الأتراك والعرب.. حكاية اللقاء الأوّل واستمراريته
الأتراك والعرب.. حكاية اللقاء الأوّل واستمراريته
التقى العربُ والأتراك أوّل مرّة في عهد الأمويّين، اعتباراً من النصف الثاني من القرن السابع. ولهذا الّلقاء طابعٌ عسكريٌّ، إذ كان الأتراك بالنسبة للعرب “أعداء” يجب القضاء عليهم لتوسيع حدود الدولة الإسلامية. حقّق العرب إنجازات كبيرة ضد الأتراك في آسيا الوسطى، بخاصّة في عهد الحجّاج بن يوسف، عندما كان والياً على خراسان، وكانت القيادة العسكرية لقتيبة بن مُسلِم. لكن مع وفاة قتيبة، اتّخذت القوة السياسية للعرب منعطف صعودٍ وهبوط.
حدثت تغيّرات كبيرة بعد الأمويين في العلاقات العربية – التركيّة، لا سيّما خلال العصر العباسي. كان وقوف الأتراك إلى جانب العرب ضد الصينيين في معركة “نهر طَلاس” عام 751 نقطةَ تحوّل في العلاقات بينهما. وفي وقتٍ لاحقٍ، أخذ تبنّي الأتراك للإسلام وتيرة سريعة.
عندما انزعج الخليفة العبّاسي المأمون من موقف العرب والفُرس ضد سُلطته، قرّر جذبَ الأتراك إلى جانبه، وبالتالي تعزيز جيشه بالجنود الأتراك. يُروى أنّ عدد الأتراك في جيش المأمون بلغ حوالي ثمانية أو عشرة آلاف. بعد وفاته أصبح شقيقه المعتصم خليفةً بدعم من الأتراك، حيث تألّف جزء كبير من الجيش من عناصر تركيّة. بعد ذلك، بدأ الأتراك يتّخذون مواقف حاسمة ليس في المجال العسكري فحسب، بل في المجالين الإداري والسياسي أيضاً.
وعندما ضعُف العباسيون، غزا البويهيون بغدادَ عام 945، وحكموها لما يقرُب من قَرْن. بعد هيمنة الفاطميين في القرن الحادي عشر، استولى القائد السلجوقي طُغْرُل بك على بغداد عام 1055، وأخذ الخلافةَ تحت حمايته.
التقى العربُ والأتراك أوّل مرّة في عهد الأمويّين
وفي مصر، التي كانت أرضاً عربيةً، انتمى معظم الحكام من الطولونيّين والإخشيديّين والأيوبيّين والمماليك إلى أصول تركية بصورة عامة. غير أنّ البعدَ الثقافيَّ والأدبيَّ للعلاقات العربية – التركية شهدَ تطوّراً ملحوظاً في العصر العبّاسي. فقد ألّف محمود الكاشغَري “ديوان لغاتِ التُّرك” خلال تلك الفترة، وكان أوّلَ قاموس تركي مخصص للعرب، قدّمه إلى الخليفة العباسي المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله.
وبحلول القرن الثالث عشر، أدّت الحملات الصليبية والهجمات المغولية إلى التقارب بين العرب والأتراك، حيث هاجر أتراك كيبتشاك الفارّين من هجمات المغول إلى مصر وانضموا إلى المماليك. وقد تمَّ خلال تلك الفترة إعداد كتبٍ لتعليم اللغة التركية للعرب في مصر خلال العصر المملوكي، من بينها: “كتابُ الإدراك في لسانِ الأتراك” لأبي حيّان؛ و”كتابُ ترجمانِ اللغتين التركية والعربية” لـ خليل القُونَوي؛ و”كتاب التحفة الزكيّة في اللغة التركية” (كاتبه غير معروف). كما كَتَبَ القاضي مصطفى الأرضرومي أوّل كتابٍ في السيرة النبويّة باللغة التركية، وذلك برعاية السلطان المملوكي المَلِك المنصور.
وبدءاً من القرن الرابع عشر، بدأت علاقات تجارية كبيرة بين العالم العربي والإمبراطورية العثمانية، خصوصاً عندما هدّد البرتغاليون التجارةَ وسُفُنَ الحج في منطقة الهند والبحر الأحمر، حينها أيقن العربُ أن العثمانيين قادرون على حمايتهم بدلاً من المماليك. وكان هذا أحد الأسباب المهمّة التي ساهمت في وقوع المناطق العربية تحت الحكم العثماني بسهولة. وبعد معارك مَرْج دابِق (1516) والرّيدانيّة (1517) في عهد السلطان سليم، تمّ ضمُّ معظمِ الأراضي العربية إلى الأراضي العثمانية، واكتسبت بذلك العلاقات العربية – التركية بعداً جديداً.
بعد ذلك جَلَبَ العثمانيون العديدَ من العلماء والحرفيين والفنّانين من المناطق العربية، بخاصّة من مصر، إلى إسطنبول. كان الهدف تحويل المدينة إلى مركزٍ ثقافيٍّ للدولة العثمانية، لكنّ انعكاسات هذا الوضع أثارت انتقاد المثقفين العرب، إذ رأى كثير منهم أنّّ هذه السياسة الثقافية للإمبراطورية العثمانية أوقفت تقدُّمَ الأدب والفنّ والعلوم والفكر. ومن الجدير بالذكر أن هذه المرحلة في الأدب العربي توصَف بأنّها “فترة ركود”، أو “فترة انحطاط” من قِبَل مثقفين عرب مثل جورجي زيدان، وفرَح أنطون، وشوقي ضَيْف، وأدونيس، وغيرهم.
تماهت المجتمعات غير المُسلمة ضمن الإمبراطورية العثمانية التي اتّسمت بكونها إمبراطورية متعدّدة الجنسيات واللغات مع الحركة القومية في مرحلة مبكرة بعد الثورة الفرنسية، مما أسفر عن مناضلة العديد من الدول داخل الإمبراطورية من أجل الاستقلال والانفصال عنها. لم تنتشر فكرة القومية بين المجتمعات غير المسلمة فحسب، بل بين الأتراك أنفسهم سرّاً، على الرغم من كونهم من العنصر الإسلامي في الإمبراطورية.
كما بدأت فكرة القومية العربية في الظهور سرّاً كردّة فعل على القومية التركية التي تطوّرت في المنطقة على يد أعضاء حزب “الاتّحاد والتَرَقّي”. ضمن هذا الإطار، لا بدَّ من الإشارة إلى سيرة ساطِع الحُصَري باعتبارها “حالة” مهمة، فقد كان ساطع الحُصَري (أو ساطع بك بالمسمّى العثماني) من أنصار فكرة “الأمّة العثمانية”، باعتباره أحد التربويّين البارزين في العهد العثماني، لكنه تحوّل إلى أحَد أبرز المنظّرين للقومية العربية نتيجة الإقصاء الذي مارسه القوميون الأتراك تُجاهه. ولا تختلف الظروفُ نفسُها التي حوّلت “ساطع بك” إلى “ساطع الحُصَري” عن تلك التي عاشها العديد من المثقفين في المنطقة العربية.
وعلى الرغم من أنَّ معالم الانهيار الأولى بين العرب والأتراك بدأت مع ظهور الحركة الوهابية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وتمرّد محمد علي باشا على الدولة العثمانية المركزية؛ اعتُبرت الحركات القومية من نقاط الانهيار الرئيسة بين العرب والأتراك. كما ازدادت المخاوف المستقبلية لبعض المثقفين العرب بعد مكافحة الإمبراطورية العثمانية العناصرَ القومية في البلقان، فضلاً عمّا ترتَّب عن الحرب بين العثمانيين والروس. في الواقع، إنّ الدولة العثمانية التي بدأت تنزِف قِواها لم تعد قادرة على حماية أراضيها، مما عنى لسكّان المنطقة العربية أنّها لن تستطيع حماية أراضيهم، وبالتالي عليهم حمايتها بأنفسهم.
ومع ذلك، فإنَّ السلطان عبد الحميد أجّلَ فصلَ العناصر الإسلامية من عَرَب وأكراد وألبان وغيرهم عن الإمبراطورية العثمانية، وذلك باتّباعه سياسة الخِلافة الإسلامية، لكنّ ضغوطَه المتزايدة على المعارضة المدنيّة، دفعتها إلى التنظيم سرّاً. ومن المثير للاهتمام أن المعارضين العرب ضد العثمانيين عملوا جنباً إلى جنب مع أعضاء حركة “الاتحاد والترقّي” التركية القوميّة ضد سياسات عبد الحميد القمعية. وكان خليل غانم – وهو عربي إثنياً – أحد المتحدّثين باسم حزب “الاتحاد والترقي”. أمَّا في عام 1897 فقد تأسّست جمعية مناهضة للسلطان عبد الحميد في مصر، بين شخصيات عربية مثل رشيد رضا ورفيق العظم، إضافة إلى شخصيات تركية.
بعد إعلان النظام الملكي الدستوري (المسمّى بـ”المشروطيّة”) عام 1908، أثارت بعضُ المقالات المنشورة في الصحافة العثمانية ضد العرب، من جرّاء ثورات حدثت في منطقة عَسِير، ردودَ فعل الناس في المناطق العربية. بالمقابل، ظهرت مقالات معادية للأتراك في بعض الصحف العربية الصادرة في بيروت ودمشق، حيث انتقدت سياسات “التتريك” للحكومة.
ساهمت الغزوات الصليبية والمغولية في تقارب الطرفين
بعد حروب البلقان، أدّت الممارسات القمعية لأعضاء “الاتحاد والترقي” في المنطقة إلى رغبة شعوب المنطقة في الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، بخاصّة بعد إلزام اللغة التركية في مؤسسات الدولة، مما أثار ردود فعل الناس، فسمحوا باستخدام اللغة العربية في المدارس والمحاكم. قرّبت هذه السياسات المَرِنة بين العرب والأتراك مجدداً، وكان في جدول أعمال السياسة آنذاك منح العرب الحكمَ الذاتي أو إقامة دولة اتّحادية عاصمتها حلب.
في عام 1913، عقد العرب خارج الحدود العثمانية مؤتمراً في باريس، ودعا أعضاء حزب “الاتحاد والترقي” بعض ممثلي العرب إلى إسطنبول حيث ناقشوا مَسائل إدارة الدولة، ووضع اللغة العربية، وإنشاء جامعة عربية في إسطنبول على غرار “دار الفنون”.
بعد الحرب العالمية الأولى، عُيّن جمال باشا قائداً للجيش الرابع العثماني في سورية، وجلب معه سياسة تخويف خطيرة في المنطقة. أدّت تلك السياسة القمعية إلى تصاعد النزعة القومية لدى العَرَب. وزادت السياسات الصارمة حيث نُفيت العديد من الشخصيات العربية إلى الأناضول. وكانت الإدارة التركية تهدف إلى تعطيل التركيب القبلي التقليدي في المنطقة لتسهيل إدارتها. في العام نفسه، مع اندلاع “الثورة العربية الكبرى”، ازداد التوتر بين النخبة العثمانية وأهالي المنطقة.
من ناحية أخرى، دافع العديد من النخب التركية في تلك الفترة عن حقّ العرب في الحركة القومية مثل الأتراك. على سبيل المثال، يقول عمر سيف الدين، أحد كُتّاب القصة البارزين في الأدب التركي: “إذا انتصرنا، فسنحرّر العراق ومصر والهند من البريطانيين، وتونس والمغرب والجزائر من اضطهاد الفرنسيين. إنَّ العرب الذين هم إخواننا في الدين، في هذه الحال، سيتحرّرون من الأسْر لينالوا حريتهم القومية والدينية، ويَحْكُموا أنفسهم ويُعيدوا الحياة لحضارتهم”. كما يكتب في نصّ آخر: “مَثَلُ الأتراك والعرب واحد. المثل الأعلى التركي هو التوجّه نحو الشرق بنفس الفكرة لإنقاذ آسيا. أمّا المثل العربي فهو التوجّه نحو الغرب لإنقاذ إفريقيا. لا يمكن لأحدٍ أن يُنقذ العالمَ الإسلامي المستعبَد في آسيا وأفريقيا، إلّا هذين الأخوين الشريكين في الدين”.
(أكاديمي ومترجم تركي، أستاذ اللغة العربية في جامعة أنقرة)
#الأتراك #والعرب. #حكاية #اللقاء #الأول #واستمراريته
تابعوا Tunisactus على Google News