احتكار السلع الأساسية وفقدان مادة الطحين هل يؤديان إلى أزمة خبز في تونس؟ | القدس العربي
تونس ـ «القدس العربي»: بات الخبز المدعّم في تونس رمزا للمعيشة منذ عقود طويلة، حتى أن نظام الأب المؤسس لدولة الاستقلال الحبيب بورقيبة انهار إثر أزمة تاريخية سنة 1984 عُرفت بـ«أحداث الخبز» أو «انتفاضة الخبز» كان منطلقها رغبة ساكن قرطاج الأسبق رفع سعر الخبز والدعم عنه. وقد بقي باني تونس الحديثة يترنح لثلاث سنوات إثر هذه الأحداث في انتظار أن يجهز البديل لتسلم مشعل القيادة، ولم يشفع لبورقيبة تاريخه النضالي في دحر الاستعمار رفقة آخرين، ولا سلطته الأبوية على عدد هام من التونسيين، أمام شعور المواطنين بإمكانية عجزهم عن توفير لقمة العيش التي يرمز إليها الخبز.
ويعود الحديث عن الخبز ليطفو مجددا على السطح بعد قرابة الأربعين عاما عن تلك الأحداث الدامية التي شهدتها الخضراء والتي اضطر معها الجيش إلى التدخل لقمع الانتفاضة التي سالت فيها دماء وسقط فيها قتلى وجرحى وما زال التونسيون يستذكرونها إلى اليوم. والسبب في ذلك هو الحرب الروسية الأوكرانية، التي ستقطع إمدادات القمح اللين لتونس من أوكرانيا، من جهة، واحتكار السلع الغذائية المدعّمة من قبل عدد من السماسرة والمضاربين التونسيين بهدف إخراجها في الوقت «المناسب» وقد غلا ثمنها، أو بهدف تصديرها إلى دول الجوار التي يدفع المضاربون فيها أثمانا تسيل لعاب المحتكرين التونسيين، من جهة أخرى.
ففيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، تجدر الإشارة إلى أن تونس تستورد من أوكرانيا قرابة 60 في المئة من حاجياتها من القمح، وبفعل هذه الأزمة أصبحت الحكومة التونسية مطالبة بإيجاد مزودين جدد في القمح اللين. ويبدو أن النية تتجه على المدى القريب نحو الذهاب إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الاتحاد الأوروبي لتأمين حاجيات الخضراء من القمح اللين، لكن الثمن سيكون مرتفعا لم يقرأ له قانون المالية حسابا وهو ما سينعكس على سعر الخبز المدعّم الذي قد تضطر الدولة إلى رفع ثمنه.
فأسعار القمح بصدد تسجيل مستويات قياسية في الأسواق العالمية حيث بلغ سعر الطن الواحد في الأسواق الأوروبية قرابة 500 دولار وهذا الرقم مرشح للارتفاع بحسب الخبراء مع تواصل هذه الحرب التي يبدو أنها لن تكون فسحة قصيرة مثلما اعتقد البعض. وبالتالي لا يمكن تصور أن صناديق الدعم في بلدان العالم الثالث قادرة على تحمل أعباء هذه الزيادات المشطة، ولا تصور أن الحكومات قادرة على الحفاظ على سعر الخبز كما هو بدون أن تضطر إلى رفعه ممهدة الطريق مكرهة للاحتجاجات الشعبية.
القمح الصلب
وللإشارة فقد اشترت تونس إثر اندلاع الأزمة 100 ألف طن من الشعير و 125 ألف طن من القمح اللين من الأسواق الأوروبية وذلك في مناقصة عالمية وبلغ متوسط سعر هذه المناقصة قرابة 490 دولارا للطن بالنسبة إلى الشعير و500.1 دولار للطن بالنسبة إلى القمح اللين. وتنتج تونس القمح الصلب الذي يذهب إلى صناعة الكسكسي والمكرونة وغيرها، وتستورد القمح اللين الذي فرض نفسه بسبب تغير العادات الغذائية للتونسيين في السنوات الأخيرة باتجاه استهلاك الحلويات والخبز الإيطالي والفرنسي.
وبالتالي فإن تغيير نمط الزراعة مواكبة للمتغيرات الاستهلاكية وذلك نحو إنتاج القمح اللين عوضا عن القمح الصلب بات ضرورة ملحة بالنسبة إلى التونسيين ويتطلب هذا الأمر عملا جبارا من الدولة لتوفير البذور للفلاحين وتشجيعهم على إنتاج هذا الصنف من الحبوب بكميات أكبر. كما أن العودة إلى العادات الغذائية للأجداد والمتمثلة في الإقبال على منتوجات القمح الصلب وعلى رأسها الكسكسي وخبز القمح اليدوي التقليدي مع زيت الزيتون، عوضا عن الخبز الأوروبي والمعجنات والحلويات الأوروبية الدخيلة على العادات الغذائية التونسية يعتبر أحد الحلول الممكنة لتجاوز الأزمة على المدى البعيد.
فبهذه الحلول وبالقضاء على الاحتكار والتهريب يمكن للتونسيين ضمان تواجد الخبز لديهم وتجنب حصول أزمة جديدة شبيهة بأزمة الثمانينات والتي يمكن أن يتسبب فيها إما رفع سعر الخبز أو غيابه عن الأسواق. كما ستمكن هذه السياسات التي ترشد النفقات من إدخار العملة الصعبة، وتحقيق بعض التوازن في الميزان التجاري الذي اختل كثيرا في العشرية الأخيرة مع عدد هام من دول العالم من خلال استيراد مواد لا تحتاجها الأسواق التونسية في نزيف رهيب للعملة الصعبة كانت له نتائج كارثية على الاقتصاد.
ويأمل التونسيون في أن تؤدي الحرب التي يشنها الرئيس قيس سعيد على المحتكرين، والمرسوم الجديد الذي ينتظر أن يصدر بين الفينة والأخرى والذي قيل أنه سيتضمن عقوبات جزائية صارمة تطال المحتكرين، إلى نتائج ملموسة باعتبار أن هذه «الحرب» هي من أجل تأمين حصولهم على المواد الأساسية المدعمة ومنها المواد التي تتم منها صناعة الخبز على غرار الطحين والزيت النباتي. ويتم يوميا وفي إطار هذه الحرب ضبط مخازن عشوائية غير مرخص لها تتضمن هذه المواد، وإيقاف شاحنات تقوم بتهريبها إلى دول الجوار، ويتم هذا الجهد الذي تقوم به الأجهزة الأمنية وتلك الرقابية التابعة لوزارة التجارة بنسق ماراثوني وذلك قبيل حلول شهر رمضان حيث يزداد استهلاك التونسيين للخبز ومختلف المواد الأساسية.
ضرب الأمن والسلم الاجتماعي
ولعل السؤال الذي يطرح والذي يروج له الفريق الحكومي هل أن الاحتكار يتم بفعل فاعل غايته ضرب الأمن والسلم الاجتماعي؟ أي بتعبير أدق هل يحصل الاحتكار بتحريض من طرف سياسي أو مافيات تدافع عن مصالح همها إفشال هذه العهدة الرئاسية للرئيس قيس سعيد؟ هل تتحرك هذه الأطراف على خلفية إدراكها بأن المساس بمعيشة التونسي التي يرمز إليها الخبز ستؤدي إلى نقمته على أولياء أموره وخروجه للإطاحة بهم كما حصل في السابق ولذلك استهدفت المواد الأساسية تحديدا؟
في الحقيقة لا يوجد دليل على تورط أطراف سياسية أو حتى مافيوية تستهدف الحكم في تونس من خلال احتكار المواد الأساسية المدعمة، وإنما هناك فساد قديم وموروث وأنانية ولهفة ورغبة في الربح لعدد لا بأس به من أصحاب النفوذ والمصالح، من رجال أعمال وغيرهم، يستغلون الظروف الاستثنائية لتحقيق المنافع. وعلى الحكومة أن تحارب هؤلاء دون هوادة رغم أن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض لأن هؤلاء متغلغلون في أجهزة الدولة وقادرون على شراء ذمم عدد من موظفي الدولة لغض الطرف عنهم أو لإعلامهم بتوقيت الحملات والمداهمات التي تستهدفهم ليتخذوا الاحتياطات اللازمة كإفراغ المخازن قبل قدوم الأجهزة الرقابية.
ويمكن محاربة هؤلاء المحتكرين من قبل المواطنين أنفسهم باعتماد سلاح المقاطعة وتغيير العادات الغذائية دون انتظار الدولة لتضرب بقوة على أيدي العابثين. فاستهلاك الخبز في تونس يتم بكميات كبيرة مضرة حتى بصحة الإنسان وهناك عدم شعور بأهميته جعل الكثيرين يلقون به في المزابل بمجرد مضي يوم أو يومين على صنعه وهو ما جعل الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يقرر في وقت ما رفع ثمنه لترشيد استهلاكه من قبل التونسيين.
ويرى البعض أن هذه الأزمة يمكن أن تساهم إيجابيا في التسريع بإيجاد الحلول لبعض المشاكل الاقتصادية، فالتونسيون يطرحون منذ فترة فرضية تغيير السلوكيات الغذائية ورفع الدعم عن الخبز وبعض المواد الأساسية لكن لا أحد من المسؤولين تجرأ على اتخاذ مثل هكذا قرار خوفا من الاضطرابات الاجتماعية. كما أن صندوق النقد الدولي يطرح هذا الأمر منذ فترة ويطالب بإصلاحات من بينها رفع الدعم عن المواد الأساسية كشرط لمنح تونس القرض الذي يعتبره البعض طوق النجاة لميزانية هذا العام.
#احتكار #السلع #الأساسية #وفقدان #مادة #الطحين #هل #يؤديان #إلى #أزمة #خبز #في #تونس #القدس #العربي
تابعوا Tunisactus على Google News