- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

اكتبْ فقط | القدس العربي

من الواضح أن معارض الكتب، التي تعتبر أفضل رئات يمكن أن يتنفس بها أصدقاء الكتابة والقراءة وناشري الكتب، قد استيقظت هذا العام، بعد أن هد فيروس كوفيد-19 حيلها، لعامين تقريبا، ومنع منعا باتا أن تعقد في أي مكان، والتزم الجميع بقراره لأن لا خيار سوى الالتزام، ولذلك شهدنا معرض الرياض والشارقة وتونس، وقريبا نشاهد معرض الدوحة، وبقية المعارض.
معارض الكتب ليست لبيع الكتب فقط، وليست للسياحة والفرجة عند الجمهور بالرغم من أن كثيرين يغشونها حين تضع رحالها في بلدانهم، للفرجة والسياحة. وشهدت مرة معرضا كبيرا، كان مزدحما جدا بالناس، ثمة شباب ومسنون وأطفال، ونساء تبدو الأمية مرسومة على وجوههن ونظراتهن، وأشياء أخرى تستخدم في النزهات، مثل المظلات، وأكياس الفول المدمس والفشار، ووجدت صعوبة في شق تلك الصفوف الطويلة أمام البوابة للدخول، لأشارك في فعاليتي. وحين كنت بالداخل وأتجول قليلا في المعرض، قبل بدء الفعالية، فوجئت بالناشرين وباعة الكتب يقفون في سكون أمام أجنحتهم، بينما طوفان البشر، مستمر، يتجاوز سكونهم، من دون أي نظرة على كتاب، ومن دون يد تمسك بكتاب تقلبه، أو لسان يساوم بائعا للشراء، إلا ما ندر.
في ذلك المعرض، كان من المفروض أن أوقع رواية صدرت حديثا لي، وقد حُدد موعد لذلك التوقيع، وكان المكان ركنا ضيقا في جناح دار النشر، جلست فيه قرابة الساعتين، لم يتوقف عندي سوى قلائل، كانوا في معظمهم يبحثون عن البيان والتبيين ونوادر البخلاء للجاحظ، أو كتاب الأبراج لماغي فرح الصادر في ذلك العام. وأذكر أن امرأة سألتني وهي ترفع كتابي، وتحاول أن تجد تفسيرا لعنوانه الغريب: هل هو كتاب في الطبخ أم التنجيم؟
قلت لا هذا ولا ذاك، إنه كتاب في علم الأجنة، فأعادته المرأة إلى مكانه وذهبت.
على أن تلك التجربة لم تكن مجرد تجربة عبرت في الحياة وانتهت، كانت بمثابة تنويه عالي الصوت، أن الأدب ليس خيارا جيدا للعيش، ليس خيارا حتى اضطراريا للعيش. إنه باختصار، خيار مضطرب جدا، ولا يجب مؤاخاته كثيرا. الذي يأتي من الأدب يمكن أن يبهج الكاتب، يجعله يبتسم، يمنحه أحساسا بجدوى حتى لو قليلة، لكن ليس الجدوى المستمرة، والمراد وجودها دائما وأبدا.
أقول هذا للمرة المئة ربما، وأقوله بمرارة حين أشاهد كاتبا مسنا، يضع مؤلفاته على الأرض، قريبا من معرض للكتاب في بلاده، ويجلس أمامها، واضعا لافتة تقول: أبيع كتبي لأعيش.
إنه مشهد حزين للكتابة بلا شك، والمفترض في كاتب، في الغالب أنفق حياته في محاولة التعبير، وإيصال الأفكار والمعرفة للناس، وتقاعد عن البوح بسبب ظروف كثيرة، أن يكون له عائد ثابت يأتيه سنويا، ويجعله آمنا مطمئنا أن الحياة تمضي كما هو مفروض أن تفعل. ونعرف جميعا أن العاملين في الحكومة في أي وظيفة، يحصلون في النهاية على تقاعد، فيه شيء من الأمان حتى لو كان بسيطا.
مؤسف فعلا أن التونسي نجيب بوزيان، يحاول أن يجعل كتبه مورد رزق، في زمن صعب جدا، لم تعد فيه حتى الوظائف التقنية، مورد جيد، ونستطيع أن نفهم ذلك حين نرى حملة البكالوريوس والماجستير، في مواد علمية، يدورون في الشوارع بحثا عن رزق، ويعملون في مهن لا تشبه مؤهلاتهم، مثل قيادة التاكسي، أو حراسة المنشآت، أو حتى فراشين في مرافق عامة، يصنعون الشاي والقهوة للموظفين.
الموضوع ليس بيع كتب للعيش، وهذه الكتب القليلة حتى لو بيعت كلها وبأسعار مضاعفة، وهذا ما قد يكون فعله أحدهم شاهد الكاتب، وتعاطف مع المشهد، لا تكفي للعيش، إنما في مأساوية الطرح نفسه، أي التقاط الخيار المأزوم، وتفعيله، ومحاولة جعله خيارا هاما.
في بلادنا العربية لا يمكن الاستغناء عن المهن أبدا، لا يمكن التقاعد مبكرا، والاعتماد على الاسم والشهرة، وإنتاج الكتب، وكما قلت هي أدوات زائفة، ولذلك تجد المبدعين من جيلنا وأجيال أخرى، استمروا في العمل المهني في وظائف متعددة، حتى مرضوا أو ماتوا.
كنت كتبت منذ عامين عن شاعر أمريكي، كان يجلس على رصيف في مدينة نيويورك، وهو يضع إعلانا عن بيع القصائد لمن يريد. إنها قصائد طازجة، يكتبها في التو واللحظة، بناء على طلب الزبون الذي ربما يكون عاشقا، أو مهووسا بنجمة سينمائية ما، وحتى معارضا لسياسات دونالد ترامب، ويريد قصيدة، في ذمه. الشاعر كان يكتب تلك الأشياء ويحصل على أجر، ولفت نظري من الفيديو الذي شاهدته، أن الأمور كانت عادية جدا، لا أحد يضحك أو يبدو مستغربا من الذين يمرون في المكان، كأن الأمر مألوفا للجميع، وأنا لا غرابة في أن تصنع شعرا « «Fastوتبيعه.
فيديو الشاعر الأمريكي ذكرني بشاعر تعرفت إليه أيام الدراسة في مصر، بدأنا معا تقريبا، لكنه لم يستمر كما يبدو، كان لا يملك سوى قصائده التي يكتبها يوميا، وهو راقد في البرد وتحت المطر، في سطوح إحدى العمارات، لديه موقد يعمل بالكيروسين، وبراد قديم للشاي، وقلة ماء، ولحاف ممزق، وطقم من الملابس هو نفسه الذي ينام به ويقوم به كان حين يجوع، يذهب إلى محلات بيع الفول والطعمية، يقول للبائع، اعطني سندوتش فول بقصيدة، وسندوتش طعمية بقصيدة أخرى، كان يبدو جادا وهو يخرج القصائد من جيبه، لكن العاملين في تلك الأماكن لا يكترثون لجديته، وغالبا ما يعطونه ما يريد بوصفه فقيرا جائعا.
الخلاصة، هي الخلاصة نفسها التي لن نبحث عنها ولكن تجيء بنفسها، تأمين الحياة بمهنة لا بأس بها، ثم الكتابة بعد ذلك. وعلى الذين يرددون دائما أنهم مبدعون وليسوا موظفين ليعملوا، أن يسكتوا، لا مجال للحكي بحروف وضع الزمن نقاطه عليها وانتهى الأمر.
*كاتب من السودان

- الإعلانات -

#اكتب #فقط #القدس #العربي

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد