اقتصاد تونس يعاني من سياسات سعيد وضغوط صندوق النقد الدولي
تعيش تونس خلال الأسابيع الأخيرة، على وقع أحداث ساخنة، تنذر بانفجار اجتماعي وشيك، بحسب سياسيين ومراقبين، بالنظر لتواتر الأحداث وعجز حكومي عن إيجاد الحلول الكفيلة بإخراج البلاد من شبح الإفلاس والفوضى.
فخلال الأيام الأخيرة، شهدت مناطق متفرقة من البلاد، موجات احتجاج عارمة، تخللتها أحداث عنف ليلية في بعض الأحياء الشعبية بالعاصمة، بين محتجين وقوات الأمن، للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وإيجاد حلول عاجلة لتردي المقدرة الشرائية وندرة المواد الأساسية وفقدان بعضها، بالإضافة إلى احتجاجات أخرى، طالبت بكشف حقيقة وفاة أحد شباب المنطقة، متأثرًا بجراحه بعد ملاحقة أمنية، بحسب شهادات مقربين منه.
في مدينة جرجيس جنوبًا، نفذ الآلاف، يوم الثلاثاء، إضرابًا عامًا شل أركان المدينة، مطالبين بكشف حقيقة حادثة غرق مركب يقل 18 شخصًا من أبناء المدينة في هجرة غير نظامية إلى السواحل الإيطالية، حيث تم انتشال 14 جثة من البحر، وتم التأكد من هويات 6 ممن كانوا على متن القارب، في وقت يتهم فيه الأهالي السلطات بالتراخي في البحث عن أبنائهم المفقودين في البحر، إضافة إلى دفن 4 جثث في مقبرة حدائق إفريقيا (مخصصة لدفن الجثث مجهولة الهوية) دون التثبت من هوياتهم.
على صعيد آخر، شهدت محطات الوقود خلال الأسبوع الماضي، أزمات تزود وتزويد بالمحروقات، سرعان ما ألقت بظلالها على نسق تزويد المواطنين بالمحروقات الذين عانوا لعدة أيام ووقفوا في طوابير طويلة لأجل الحصول على البنزين، بالتزامن مع كشف مسؤول نقابي تونسي عن تراجع المخزون الإستراتيجي من المحروقات في البلاد من شهرين إلى حدود أسبوع فقط.
فشلت الطبقة السياسية في تونس، في رص صفوفها في وجه السلطة الحاليّة
البنزين ليس المادة الوحيدة التي تشهد الأسواق التونسية ندرة فيها، فقد عجزت الحكومة خلال الأشهر الثلاث الأخيرة، عن حل أزمة تزويد الأسواق بمادة السكر والحليب والزبدة والزيت المدعم والبيض، ومنتجات غذائية أساسية أخرى، ما خلف حالة من الفوضى والتزاحم بين المواطنين حال توافر هذه المواد.
مسؤولون نقابيون بارزون، أطلقوا صيحات الإنذار، بعد تراجع كميات الحليب المجمعة بنحو 30%، بالتزامن مع تراجع المخزون الإستراتيجي من الحليب في تونس خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب 2022 من 50 إلى 20 مليون لتر، مقارنة بنفس الفترة من سنة 2022، محذرين في الوقت نفسه من انهيار منظومة إنتاج الألبان إذا لم تتدخل الدولة لإيقاف هذا النزيف الذي ينذر ببلوغ مرحلة اليأس وفقدان مادة الحليب من الأسواق خلال شهر أو شهرين بحد أقصى.
بالتزامن مع هذه الأحداث، فشلت الطبقة السياسية في تونس، في رص صفوفها في وجه السلطة الحاليّة التي يقودها الرئيس قيس سعيد، الذي يصفه خصومه بالانقلابي، حيث عجزت جبهة الخلاص الوطني، وهي جبهة تضم أحزابًا وسياسيين مستقلين، في تحريك الشارع وتجميع مختلف القوى والتوجهات السياسية بهدف إسقاط المنظومة الحاكمة حاليًّا.
تأسست جبهة الخلاص الوطني التي تضم 5 أحزاب هي: حركة النهضة وتحالف قلب تونس وائتلاف الكرامة وحراك تونس الإرادة وحزب أمل، إضافة إلى حملة “مواطنون ضد الانقلاب” ومبادرة اللقاء من أجل تونس، وعدد من البرلمانيين، في شهر مايو/أيار 2022، بعد نحو 10 أشهر من انقلاب يوليو/تموز 2021، وقادت العديد من التحركات الاحتجاجية الداخلية، لكنها لم تغير شيئًا على الأرض، بالتزامن مع مضي الرئيس التونسي في تنفيذ مشروعه السياسي وتمرير دستوره الفردي واقتراب الانتخابات التشريعية الجديدة، بقانون انتخابي جديد، أقصى بصفة غير مباشرة الأحزاب السياسية من المشاركة فيها، بالتزامن مع فتح المجال لرؤوس الأموال والشعبويين للمشاركة والوصول إلى البرلمان القادم بسهولة.
حياة سياسية شبه ميتة وشارع سياسي جامد، يقابله مجتمع دولي بمواقف براغماتية متباينة ومتغيرة بحسب الأوضاع، لكنها تجمع في الوقت نفسه، أن وضع البناء الديمقراطي والمؤسساتي في تونس، قد تم وأده وأن الوضع الاجتماعي صار قابلًا للانفجار في أي لحظة بمعزل عن الأحزاب والقيادات السياسية العاجزة عن تأطيره إذا ما حدث.
تؤكد المعطيات ومسار الأحداث في تونس خلال الأشهر الأخيرة، أن المجتمع الدولي الذي تباكى على الديمقراطية بعد نجاح انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، صار يساير الأحداث في البلاد ويطوعها بحسب مصالحه، بالاستعانة بالعزلة الدولية المفروضة على النظام التونسي، حتى صارت البلاد بين مطرقة سعيد وسندان صندوق النقد الدولي الذي وجد الفرصة سانحة لفرض إملاءاته ورؤيته الإصلاحية للاقتصاد التونسي، القائمة أساسًا على رفع الدعم والتحكم في كتلة الأجور وخصخصة مؤسسات حيوية.
الإجراءات المسماة بالإصلاحات، ستكون موجعة في أغلبها ولا تزال تفاصيلها مجهولة إلى حد الآن بسبب تكتم الحكومة
وجد صندوق النقد الدولي الطريق معبدًا أمامه هذه المرة، لفرض إملاءاته وخنق تونس ووضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: الإفلاس المعلن أو الوصول إلى اتفاق معه يجنب البلاد الإفلاس ويفتح أمامها باب الاقتراض من السوق المالية العالمية، بعد أن رفض أصدقاء تونس دعمها وإقراضها بسبب الضوء الأحمر من الصندوق ومن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية.
كثيرة هي الإجراءات الحكومية المنتظرة التي ستعقب توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي إثر اتفاق الخبراء، الذي ستحصل بمقتضاه تونس على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار على أربع سنوات، وهو مبلغ لا يغطي واردات تونس لسنة من المشتقات النفطية، بل تكمن أهميته أساسًا في تمكين تونس من الخروج إلى السوق المالية العالمية.
هذه الإجراءات المسماة بالإصلاحات، ستكون موجعة في أغلبها ولا تزال تفاصيلها مجهولة إلى الآن بسبب تكتم الحكومة، وسط صمت شعبي غير مسبوق، وحالة من الهلع والخوف المتغلغل في كل القطاعات من مخاطر الأشهر القليلة القادمة، بالتزامن مع نجاح حكومي تونسي في تقزيم دور الاتحاد العام التونسي للشغل، ووضع اليد على القضاء الذي لا يزال يصارع لأجل استقلاليته في وجه الإملاءات والأحكام الجاهزة التي تريدها وزيرة العدل التونسي ليلى جفال، كما يؤكد ذلك قضاة ومحامون.
أمام كل هذا، يجدد الرئيس التونسي قيس سعيد المتفرد بكل السلطات، اتهام خصومه السياسيين ومن أسماهم بالمحتكرين والخونة والعملاء وغيرهم، بالتسبب في الأوضاع التي تعيشها تونس، متوعدًا بالقضاء عليهم وتخليص البلاد منهم، مكررًا نفس الخطب والعبارات التي صار كثير من التونسيين يتندرون عليها على شبكات التواصل الاجتماعي.
أوضاع اجتماعية صعبة وركود اقتصادي مخيف وحياة سياسية تحتضر، هكذا هي الأوضاع في تونس بعد انقلاب 25 من يوليو/تموز 2021، بعد أن قام قيس سعيد بحل البرلمان وإقالة الحكومة، وكتابة دستور جديد، استأثر من خلاله بجميع السلطات، بالاستعانة بالقوة الصلبة للدولة من جيش وأمن.
إرهاصات انقلاب دمر ما تبقى من نوايا إصلاح، هكذا يصف مراقبون ما يحدث في تونس، بعد أن أصبحت الطوابير الطويلة منتشرة في كل البلاد تقريبًا، لأجل الظفر بالسكر والبنزين وغيرها من متطلبات الحياة اليومية، في وقت تعاني فيه الدولة التونسية من عجز تجاري ناهز الـ6 مليارات دولار خلال الأشهر الـ9 من العام الحاليّ.
عجز تجاري غير مسبوق وارتفاع في نسبة التضخم، يقابله إنكار من الرئيس التونسي، واتهام لمن سبقوه بالتسبب فيما يحدث رغم تأكيده في أكثر من مناسبة أن الأموال موجودة وأن مليارات المليارات ستعود إلى الشعب بعد استئثاره بالسلطات.
سعيد الذي تأكد للجميع أنه لا يفقه في الاقتصاد شيئًا، يدرك جيدًا أن سياسته الاتصالية القائمة على اتهام الآخرين بالتسبب في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لم تعد تنطلي على فئة كبيرة من الشعب التونسي، حتى إن كثيرًا من أنصاره باتوا في ريبة وشك من أمرهم وضعفت حججهم الإقناعية، بعد أن لمسوا منه تعنتًا وتنصلًا من المسؤولية.
يعلم قيس سعيد جيدًا أن خروجه في حوارات إعلامية تفاعلية لن تخدمه بقدر ما ستضره
فخلال استقباله لرئيسة الحكومة نجلاء بودن مساء الخميس 20 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، جدد سعيد اتهام الحكومات السابقة بالتسبب في الوضع المعيشي الصعب الذي تعيشه البلاد، داعيًا إلى إيجاد “حلول سريعة لعدد من القضايا التي زادت تعقيدًا نتيجة التزامات تعهدت بها حكومات سابقة وكانت تعلم جيدًا أنها لن تجد طريقها إلى التنفيذ” وفق تعبيره.
تصريحات سعيد المتواترة بخصوص تحميل المسؤولية لمن حكموا البلاد قبله واتهام المحتكرين بالتسبب في فقدان المواد الأساسية من الأسواق، ليست إلا سياسة اتصالية ينتهجها الرجل منذ تفرده بالحكم في تونس، حيث تحدث في أكثر من 20 مناسبة عن الاحتكار والمحتكرين، لكن ذلك لم يغير أي شيء على أرض الواقع.
قامت السياسة الاتصالية للرئيس التونسي منذ انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، على مخاطبة الجماهير دون وسائط، فله مواقف مناهضة لوسائل الإعلام المحلية والدولية، فالرجل لم يقم بأي حوار إعلامي منذ التاريخ المذكور، وكل أخباره وتصريحاته وتحركاته تنشر دوريًا عبر الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية التونسية على الفيسبوك.
يعلم قيس سعيد جيدًا، أن خروجه في حوارات إعلامية تفاعلية، لن تخدمه بقدر ما ستضره، فبضع أسئلة اقتصادية تقنية، ستحرج الرجل وتكشف مدى محدودية معرفته بالوضع الاقتصادي المحلي ومتطلبات المرحلة والحلول الكفيلة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وعن السياسة الاتصالية لقيس سعيد، يذكر الكاتب التونسي طارق العمراني أن مخاطبة الجماهير تستلزم أسلوبًا خطابيًا معينًا قائمًا على المبالغة والتوكيد والتكرار لإعطاء مفعول العدوى وتحويل الأفكار إلى ثوابت دغمائية وهذا الأسلوب يطلق عليه “التعويذة الشامانية”.
يضيف العمراني في تدوينة على صفحته على الفيسبوك أن الخطاب الرئاسي المرتكز أساسًا على ذكر الأرقام الخيالية والمبالغة والحديث عن الأطراف والمؤامرات يستهدف أساسًا “السواد” أي الجماهير لتحفيز هرمون “الاهتياج” لتواصل المساندة، مشيرًا إلى مقولة الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون بأن “الجمهور مجموعة أفراد لا تخاطب عقولهم بل خاطب نخاعهم الشوكي.. فمن يعرف فن التأثير في خيال الجماعات يعرف فن سياستهم”.
لا أحد يعرف ما قد يحدث خلال الفترة المقبلة في تونس، لكن المؤكد أن عهد الرفاهية والأسعار الرخيصة والزيارات الدورية في الرواتب ووفرة المواد المدعمة قد ولى دون رجعة خاصة بعد اتفاقية تجميد الأجور لثلاث سنوات التي وقعتها الحكومة مع اتحاد الشغل، وهو إجراء فرضه صندوق النقد الدولي قبل توقيع أي اتفاق مع السلطات التونسية، وستكون تبعاته وخيمة على المقدرة الشرائية للموظفين الذين يعانون الأمرين خلال الأشهر الأخيرة، بسبب الارتفاع الرهيب في الأسعار.
كل السيناريوهات مفتوحة، ولا أحد منا يتمنى رؤية انهيار بلد عزيز مثل تونس، البلد الذي فجر ثورات الربيع العربي، وأكد للجميع أن الشعوب العربية قادرة على التغيير والتداول السلمي على السلطة، من دون انقلابات عسكرية تعصف ما تبقى من حلم إرساء انتقال ديمقراطي حتى إن كان متعثرًا بفعل فاعل داخلي أو خارجي.
#اقتصاد #تونس #يعاني #من #سياسات #سعيد #وضغوط #صندوق #النقد #الدولي
تابعوا Tunisactus على Google News