أَمَّا الزَّبد فَيَذْهَبُ جفاءً
أَرانا، نحن أمةَ العرب، قد دخلنا امتحانات القرن الحادي والعشرين فُرادى مفككين متضادين متعادين، فسقطنا في المِحن، ويا له من سقوط حُرٍّ.. فلا تُحَل لنا أزمة، ولا نقضي على فتنة، ولا نخرج من تبعية، ولا نستعيد عافية.. ضعفنا يزداد، ووضعنا يتردى، ومآسينا تصبح كوارث، وتزلزل بلداننا وشعوبنا دوامات المِحَن.
خريطة مؤسية
إن نظرة نلقيها على واقعنا تجعلنا نقف على أوضاع لا ترضينا بل تدمينا وتلك خريطة مؤسية:
في اليمن حرب الأخوة وحرب الجوار على الجوار تستمر وتغرق البلاد والعباد في الدماء والكوارث والمجاعة، وتشغل معظم دول الخليج العربي ـ في سوريا استمرار لوضع مأساوي يزداد تفاقماً، فلا بوادر مشجعة لحلول جذرية شافية، وعودة نازحين ومهجرين، وإعادة إعمار واستقرار، بل نذر بتجدد معارك وتجذر احتلال واستعمار..
في لبنان إنهاك للشعب وانتهاك لحقوقه، وتنازع واشتباك سياسي وحزبي، طائفي ومذهبي، وهناك فساد وإفساد يشكوا منه الناس ويجعل البلاد ومصيرها في مهب الريح.. في العراق انقسامات وولاءات متضادة، وأحزاب تعترض على الطائفية وطوائف تعترض على الحزبية، وحكم أحزاب وطوائف، وتدخل خارجي، وتبادل اتهام بالتبعية وتعدد الولاء، وبالفساد والإفساد..
في السودان أزمة تفتح أبواب أزمات، وحكم انتقالي يتعثر ويتشقق ويتناثر ويتدثر بالعسكر، ويقال إن الديمقراطية تتقهقر، والتطبيع مع العدو الصهيوني مستمر ويستنسر، والراعي الأمريكي يلعب لعبته القذرة ويتدخل ويتنمر كما في حاله في معظم البدان العربية، والأزمة المائية والحدودية مع أثيوبيا تنذر بما لا تحمد عقباه في الفشقة وخيرات النيل الأرق..
وفي ليبيا بعد الحرب عسر، وتدخل خارجي يعطل الاتفاق والتوافق، ومهمة توحيد الجيش لا تتقدم فخمسة + خمسة لا نعرف كم تساوي، والمؤسسات وإجراء الانتخابات من حال مائل إلى حال أميل.. في تونس أزمة البرلمان، وأزمة الرئاسة، وأزمة الأحزاب، وأزمة التوافق الشعبي، وأزمة التوافق على توصيف ما يجري هل انقلاب أم لا انقلاب، وهناك وقائع تقرع الأبواب منها ما يُجاب عليه ومنها قيد الحساب..
بين الجزائر والمغرب ما صنع الحداد، نزاع مستمر في خلفيته الصحراء والبوليساريو والتطبيع وما خفي أعظم، وينسحب على المصالح والسكان الأشقاء.. ومصر، أم الدنيا، لم تعد أم العرب، ولا الجامع لهم، والرائد المرتاد والقائد المعتاد في فضائهم السياسي، فحفاوتها “بإسرائيل” فوق النقد والأقاويل، والتجليات الأمريكية فيها تحجب عنها رؤية الرعيل الأول للعروبة وتكبِّل الإسلام.. مصرنا العزيزة ما فيها يكفيها ويكاد يشل قوادم أجنحتها وخوافيها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا نتحدث هنا عن الصومال وجيبوتي وجزر القمر وما تناثر في المحيط العربي وانتثر من دُرر.. فالحال معروف مكشوف موصوف.
أما الحديث عن قضية فلسطين ومعاناة شعبها تحت الاحتلال، وما يلقاه ذلك الشعب المظلوم من تصفية مادية ومعنوية، جسدية وروحية، على أيدي العنصريين الصهاينة، وعن تردي الاهتمام العربي بالشعب الفلسطيني وقضيته بوصفها قضية مركزية لنضال الأمة العربية منذ قرن من الزمان.. فذاك أمر غصته في القلب وقد أصبح عند كثيرين من منسيات الساسة والبرلمانات والأحزاب العربية ومعظم وسائل الإعلام وبعض المثقفين والكتاب.
أمة في محنة
نحن أمة في محنة، ومحنتنا اليوم لم تعد تنحصر في المآسي والمعاناة والكوارث، ولا في الاقتتال البَيْني، ولا في استدعاء المقاتلين والميليشيات والمرتزقة من أطراف الأرض ليخوضوا في أقطارنا وعلينا وبنا وعلى نفقتنا أشدَّ أنواع الفتك بنا والتدمير لنا وتقتيل أبنائنا وتشريدهم وتجهيلهم.. بل تفاقمت باستدعاء الدول والتحالفات الدولية ليحتمي حكام وساسة منا بها، فيغيبون وتحضر، وتتدخل في الصغيرة والكبيرة من شؤوننا، وتقيم القواعد العسكرية في أرضنا، وتستولي على بترولنا، وتفتح أسواقاً لأسلحتها نشتريها لتقتلنا بها، وتنهب أموالنا وثرواتنا، وتلحق بنا أفدح الهزائم والخسائر والانهيارات والمآسي، وتمزقنا شرَّ مُمَزَّق، “أرضاً وشعباً”، وتفتِّتنا دويلاتٍ وولاءاتٍ متضادات متقاتلات، وتحكمنا وتتحكم بنا وتستعمرنا وتفتك بذواتنا فتكات بالغات، وتجرب فينا أسلحَتها الجديدة، وتنهي سيادتنا..
وتبقي لنا منا ورقة توت، تبقيها واجهة ليتوهم ساستنا السيادة.. وتمنُّ علينا بأن تقدم لنا مساعدات إنسانية منها، وتعمل على نحل أزماتنا بأنفسنا وهي الآمر الناهي.
والمضحك المبكي أن هذا الذي وصلنا إليه يجري في ظل تمجيد وتصفيق وامتنان لتلك الدول والتحالفات والقوى والميليشيات، وإعلاء لراياتها، وازدهاءً لمفتونين بها.. ورفعاً لجالبي “تلك الآفات”، المُحتمين بحماها، رفعهم قدوة يجعلهم يعتزون بمن جلبوا وبما جلبوا إلى بلدننا وشعبنا من محتلين ومستعمرين وقتلة ونهابين، يتنافسون على استعمارنا وتخريب بلادنا وقتل شعبنا، ويعدوننا بالإعمار فلا يفون ويعطلون وعودهم حسب مصالحهم واستراتيجياتهم وتنافسهم و..؟!
المؤسف المُدمي أن سياسة قاصرة محدودة الرؤية، وساسة متعالين وفاسدين مفسدين، وحكاماً طغاة فاشلين مرتهنين للإرادات والقوى الأجنبية ـ الخارجية، ومسؤولين عاجزين.. لا يتوقف إضرارهم بأوطان وشعوب عند حد، ولا يهمهم ما آلت وتؤول إليه أمور الناس والبلدان من ضنك وضعف وتهديد وجود.. فتراهم سادرين في غيِّهم، ويواصلون نهجاً وسياسات تعيد أمماً وبلداناً قروناً إلى الوراء
ومن البدهي أن الشقاق يجر الشقاق، والخراب يجر الخراب.. ولذا فإن تعدد المستعمرين ووجوه الاستعمار في بلداننا يزيد من ضرام الفتنة بين المفتونين بالاستعمار والتابعين له، والمحاربين باسمه وتحت رايته، ويزيدهم ضلالاً وظلماً وضراوة وبطشاً وشراسة وطغياناً ودموية وعدوانية..
وكل هذا الذي جرى ويجري يدفع الشعب العربي وتدفع البلدان تكاليفه، فيستمر نزف الدم العربي في البلدان المصابة بهذا الداء، وتسود الفوضى، وتخرَّب المدن والبلدات والقرى، ويعاني الشعب مرَّ المعاناة من فقدان الأمن والثقة وتدمير العلاقات والقيم والأخلاق والصلات، ومن الاقتتال البيني والقتال بالوكالة ومن تنافس الدول والقوى على أرضه.. فلا سلم ولا أمن ولا اطمئنان ولا عمران ولا إعادة إعمار، ولا حد من النزوح والتهجير، ولا عودة لنازحين ومهجَّرين ومشردين ومهاجرين بالملايين، ولا أمل برغيف خبز أسود يسد الرمق لمواطنين صابرين صامدين طائعين شاكرين حامدين منتظرين الفرج وجلاء الغمة وانتهاء المحنة، يسبحون ليل نهار بلا بصيص أمل.
وشرُّ البليَّة أن بلداناً عربية دخلت أو أُدخلت في هذا الأتون، وعانت من التسلط والتبعية والصراعات البينية حتى استفحل ضعفها ولم تعد تقدر على حماية حدودها ومواطنيها، وأن بلداناً أخرى طمع بها الطامعون، وصارت عرضة لابتزاز دول جارة ودول في المنطقة، إضافة لابتزاز المستعمرين الكبار لكل بلد من البلدان.
الشعوب الحية تنتصر
ومن أسف أن دولاً جارة وأخرى ذات مشاريع في المنطقة، أخذت تطمع بدول عربية وترفع صوتها عليها، وتُشهر عليها سلاحاً يمس وجودها ومواطنيها هو سلاح الماء.. ومضمون هذا السلاح ومفعوله ومردوده “تعطيش وتجويع وتشريد وتهجير وأضرار لا حصر لها..”.. ففقدان الماء له تبعات كثيرة منها زوال المحاصيل والموارد الزراعية والثروة الحيوانية، وهي من مقومات العيش الرئيسة لمعظم السكان.. وينتج عن فقدان الماء تلوث وتعفن وأوبئة، وتدمير البيئة الزراعية، وانعدام الأمن الغذائي وما يسببه ذلك كله من كوارث وما ينتج عنه من نتائج تهدد الوجود ذاته.. فالماء أس الحياة وفقدانه من أخطر ما يعاني منه الأحياء..
وقد قال الخالق سبحانه وتعالى في هذا الشأن الذي لا يقدره الإنسان حق قدره إلا إذا ابتلي، قال: ﴿ أَوَلَم يَرَ الَّذينَ كَفَروا أَنَّ السَّماواتِ وَالأَرضَ كانَتا رَتقًا فَفَتَقناهُما وَجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤمِنونَ ﴿٣٠﴾- سورة الأنبياء. وقال خاتم الأنبياء والمرسلين في ذلك الشأن: ” الناس شركاء في ثلاث: الماءُ، والكلأُ، والنار”، لأن ذلك الثلاثي من لوازم الحياة الأساسية ومقوماتها الرئيسة، لا سيما المَاء الذي لا حياة من دونه، ولا نقدِّر نعمته إلا حين نفتقده فنحن نعيش به ولا ندرك قيمته إلا في غيابه أو تغييبه، أي في احتجابه وحجبه. وابتلاء الحياة والأحياء وعلى رأسهم البشر بفقدان الماء هو الأشد فتكاً من بين الأسلحة التي توجَّه ضدهم، ويُرْمَون بها، ويضطرون إلى مواجهتها.
والمؤسف المُدمي أن سياسة قاصرة محدودة الرؤية، وساسة متعالين وفاسدين مفسدين، وحكاماً طغاة فاشلين مرتهنين للإرادات والقوى الأجنبية ـ الخارجية، ومسؤولين عاجزين.. لا يتوقف إضرارهم بأوطان وشعوب عند حد، ولا يهمهم ما آلت وتؤول إليه أمور الناس والبلدان من ضنك وضعف وتهديد وجود.. فتراهم سادرين في غيِّهم، ويواصلون نهجاً وسياسات تعيد أمماً وبلداناً قروناً إلى الوراء في وقت يتقدم فيه العالم بسرعة هائلة في كل الميادين.. وبذلك تتسع الهوة بين شعوب وشعوب، وتزداد أمور أناس وأوطان سوءاً على سوء بسبب مَن يضعون أنفسهم فوق الناس والقيم والأخلاق والقوانين، ويقدمون مصالحهم الشخصية والفئوية على مصالح الأوطان والشعوب.
لقد أخذت الأوضاع الكارثية المزمنة والمآسي الكبرى تهدد أمن الناس ووجودهم في أقطار عربية. وهم يصكون الأسماع بأصواتهم ويقرعون الأبواب المغلقة ليلفتوا النظر وينبهو إلى الخطر، لكن من دون جدوى.. وأصبح السلاح المنتشر بفوضى والمُشهر بأنواعه على الذات الوطنية والقومية بصور شتى، أصبح فاتكاً بالشعب ومع ذلك لا يروي غليل الطغاة القاتلين، والحاقدين الفتنويين المتقاتلين الذين صَغُرَ بنظرهم شأن الإنسان، وغابت عنهم معاناته وهو في حصار قاتل، وجوع كافر، وتجويع جائر، وفي عذاب وتعذيب، وإذلال وتركيع، وتشريد وتهجير، وتمزيق وتطفيش، وجهل وتجهيل..
فهل يكبر بنظرهم يا تُرى مصاب الإنسان، وفقدان أمة من أكرم الأمم لأمنها ومكانتها وقدرتها على حماية أرضها ومصالحها وأبنائها وسيادتها وذاتها؟! وهل فكروا أو يمكن أن يفكروا في انعكاسات ذلك الوضع المتدهور على السلم الأهلي وحياة الناس ومستقبل الأجيال، وإغرائه للمحتلين والمستعمرين والطامعين بالأمة العربية وأرضها وخيراتها، والحاقدين على عقيدتها وهويتها ووجودها ذاته.. يغريهم بأن يسيطروا كلياً بالقوة القاتلة، ويُلغوا الواجهات ويستبيحوا المقدسات والمحرمات.. هل يحدث هذا ويدفعهم إلى التفكير بنهج مغاير لنهجهم السائد المدمر لصلات الأقطار وأبناء الأمة الواحدة، ويجعلهم يرون ويعملون بمسؤولية وانتماء، ويعودون للشعب ويعيدون إليه المسؤولية والقرار والخيار، لينقذ ما تبقى من الذات والممتلكات.. أم أنهم سيستمرون في تبعيتهم وأنانيتهم المتورِّمة وطغيانهم وغيهم وتغافلهم.. إلى أن.. إلى أن ماذا؟!
كل يعرف أن الشعوب الحية تنتصر، والحقيقة تسطع، أمَّا الزَّبد فيذهب جَفاء. والله وليُّ الأمور.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
#أما #الزبد #فيذهب #جفاء
تابعوا Tunisactus على Google News