- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

أوهام خريطة التمدد التركي – بوابة الأهرام

فى عام 2009، أى قبل 11 عامًا كاملة نشر مركز ستراتفور للأبحاث الأمريكى، والذى يُنظر إليه كتابع للاستخبارات الأمريكية، كتابًا لجورج فريدمان مؤسس المركز بعنوان الأعوام المائة القادمة، يحتوي على توقعات الباحث حول ما يتصور أنها قابلة للتحقيق فى غضون قرن كامل.

من أبرز ما توقعه آنذاك امتداد النفوذ التركى فى عام 2050 ليشمل عددا كبيرا من الدول؛ عربية وإفريقية وأوروبية وآسيوية تمتد إلى أجزاء من روسيا. ولا يتضمن الكتاب أسبابا مقنعة لهذا التمدد الكبير فى مناطق كانت تابعة للدولة العثمانية قبل مائة عام، كما أنه استثنى كلا من إسرائيل وإيران من الخضوع للنفوذ التركى الافتراضى. الخريطة المتضمنة فى الكتاب لم تثر طوال الفترة الماضية أي ردود أفعال، ومع قيام إحدى القنوات الفضائية التركية الرسمية بنشر الخريطة والاحتفاء بما فيها، بدأت بعض ردود الأفعال فى الظهور، ما بين استنكار وغضب ورفض وإدانة.

ما يجب التوقف عنده هو لماذا نشرت القناة التركية هذه الخريطة فى هذا الوقت تحديدا، والأهم من ذلك هل بالفعل تستطيع تركيا أن تمتد جغرافيا وسياسيا فى كل تلك الدول فى غضون الفترة المتبقية حتى عام 2050، والاكثر أهمية هل ستقبل الدول المستهدفة مثل هذا النفوذ والإلحاق بالدولة التركية الموسعة هكذا بكل بساطة وكأنها تنتظر مثل هذه الهبة الإلهية، وإن قبلت فهل ستظل دولا مستقلة أم ولايات تخضع لحكم المركز فى أنقرة أو اسطنبول.

وبالقطع سيظل هناك تساؤل مهم للغاية، هل ستقبل القوى الكبرى مثل هذا التوسع المثير وتظل مكتوفة الأيدى؟ الثابت أن لدى الرئيس التركى أردوغان أوهاما كبرى فى التوسع الجغرافى وفق ما فعله الأجداد العثمانيون، وفى استعادة ما يعتبره حقوق تركيا الضائعة وفقا لاتفاقية لوزان 1923 التى أنهت الدولة العثمانية وحددت الخريطة الجغرافية لتركيا المعاصرة.

والثابت أيضا أن الرجل كثيرا ما تحدث عن حق بلاده فى التحرر من قيود اتفاقية لوزان، وعن حقه فى التعبير عن السكان من ذوى الأصول التركية، الذين يعيشون فى أكثر من بلد عربى وافريقى واسيوى، وحقه فى تمثيلهم وممارسة نفوذ مباشر عليهم والدفاع عنهم حتى إزاء دولهم التى يحملون جنسيتها. واخيرا صرح بأن مهمة تركيا الآن هى نشر قيم الحضارة العثمانية المجيدة. لم يكتفِ أردوغان بالتصريحات، ولكنه استخدم كل الوسائل الناعمة والصلبة فى بناء مواقع نفوذ فى أماكن وبلدان مختلفة، سواء عبر التدخل العسكرى المباشر كما هو الحال فى سوريا والعراق وليبيا، أو عبر المنح الاقتصادية والعسكرية للصومال وجيبوتى، أو من خلال توظيف تطورات سياسية للتمدد كما هو الحال فى كل دول آسيا الوسطى وتونس والجزائر والسودان زمن البشير المخلوع.

- الإعلانات -

وفى الداخل أصبح الترويج لتركيا الكبرى ذات الامتدادات الإقليمية والبحرية، كمبدأ وكفكرة يتم تحقيقها تدريجيا، أمرا متكررا، من قبيل طرح ما يعرف بـ «الوطن الأزرق»، الذى يعنى حق تركيا فى مد نفوذها فى كل البحار التى كانت تحت النفوذ العثمانى كشرق المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب. وكذلك التذكير بما يعرف بالميثاق المللى، وجعله مكونا رئيسيا من مبادئ وقيم حزب العدالة والتنمية الحاكم. والميثاق المللى هو الوثيقة التى أصدرها السلطان العثمانى بعد الهزيمة فى الحرب الأولى، وفرض الحلفاء اتفاقية سيفر 1919، والتى قلصت الحدود والممتلكات العثمانية فى شمال إفريقيا والجزيرة العربية وأجزاء من العراق وسوريا، فجاء الميثاق المللى كتصرف معنوى ودعائى للتخفيف من آثار معاهدة سيفر، ومؤكدا أن حدود الدولة التركية ما زالت تتضمن الكثير من الأقاليم التى تنازلت عنها الدولة العثمانية بالفعل، فى تصرف عكس رفض التنازلات من حيث المبدأ، ولكن دون التحرك لإثباته عمليا ذلك نظرا للضعف الذى اعترى الدولة العثمانية آنذاك، وتشرذم الجيش العثمانى.

والهدف من إحياء الاهتمام بهذه الوثيقة وربطها بقيم الحزب الحاكم لا يخفى على أحد، وهو ببساطة تشكيل ثقافة سياسية شعبية تؤمن بأن الحدود التركية الحالية ليست نهائية، وأن مهمة الأجيال الجديدة هى استعادة الأراضى التى تم التنازل عنها قبل قرن كامل.

والمؤكد أن الخريطة التى نشرها الباحث الأمريكى قبل عقد كامل، وأعادت نشرها قناة فضائية تركية رسمية، توفر قوة دفع معنوية كبيرة لأوهام الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم، وكأن الخريطة شهادة أمريكية بقدرة تركيا على إعادة إحياء الخلافة العثمانية، والتوسع فى أقاليم جديدة، وذلك فى مدى زمنى محدود لا يزيد علي 27 عاما فقط من الآن. اللافت للنظر هنا أن ثمة محللين أتراكا وأمريكيين يرون أن هناك خطوات تجرى بالفعل تمهد لتحويل الخريطة إلى واقع، من بين تلك الخطوات التى يتم بحثها وفقا لجريدة الصباح التركية، الدعوة إلى إنشاء حلف عسكرى من سبع دول بقيادة تركيا يضم أذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزباكستان وتركمانستان، وتوسيع التعاون مع هذه الدول عسكريا وأمنيا واقتصاديا.

ووفقا للعديد من المتابعات الاستخبارية الأوروبية فإن تركيا أردوغان نجحت فى توظيف الجاليات الأوروبية من أصول تركية لتكون بمثابة قوة ضغط سياسية على البلدان التى يعيشون فيها، وتشكيل مجموعات منهم للدفاع عن سياسة الرئيس أردوغان، ومجموعات أخرى للتجسس على أبناء الجالية لكشف المناوئين له بهدف اختطافهم أو دفعهم للعودة إلى تركيا ثم اعتقالهم. والتحليل الدقيق لمثل هذه الخطوات، ورغم أنها تحمل مخاطر حقيقية على أمن البلدان الأوروبية التى تعيش فيها جاليات تركية كبيرة، كألمانيا على سبيل المثال، لكنها لا تفيد كثيرا بالمعنى العملى فى نشر النفوذ التركى الذى تشير إليه الخريطة الافتراضية بشأن تمدد تركيا فى عام 2050. وبالقطع فإن احتفاء الإعلام التركى بتلك الخريطة باعتبارها تعترف ولو ضمنيا بقابلية استعادة الإمبراطورية العثمانية مع استثناءات بسيطة، كإسرائيل، من شأنه أن يدفع صانعى القرار فى أكثر من بلد، سواء المشمولون فى الخريطة أو خارجها، إلي متابعة الأنشطة التركية ومحاصرة التطلعات المريضة فى العودة إلى الاستعمار ونهب الموارد، بغرض إفشالها، وبالتالى يتحول نشر الخريطة الافتراضية إلى سبب مهم للتحرك الدولى والأممى العاجل لوأد الأوهام التركية فى مهدها.

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد