- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

الأربعطاش .. والحجر السياسي!

الأربعطاش .. والحجر السياسي! لأول مرة منذ عشر سنوات أقضي هذه الذكرى بعيدا عن شارع الثورة الذي أغلقوه اليوم لتعقيمه من المواطنين/الفيروسات الذين كانوا سيلوثون الفضاء العام النقيّ فألزموهم بيوتهم في ايقاف تحفظيّ، اه عفوا، في حجر سياسي.. اللعنة، أقصد حجر صحي.
حين أقف في شارع الحبيب بورقيبة كنت أحس أنه يبدأ من قلبي. كم غنينا وصحنا، كم شعارات رفعنا، كم سقطنا ورُكلنا ونهضنا، كم ركضنا ورقصنا وقبّلنا وقـُبلنا، كم بكينا، كم بكينا، كم بكينا. دخلته طفلة على أكتاف أبي ومراهقة ثورية وعضوة في حزب وصحفية مبتدئة وعاشقة حالمة. كل أربعطاش، خُطوة؛ الشارع فارغ ..خُطوة؛ الشّارع يغلِي. شارع السقــوط الحر: ضيّق كالحيرة واسع كالفكرة… خال منّـا اليوم، مثلما نحن خالون من أي أمل. أنــا لم أحسّ بهزيمةٍ في حياتي مثل اليوم وحق الرفض يُسلب منا بلُطفْ، وشارعنا مُغلق، ونحن في بيوتنا كفئران مذعورة ننتظر أن تختفي الكورونا في أربعة أيام.
عشر سنوات ونحن نركضُ وراء خيط دخان. أحرقنا العمر لساعة نصر لم تأت. كنت أريد أن أكتب نصّا متفائلا عن الأربعطاش، لكنني لم أجد أمرا يدعوني للتفاؤل. واليوم ما من داع لأن نأمل أننا سنكون بخير. لا يوجد خير قادم، صدّقوني. لم نكن نظّن أنها ستكون فردوسا دنيويا مُلونّا، لكنها الان دون شكّ ديستوبيا ظلماءْ.
لو طُلب مني كتابة رأيي عن الثورة منذ سنة لقلت أنها لن تصبح أبدا موضوعًا مستهلكا  لأنها فعل وجودي يعيد إنتاج نفسه، لإنها دون شك نقيضُ الإبتذال وأن الثورة فكرة، و الفكرة لا تموت وكلّ ذلك الهراء الصبياني عن ضرورة المقاومة، والتصدي للرجعيين ومحاربة الارهاب بالفنّ والسينما والباليه والمزود… اليوم لم يعد في مقدور الشعب أن يحدد معالم هذه التجربة مع كل الضوضاء التي تخنقنا : ضوضاء تبييض الإرهاب و تبييض الفسادين و تبييض فاشييّ النظام السابق.
الثورة ماتت، مثلما مات الرب عند نيتشه. لروحها السلام، الله أكبر، ليرحمها بوذا و الاله باخوس. لكن كيف فعلنا ذلك؟ إلى أين نسير الآن؟ أين كل الشموس؟ ألم نسقط في منحدرٍ طويل؟ ألسنا نتيه كما لو كنا عبر عدمٍ مطلق؟ ألسنا نشعر بأنفاس الفراغ في وجوهنا؟ أليس الليلُ  ليلًا باستمرار؟ هل ما زلنا نسمع شيئًا من ضجيج حافري القبور الذين دفنوا الثورة؟
ماتت الثورة! وتظل الثورة ميتة! ونحن من قتلناها! كيف يمكننا أن نعزي أنفسنا، نحن أكبر القتلة؟
 
هذه المرّة نحن عارون تماما في وجهِ الوِحشــــة، نكررّ، حرية .. كرامة وطنية .. ولا ننالُ منهما شيئًا سوى صدانا. الوطنُ إن إستهان بنا أضحى غُربة وهذا ما حدث. الحريّة، هذا الأمرُ الجلل، والمفهومُ المُدهش، البعيد جدّا. إن لم يكن هذا الجيل حرّا فإن الحرية ليست حقيقيّة. هذا الجيل، الذي تشكل وعيهُ في فترةِ ثورة، وشبّ على قيم الحريّة في الخطاب والضمير والإختيار. أنا مثلا لا أحس أنني حرة. ماذا يفعل أولاد الكلب؟  يُنفروننا من الشأن العام عبر ترذيله و يُتفهون السياسة لنراها عبثا، هؤلاء المهرجون. بخطوات عشوائية وقمع خفيف مُزيّن، يجهزون جيلاً من السلبيّين، من الخائفين، من الهاربين الى أوطان أخرى. مرهقون حد الإختناق، مثقلون بخطايا عشر سنوات من الجري في الدوائر، محملون بأوجاع مضاعفة وكلّ رفاقنا في الجلاّز بعد أن خذلناهم جميعا. تحت وطأة هذا الحزن الساحق نفقد قدرتنا على المقاومة. بعد الثورة خير… أيّ خير بربكم، أنا لا أرى أي خير. نحن لا ندري من نحن، أي ريح رمت بنا هنا، في هذا المستنقع. نحن جبناء جدا، متخاذلون جدا، متعبون جدا.
تخيّل أن تصلك رأسُ أخيك في كيس بلاستكيّة إلى كوخك القذر في قرية عمياء معزولة عن العالم. وتخيّل أن الارهابيين هم الان رموز دولتك، تخيّل أن جرحى الثورة معتصمون اليوم على الاسفلت، وتخيّل أن رئيسك ينتظر بغلة لتتعثّر في العراق حتى يحرّك ساكنا، وتخيّل أن رئيس حكومتك هو أيضا وزير الداخليّة، وأن رئيس برلمانك  المدنّي هو أيضا رئيس حزب اسلاميّ عارض أن تكون الدولة مدنيّة. هل يوجد فعل أكثر غرابة من أن نأمل خيرا وسط هذا الهمّ والغم السيريالي.حتى لا يأكلوا ذعركم بكلامهم عن الأمل  والمستقبل، نحن في هذه المرحلة بلا هدفٍ، و تقريبًـا بلا هُويّة. فليكن لنا ذُعرنا على الأقل. فليسمحوا لنا على الأقل بأن نحسّ بأمر ما.. أي شيء، حتى لنتأكد أننا مازلنا أحياء. نقتربُ من الهدمِ التّام و نخافـُه، لأنّـه هذه المرّة تجاوز تعديل المسار أو اصلاحه..
الأمر ليس اختلافنا على التعريفات والتسميات، ماهي؟ ثورة، انتفاضة، مسار ثوري.. زمّارة.. الأمر أنهم جعلوا (أو جعلنا) مفهومها أيا كانت التسمية غارقا في الطوباويّة حتى بنينا حُلما كبيرا وشاهدناه يهوي ويسكر عظامنا. لم؟ لأن أغلبنا كان ينتظر المعجزات، التغيير السريع، الجنة الموعودة. لأننا سمحنا لأنفسنا بأن نختبر النيرفانا ونحتجز وعينا  في تلك اللحظة التاريخية حتّى أفقنا من نشوتنا ووجدنا أنفسنا نسبح في العدم بعد عشر سنوات .. بمقاربة الثورة الفرنسية فان المرحلة الأولی من الثورة التي يسميها كرين برينتون مرحلة شهر العسل (اقتحام سجن الباستيل ) دامت في تونس  لسنوات من الوهم والثمالة. رغم العثرات المتعددة كان الأمل متجددا كلّ سنة بالتغيير.. احتفالات النصر لم تكن لأسابيع معدودة بل كانت لسنوات; ها نحن نحتفل بتونس الاستثناء العربي في انتخاباتها الاولى، ثم تونس الاستثناء التي أرست دستورها، ثم تونس الاستثناء وأول رئيس منتخب، اه، فزنا بنوبل للسلام، انظروا.. انتصرنا على الارهاب، انظروا كيف يتوافق الشيخان، كيف تسلم السلطة بسلام، انظروا يا أصحاب الثورات الفاشلة من العرب، كيف ننظم انتخابات ثالثة، كيف ننظم مناظرات رئاسية… واصلنا هذا السلوك الساذج، حمّى التفاخر والكبرياء والأنا المتضخمة!  رغم أننا كنا بالتوازي مع ذلك كلّه ندفن شهداء الاغتيالات وشهداء الارهاب ونشهدُ الزور والنفاق والكراهية والتكفير والفقر والموت، كنا ننكر ذلك كلّه، لأننا “الاستثناء”. ربما لسنا استثناءا في نهاية الأمر. لنواجه ذلك، ربما.. نحن مجرد شعب عليه أن يتعلم كيف يتواضع، ويتوقف عن ترويج صورة مثالية واهية. شهر العسل انتهى أيها التونسيون. احتفلنا بالثورة لعشر سنوات ثم جاءت الكورونا والحجر السياسي للحكومة العرجاء (عرجاء لأنها وزرائها مفقودون،وأشياء أخرى) وحبسنا في بيوتنا حتى ندرك أن احتفالات الثورة كل سنة وكرنفال الأحزاب والأعلام كانت نفاقا نخفي به عجزنا، لم يفهم ذلك سوى من نزلوا للشارع كل سنة ليحتجوا، لا ليحتفلوا ويصبح الشارع العجوز ساحة غوغاء كل يرقص فيها على ايقاع بنديره مقسما بولائه لحزبه.. كالقردة.
 لنعد للثورة الفرنسية، أتعرفون ماحدث في الـيوم التاسع من الترميدور (Le mois de thermidor)، أعدم الثوري الحالم ماكسيميلان روبسبيار وصاح وهو علی المقصلة: “الثورة  تأكل أبناءها”… لنقل أن الرابع عشر من جانفي هو الـيوم التاسع من شهر الترميدور..  ونحن، الان، في بيوتنا، جميعنا ماكسيميلان روبسبيار.
 
(إذا لم تكن نصف شعب….. تمرد على نصف ثورة
وأكمل طريقك حتى ترى هذه الارض حرة !)
 
 
 
 
 
 
المصدر

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد