحو الاشتراكية.
هكذا، تقدّم النظرية المذكورة المسوغات الفكرية للانحياز إلى النظام الحاكم. وفي المنطقة العربية، كانت دول مثل سوريا ومصر والعراق والجزائر تُحكم من طرف أنظمة قومية عربية، وليست شيوعية، لكنها تستجيب سوفياتياً لشروط نظرية “طريق التطور اللارأسمالي”.
أدّى هذا التأثير السوفياتي إلى بروز “جبهات وطنية تقدمية” في سوريا (1973) والعراق (1974)، وقبلهما حالة ذوبان كامل للحركة الشيوعية المصرية “حدتو” التي قررت عام 1965 حلّ جميع خلاياها التنظيمية والاندماج داخل تنظيم الاتحاد الاشتراكي الذي أسسه عبد الناصر.
في المعسكر الماركسي الماوي، أي في وسط اليساريين المتأثرين بالتجربة الصينية وأدبياتها، لم يكن الوضع أفضل حالاً. بعد ضعف نفوذ ماو تسي تونغ داخل الحزب الشيوعي الصيني، بسبب تقدّمه في السن، نشر الحزب نظرية “العوالم الثلاث” التي قدّمها نائب رئيس الوزراء دنغ شياوبنغ في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974.
دفعت هذه النظرية التي جاءت خدمةً للسياسة الخارجية للصين قطاعاً من اليسار الماوي العربي إلى تخفيف حدة معارضته للأنظمة السائدة. فهي تقسم العالم إلى ثلاثة معسكرات ذات مصالح متناقضة: المعسكر الأول يضم الولايات المتحدة، أي الإمبريالية الرأسمالية، والا تحاد السوفياتي، أي الإمبريالية الاشتراكية؛ والمعسكر الثاني يضم قوى وسيطة مثل اليابان وفرنسا وكندا؛ والمعسكر الثالث يضم الدول التي كانت مستعمَرة وبينها الصين، ويمثل القوة الرئيسية في النضال ضد الإمبريالية والهيمنة.
استند الصينيون في الواقع إلى فكرة أن الإمبريالية لا يمكن أن تتطور أو تعيش إلا من خلال نهب المستعمرات وأشباه المستعمرات والأمم والشعوب المضطهدة – التي تشكل العالم الثالث.
خلق هذا التقسيم الجديد واقعاً جديداً للنضال في الدول العربية بالنسبة إلى التنظيمات الماوية التي صعد نجمها بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، تحت توصيف “اليسار الجديد”. فقد أصبحت الدول العربية، وفقاً لهذا التقسيم، جزءاً من معسكر الثورة ضد الإمبرالية، وأصبح النضال موجهاً ضد معسكر الهيمنة حصراً. وأدى ذلك إلى خفوت صوت الماويين العرب، لا سيما التنظيمات الأكثر قوة في تونس مثل “الشعلة” وفي الجزائر.
أدت السياسات الخارجية للصين والسوفيات، والمقولات النظرية التي تحججت بها، وما نتج عنها من اندفاع قطاع من اليسار العربي نحو دعم الأنظمة القومية العسكرية السائدة، إلى انشاقات جذرية في صفوف الأحزاب الشيوعية، كما ساهمت بشكل أكبر في السيطرة على هذه الأحزاب عبر استيعابها داخل النظام من خلال امتيازات غير متاحة لبقية قوى المعارضة، مثل الترخيص القانوني والجريدة العلنية وهامش تعبير طفيف إلى جانب امتيازات أخرى يمكن أن تأخذ طابعاً مادياً تُمنح حصراً للقيادات.
تتشابه التنظيمات اليسارية العربية بأن أرضيتها الأيديولوجية تشترك في روافد سوفياتية وصينية، مثل “طريق التطور اللارأسمالي” أو “نظرية العوالم الثلاث”، جعلت من ظاهرة تشكل “يسار السلطة” ممكنةً فكرياً وقدّمت لها المسوغات الأيديولوجية الضرورية
شكلت شخصيات مثل خالد بكداش، أمين عام الحزب الشيوعي السوري، ورفعت السعيد، أمين عام حزب التجمع في مصر، رموزاً تاريخية لهذه الظاهرة. في المقابل، تفشت الانشقاقات داخل الحزب السوري منذ نهايات الستينيات وأصبحت أكثر وضوحاً في عام 1972 عندما قاد رياض الترك انشقاقاً قسم الحزب إلى حزبيين: الأول موالٍ للسوفيات ومتحالف مع نظام حافظ الأسد بقيادة خالد بكداش، والثاني حمل اسم “الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)” ورفض نظرية “طريق التطور اللارأسمالي” وكان أكثر جذرية في معارضته للنظام.
أما في العراق، فلم يلبث الحزب الشيوعي طويلاً في الجبهة الوطنية التقدمية، إلى جانب نظام البعث، حتى أعلن العودة إلى معارضته في نهاية السبعينيات، ليعود إلى السرية، رغم ظهور حزب شيوعي عراقي مؤيد لنظام صدام حسين بقيادة يوسف حمدان، تحت عناوين “التصدي للهجمة الإمبريالية”.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والتوجه الصيني نحو الرأسمالية، لم يعد اليسار العربي نصياً في التعامل مع النظريات القديمة، خاصة تلك التي ظهرت في سياقات الصراع خلال الحرب الباردة، مثل “طريق التطور اللارأسمالي” أو “نظرية العوالم الثلاث”، لكنه حافظ على نزعة قوية في “مناهضة الإمبريالية” في ظل تصاعد التدخلات العسكرية الغربية في دول العالم الثالث، لا سيما في المنطقة العربية.
جزء كبير من اليسار العربي فكّ ارتباطه مع النظام الرسمي العربي، لكن جزءاً آخر، مؤثراً وواسعاً، حافظ على هذا الارتباط تحت مسوغات جديدة تدور حول فكرة “المعسكراتية” Campism، أي التمترس داخل معسكر معيّن، مثل “معسكر الممانعة”، وهذا التمترس يجعل هامش النقد ضد النظام ضئيلاً وغير متاح، بسبب التحليل اليساري القائم على “ترتيب التناقضات”، إذ يُجمع طيف واسع من اليساريين العرب على أن تناقضنا الرئيسي هو مع الاستعمار والإمبريالية والعدو الخارجي، ولذلك يردد أن الوقت والمجال ليسا مناسبين لتوجيه النقد للنظام الحاكم، وإنْ وُجّه نقد فإنه يكون خفيفاً وغير جذري، ولا يمكن أن يصل إلى مستوى التساؤل حول شرعية النظام نفسه.
وخلال هذا المسار الطويل من الانحياز للنظام، تحللت قيم اليسار وتحوّل التنظيم إلى مجرد تشكيل يضم فئات ذات مصالح خاصة تجني ريوع مواقفها السياسة المنحازة، ومنقطعة عن أي قاعدة اجتماعية من عمال أو فلاحين أو صغار كسبة.
وهنالك نموذج ثانٍ من “المعسكراتية” هو “معسكر الحداثة والتقدمية” ضد “الإسلام السياسي والرجعية”: يجنح طيف واسع من اليسار في دول عربية تعيش استقطاباً حاداً مع تنظيمات دينية إلى التمترس في معسكر النظام الحاكم في مواجهة هذه التنظيمات، وبذلك يصير أي تحليل لسلوك النظام وسياساته منطلقاً من مسألة مواجهة التيار الديني، وتتحول التنظيمات اليسارية إلى سجينة لدى هذه التنظيمات الدينية تتحكم في مواقفها، من خلال اتخاذ الموقف المضاد لها، حتى وإنْ كانت مواقف النظام مخالفة لتوجهات اليسار الكبرى في الحقوق والحريات. وهذه النماذج تبدو بوضح في تونس والجزائر ومصر وسوريا.
وتحت هذه المسوغات، يمكن أن يتحول اليسار إلى مروّج للخطاب الفاشي والعنف ضد الخصوم وتغليب إرادة الدولة على المجتمع بالقهر. وهذا المسار يؤدي دائماً إلى تحول أحزاب اليسار إلى مجرد أداة متقدمة يستعملها النظام لمواجهة خصومه في التيار الديني، لجهة الثقل الثقافي لليسار، لكنه ما يلبث أن يقضي عليها أو يخرجها من الساحة بعد أن تنتهي وظيفتها.
#أوهام #المساندة #النقدية.. #عن #ظاهرة #يسار #السلطة #في #العالم #العربي #رصيف
تابعوا Tunisactus على Google News