الأسواق الشعبية في الجزائر..أو عندما يتساوى الكل
تحصي الجزائر طبقا لتصريح سابق لوزير التجارة كمال رزيق 1480 سوق، في 1541 بلدية، وبينما تضم بعض البلديات أكثر من سوق واحد، تفتقر بلديات أخرى للأسواق. وطبقا لمصادر من وزارة التجارة، تحصي الجزائر 422 سوق أسبوعي مختلف في 48 ولاية (حتى الآن)، أشهرها أسواق تيجلابين، سيدي عيسى، السوڤر، ماسرى، الحراش، بليل، حاسي الفدول وغيرها طبعا.
وفي الجزائر، توجد مدن تحمل تسمية “الجمعة” وأخرى تحمل اسم السبت والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وكل مدينة أو قرية تمت تسميتها باسم اليوم الذي ينعقد فيها سوقها الأسبوعي، وهذا يعطي فكرة واضحة حول أهمية الأسواق الأسبوعية في التاريخ الجزائري، ويؤكد الفكرة القائلة إن الأسواق الشعبية هي تراث جزائري غير مكتوب لم تحسن الجهات الوصية التعامل معه.
يقول الدكتور موكال عبد الرحمن: “الأسواق الشعبية في الجزائر هي حاجة وقيمة اجتماعية وتراث غير مادي جزائري، والمؤسف حقا هو أن السلطات الجزائرية ووزارة الثقافة تحديدا لم تفتح هذا الملف الثقيل، على العكس تماما عند جيران الجزائر الذين حوّلوا الأسواق إلى استثمار سياحي وثقافي مربح”. ويضيف: “الحقيقة التي يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون هي أن الأسواق الشعبية ليست جزءا من تاريخ الجزائر، بل كانت في محور الأحداث التاريخية، في بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر وفي العهد العثماني، وأثناء ثورة التحرير المجيدة، ولا يوجد سوق شعبي في الجزائر لم يشهد أحداثا أثناء ثورة التحرير، ولكن ماذا عن فن الغناء الذي نشأ داخل الأسواق الشعبية، وماذا عن “المدّاحين”، وماذا عن رواة القصص الذين انقرضوا؟”.
أما الاهتمام بهذا التراث، حسب المتحدث، فما يزال بعيد المنال، لأن البداية يجب أن تتم عبر إطلاق دراسة اجتماعية وأخرى اقتصادية وثالثة تاريخية حول هذا الموضوع، بعدها تعيد الجهات المختصة تصنيف الأسواق التاريخية، هذا إذا توفرت النية لدى السلطات المتخصصة، وعلى رأسها وزارات الثقافة والتجارة والسياحة. ويختم المتحدث كلامه قائلا: “صراحة، أنا مستغرب من الطريقة التي تتعاطى بها وزارات الحكومة مع أسواق هي جزء من تاريخ الجزائر، بل ومن تاريخ أغلب مدنها”.
الفرجة على “الدبزة”!
من أغرب ما يقع في الأسواق الجزائرية أن بعض مرتادي الأسواق الشعبية لا يأتون من أجل التسوق أو مشاهدة السلع أو معرفة الأسعار، بل من أجل الفرجة على “الدبزة”. إنها الحقيقة التي يعبّر عنها أحد مرتادي الأسواق، ولا يمكن أن يخلو سوق شعبي من الشجارات وأحيانا المواجهات العنيفة.
وزوّار الأسواق الشعبية لا يأتون دائما من أجل البيع والشراء، بل أحيانا للفرجة والضحك، السوق بالنسبة للجزائري هو الموقع الأكثر إثارة للانتباه، المكان المملوء بالقصص والعجائب، ليس فقط من أجل البيع والشراء بل للفرجة والترفيه، وجمع الأخبار وأحيانا البحث عن صديق نعرف أنه سيزور السوق.
السيد ميسوم رشيد، رجل ستيني من ولاية الأغواط، تنقل في سنوات عمره بين أغلب أسواق الجزائر، يقول: “شاهدت في أغلب الأسواق التي زرتها معارك حامية، بين تجار أحيانا وبين زبائن، أو مواجهات جماعية. بعض الشجارات التي شاهدتها وقعت بين تجار، بسبب نزاعات حول الموقع الذي يعرض فيه التاجر سلعه، فهمت بعدها أن التجار يتصارعون بشكل خاص في الأسواق الأسبوعية غير القارة على المواقع الإستراتيجية في السوق”، ويضيف المتحدث: “أحيانا تقع “دبازي” لأسباب تافهة، بشكل خاص في شهر رمضان، لكن للأمانة أغلب المشكلات هذه تحل بسرعة، لأن الموجودين في السوق يحرصون على الهدوء رغم النزفزة”.
سوق غرداية.. جوهرة الأسواق الجزائرية
يتفق الجميع أن جوهرة الأسواق الجزائرية، أو السوق التاريخي الأقدم في الجزائر، هو سوق غرداية العتيق بساحته المعروفة، هذا السوق لا يمكن سرد قصته الكاملة هنا، وسنعود لتقديم تاريخه وحكايته، لكن من الإجحاف الحديث عن الأسواق وتاريخ وتراث الأسواق في الجزائر دون تقديم هذا السوق الذي يعود تاريخ بدايته إلى نحو 1000 سنة، وكان أحد أعم الأسواق التي تربط الجزائر بالقارة الإفريقية، والأهم أنه جزء من التراث الإنساني العالمي بتصنيف من اليونسكو، هذا السوق كان ومازال الوجهة السياحية الأهم في الجزائر بشهادة سياح أجانب، إلا أنه يعاني الإهمال الآن بسبب مشكلات عدة.
أقوى جهاز تبادل الأخبار!
اليوم وفي عصر شبكات التواصل الاجتماعي، لم يعد أحد يتذكر طريقة تداول الأخبار والمعلومات في الجزائر قبل 50 أو 60 سنة، أو حتى قبل قرن من الزمن، التجار كانوا وما يزالون إحدى أهم وسائل تداول الأخبار والمعلومات إلى اليوم. في الماضي سواء قبل 50 سنة أو قبل عدة قرون، كان التجار المتنقلون الأشخاص الوحيدين الذين يتنقلون بشكل دوري بين مختلف المدن، ويحصلون على أخبار المدن والقرى، وبالتالي يساهمون في تداول الأخبار، وحتى في الفترات الزمنية التي كان فيها تداول بعض الأخبار ممنوعا عبر وسائل الإعلام، فإن التجار كانوا ينقلون الخبر من مكان لآخر، وإلى اليوم قد لا يواصل التجار أداء هذا الدور بأساليب مختلفة، التجار يتداولون الآن أخبار الأسعار ووضعية السوق في مجال وفرة أو ندرة بعض السلع، أي تاجر خضر بالجملة يمكنه أن يعرف في غضون دقائق من جاره في أي سوق جملة سعر كل أنواع الخضر في ولاية جزائرية، بل الأسعار بالجملة والتجزئة، وهو ما لا يتوفر حتى لأجهزة الدولة المكلفة بالرقابة على الأسعار.
التجار المتنقلون أيضا لديهم معرفة دقيقة بالعادات والتقاليد في كل ولاية، والأهم من كل هذا أذواق الرجال والنساء في مختلف الولايات، فهم يعرفون مثلا ذوق سكان وهران في اللحوم، ونوعية الخضر التي يستهلكها سكان ولاية الجزائر أكثر، وهذا أيضا لا يتوفر لدى حتى بعض الباحثين المتخصصين، وهذا يجعل مجموع تجار الجملة وتجار المواشي والتجار المتنقلين أكبر شبكة أخبار متخصصة في الجزائر.
وهنا، يقول السيد مغريف سعيد، تاجر أبقار يتنقل بين أسواق ولايات سعيدة، سيدي بلعباس، تيارت، معسكر ووهران: “يمكن لأي تاجر أبقار أو مواشٍ أن يخبرك بدقة قريبة جدا من الواقع عدد الأغنام التي يستهلكها سكان وهران يوميا وعدد الأبقار، كما يمكن لتاجر الجملة للقماش أن يقول لك إن الأعراس في هذه السنة قليلة أو أن المهور قليلة، لأنه يعرف على وجه الدقة كمية الأقمشة التي تستعمل في خياطة ملابس العرائس في أي من الولايات، وهو بالتالي قادر على تقييم الوضع الاقتصادي للمواطنين بدقة شديدة”، ويلخص المتحدث كلامه بالقول مازحا “نحن أقوى جهاز مخابرات في الجزائر، المخابرات مع احترامي لها، قد لا تعرف مثلا أن الجزائريين في شهر أوت لم يأكلوا اللحم، أو أن الإقبال على شراء ملابس العيد قد تراجع، وهو ما يتوفر للتجار بشكل خاص الذين يتنقلون من ولاية إلى أخرى”.
ويل لـ”الشفّار”
يرزق الله سبحانه الجميع في السوق، ولكن نوع الرزق الذي يحصل عليه اللصوص مختلف أحيانا. بعض اللصوص أو “الشفّارة” ينتهي بهم الأمر في غرف الإنعاش في المستشفيات، الموجودون في الأسواق الشعبية قد يتسامحون مع كل شيء إلا شيء واحد هو اللصوص، وإذا أردت أن تتصور مقدار سوء الحظ بالنسبة لأي من البشر، يجب أن يصادف وجودك في سوق شعبي القبض على أحد اللصوص من قبل الباعة، فهذا الرجل قد يتعرض للضرب المبرح من مجموعة كبيرة من الأشخاص، ضرب قد يفقده الوعي، وقد يؤدي لإصابته بجروح خطيرة، وقد لا تتمكن الشرطة في نهاية الأمر من معرفة هوية الشخص الذي اعتدى بالضرب على اللص أو المتهم باللصوصية، لأن الجميع سيغادر الموقع ولا أحد سيقدم شهادة أو إفادة.
الأمر مختلف نسبيا مع بعض المنحرفين من المتحرشين بالنساء الذين قد يتعرضون للضرب لكن مع التشهير، وهنا، يقول السيد مسعودي جمال تاجر متنقل “التجار هم أكثر الناس حرصا على الأمن، وبالتالي هم الأكثر عداء للصوص، وفي كثير من الأحيان يقوم تجار متنقلون بضرب اللصوص بشدة حتى لا يتجرأ أي لص أو سارق من الاقتراب من السوق، وحتى يشعر الجميع بأن هذا السوق آمن، الأمر نفسه بالنسبة للمتحرشين بالنساء، لأن تواجدهم يمنع النساء من ارتياد الأسواق”. ويضيف جمال: “أرى أن عقاب اللصوص بالضرب المبرح أمر طبيعي، كيف يمكن التصرف مع من يضبط متلبسا بالسرقة، يجب أن ينال جزاءه. وفي رأيي الخاص، حتى اللص يفضل أن يتعرض للضرب الشديد على أن يتم تسليمه للشرطة ويدخل السجن لفترة غير معروفة”.
ضابطالشرطة “كوردوني”!
وقعت أحداث القصة في تسعينيات القرن الماضي في السوق الشعبي حاسي الفدول الشهير الذي يتوسط ولايتي الجلفة وتيارت، في هذا السوق، جلس عام 1995 إسكافي (كوردوني) يرتدي ملابس رثة لا توحي أبدا أنه شخص مهم، لكن الأمور انقلبت فجأة عندما همّ مصلح الأحذية بإخراج مسدس ومعه بطاقة هوية مهنية تؤكد أنه ضابط في شرطة، وقام بتوقيف شخص مطلوب كان محل بحث، هذه الحادثة أثارت ذهول مرتادي السوق الشعبي الكبير.
نفس الحادث بطريقة مختلفة في سوق مدينة غرداية في عام 1996، عندما طارد متسوّل (طلّاب) أحد المطلوبين، وتبيّن أنه رجل أمن مهم كان متخفيا في زي متسوّل وكان مكلفا بمراقبة أحد المطلوبين. الأسواق الشعبية، في الحقيقة وفي أغلب الحالات، تعجّ بأعوان الأجهزة الأمنية، سواء الذين يرتدون ملابس رسمية أو المكلفين بمهام بحث وتحرّ سرية.
وهنا، يقول السيد بلنوار حسين، تاجر متنقل يبيع الأواني المنزلية: “في أغلب الأسواق يعرف التجار القدامى أعوان الأمن المكلفين بالبحث والتحري، وفي بعض الأحيان يكون عناصر الأمن السريون متنكرين لأسباب تتعلق بطبيعة المهام المكلفين بها”، ويضيف المتحدث: “فمن الطبيعي أن ينتشر أعوان الشرطة السريون في الأسواق لأنها أماكن يتواجد بها الكثير من المنحرفين والمطلوبين للأجهزة الأمنية، وهي فوق هذا أماكن تحتاج لتواجد أمني مكثف لعدة أسباب، أقلها أن بعض الباعة يعرضون سلعا ممنوعة للبيع وأحيانا سلعا مسروقة من ولايات بعيدة. ولهذا، فإن القليلين فقط يعرفون أن الأسواق تعدّ أحد أهم الأماكن التي تراقبها مصالح الأمن وتحرص على التواجد بها”.
الوحدة المغاربية والوحدة الإفريقية!
في أي سوق شعبي بأي ولاية جزائرية، ستجد تجارا من الغرب ومن الشرق، وأشخاصا يبحثون عن سلع مختلفة أدوية، قطع غيار، سلع قديمة من ولايات في كل جهة من جهات الجزائر، لكن بعض الأسواق تضم مواطنين من دول جارة للجزائر، تجارا ومتسوقين. ففي كل أسواق ولاية تمنراست، تجد تجارا من مالي، موريتانيا، النيجر، تشاد ونيجيريا، وفي بعض الأحيان من دول إفريقية أخرى، بعضهم يعمل في نشاط المقايضة والبعض الآخر تجار صغار، وتجد أيضا متسوقين أو زبائن من دول إفريقية عدة، بعضهم يرغب في شراء التمور المجففة التي يزداد الطلب عليها في الدول الإفريقية وتعدّ أهم صادرات الجزائر إلى الجوار الجنوبي، الزبائن والتجار يتحدثون عدة لغات هنا، العامية الجزائرية التارڤية، الحسانية الهوسا، وهي لغة شائعة الاستعمال في مالي والنيجر، حتى أن بعض التجار الجزائريين العاملين في هذه الأسواق يتقنون أغلب هذه اللغات، يقول السيد لخنف علي، تاجر أعشاب وعقاقير طبية من تمنراست “جئت إلى تمنراست قبل 30 سنة من ولاية الجلفة والآن أنا أتكلم 8 لغات، منها التارڤية والساحلية والحسانية والهوسا، ويمكنني التواصل مع أي تاجر أوزبون”، ويضيف المتحدث: “لا يوجد سوق في الجزائر يضم مواطنين من دول عدة مختلفة في اللغة والديانة مثل سوق تمنراست الكبير، هنا يمكن شراء وبيع كل شيء الأمور المسموح بتداولها وحتى الممنوعة، يمكن هنا بيع وشراء أي شيء بكل ما تحمله الكلمة من معنى”، ويضيف المتحدث من لم يزر سوق أسيهار وسوق وسط مدينة تمنراست، لا يمكنه القول إنه يعرف الجزائر وأسواق الجزائر، لأن البيع والشراء هنا مختلف تماما ولا شيء يشبهه في الجزائر”.
ويقول السيد أحمد بجاح، تاجر متنقل يبلغ من العمر 75 سنة، تخصص في بيع قطع الغيار والخردوات: “إلى غاية عام 1975، كانت كل الأسواق الشعبية في الجزائر تعج بتجار من تونس ومن المغرب، تجار ملابس وبائعون متخصصون في الأعشاب الطبية وحتى معالجون بالأعشاب. بعدها، في بداية تسعينيات القرن الماضي، عاد التجار المتنقلون المغاربة إلى الجزائر، لكنهم غادروا بعد عام 1994”. ويضيف المتحدث: “كانت الأسواق الشعبية في الجزائر المكان الذي يلتقي فيه التونسي بالمغربي والجزائري، ويبيع ويشتري الجميع، الله يرحم أيام زمان”، ويضيف المتحدث: “المغاربة كانوا متخصصين في بيع الأعشاب، وأحيانا كانوا يعملون في العلاج الشعبي، بما في ذلك جبر الكسور وقلع الضروس، بينما تخصص التونسيون في بيع الأحذية والجلود وزيت الزيتون. وبما أن الحدود كانت مفتوحة، فإن الزبائن كانوا من دول المغرب العربي الثلاث الجزائر تونس والمغرب، لكن مع مرور السنوات، لم تعد الأسواق الجزائرية، عرفت ولاية تندوف وقبل اندلاع النزاع المسلح في الصحراء الغربية، بأنها كانت تضم أحد أهم الأسواق الموسمية، هنا كان يلتقي تجار من موريتانيا، المغرب، الصحراء الغربية ودول إفريقية، وما يزال بعض كبار السن يذكرون هذا السوق”.
مليار سنتيم و5 دينار
في بعض الأسواق في الجزائر، يمكن لمن يرغب في شراء بضاعة بـ02 أو 3 مليار العثور على ما يريد، كما تباع أشياء بـ20 دينارا وأحيانا بـ05 دينار، هذا التناقض الغريب يعني أن الموجودين في السوق هم من كل أطياف المجتمع، من أغنى الأغنياء الراغب في شراء سيارة يفوق ثمنها مليار، أو بضائع بالجملة وسلع أخرى، في ذات الوقت يمكن أن تجد سلعا معروضة للبيع بأسعار رمزية 5 إلى 20 دينارا، الجميع يمكنه أن يبيع ويمكنه أن يشتري، والجميع أيضا يمكنه أن يتفرج.
يقول السيد مسعودي جمال، تاجر متنقل بين أسواق ولايات الشرق الجزائري: “إذا أردت أن تعرف الحقيقة كيف يرزق الله عبده، فعليك أن تتجه إلى سوق شعبي، فبعض البائعين لا فقراء معدمون لكنهم يرزقون، قيمة السلعة التي يعرضها بعض صغار البائعين قد لا تصل إلى 5000 دينار، في ذات الوقت قد تجد بائعين وتجارا يعرضون سلعا تفوق قيمتها 2 أو 3 مليار، ومن حكمة الله تعالى أن الجميع يسترزق ويحصل على ما يريد ويخرج من السوق بـ”المكتوب” الذي كتبه الله له”.
المبيت حيّا!
إذا قدر لك أن تعمل بائعا في سوق شعبي كبير، فأنت محكوم عليك بالمبيت حيّا أو عدم النوم في الليل، قبل الساعة الرابعة صباحا تبدأ حركة الأسواق الشعبية، يبدأ إقبال التجار والباعة، والكثير من الأسواق، لاسيما المخصصة للبيع بالجملة تبدأ فيها الحركة اعتبارا من الساعة 11 ليلا.
قول مأثور معناه “على الساعة الثانية ليلا تنام الحجرة والشجرة”، يعبّر بدقة عن الثلث الأخير من الليل عندما ينام الجميع باستثناء من يقوم الليل من العابدين، أو المناوبين في كثير من المهن، ومعهم العاملون في الأسواق الشعبية، بالتحديد أسواق الجملة التي تتخصص في بيع المواشي، الخضر والسيارات، إنهم يبيتون أحياء، لا نوم في الليل، الأسواق الشعبية في أغلب الولايات هي مكان الأعمال الشاقة وهذا رأي العاملين فيها. يقول السيد كشرود فتحي، تاجر جملة للخضر والفواكه: “أعمل منذ 17 سنة في سوق الخضر الوطني في ماسرى، وأضطر للتواجد في السوق بداية من الساعة 23 ليلا إلى غاية الساعة السادسة، يحدث هذا 05 أيام في الأسبوع، ويتواجد معي 2 إلى 03 عمال للمساعدة. بالنسبة لي، من الضروري التواجد في السوق من الساعة الحادية عشر ليلا، لكن بالنسبة لبعض التجار القادمين من ولايات مجاورة، فإن التعب يكون مضاعفا، لأنهم يقضون ساعات في الطريق قبل الوصول إلى السوق ومن ثمة العودة”، ويضيف: “إنها فعلا مهنة شديدة التعب، ولا يعرف هذا إلا من عايشها”.
ويقول السيد بن دنية مهني، تاجر ملابس متنقل: “أزور في كل أسبوع 5 أسواق متنقلا بين 4 ولايات في الغرب الجزائري من جنوب ولاية تيارت إلى ولاية سيدي بلعباس، وفي الأسبوع الذي لا أعمل فيه، أتوجه لشراء السلع من أسواق بالشرق الجزائري، بمعنى أنني لا أرتاح بالمطلق، وأقصى ما أحصل عليه هو فترة أسبوعين أو ثلاثة في كامل السنة”.
السيرك في الأسواق
الأسواق الشعبية الموجودة اليوم في الجزائر تختلف تماما عن تلك التي كانت موجودة إلى غاية بداية تسعينيات القرن الماضي، الأسواق الشعبية التاريخية في الجزائر انقرضت، وتحوّلت إلى أسواق “طراباندو”. يقول السيد طايع الله مسعود، باحث في التاريخ الجزائري: “الأسواق الشعبية القديمة التي كانت معروفة لا وجود لها الآن في الجزائر، ما هو موجود هو ساحات تجارية فوضوية تحتفظ بجزء من تراث الأسواق القديمة، لكن 50 بالمائة على الأقل من تراث الأسواق القديمة في الجزائر اختفى تماما. ففي الماضي، كانت الأسواق تحتوي على ما يسمى الضامن، وهو تاجر قديم يكون هو الضامن لزملائه التجار إزاء السلطات، سواء العثمانية أو الاستعمارية، وكانت مشاهد قوافل الجمال وهي تدخل أسواق الجنوب في غرداية، بسكرة، الأغواط، أدرار وتمنراست، موثقة بصور أحدثها يعود إلى عام 1969.
الأسواق في الجنوب كانت تعج أيضا بباعة الملح والصوف والوبر، أما في الشمال، فإن صورا أرشيفية تؤكد أن بعض الأسواق كانت تخصص مرة كل أسبوع لبيع الحمير والبغال، لكن الأغرب هو أن بعض أسواق الشمال في الجزائر، بشكل خاص في الغرب الجزائري، كانت تضم لاعبي ألعاب بهلوانية، وأشخاصا يلعبون بالقرود والأفاعي، فيما يشبه السيرك الصغير، أيضا تواجد في الأسواق مقامرون، وإلى غاية وقت قريب كانوا موجودين، وهذا رغم أن التجار كانوا يرفضون وجودهم ويطاردونهم. لكن الأكثر ألما في موضوع العادات والتقاليد التي اختفت من الأسواق هي المدّاح والراوي، أو المغني الذي كان موجودا في أغلب الأسواق الشعبية وكان يلقي قصائد شعبية طويلة ويغنيها بالربابة والقصبة، للأسف الشديد، هذا التراث الشعبي الغالي انقرض أو كاد. عادة أخرى حميدة كانت موجودة في الأسواق الشعبية الجزائرية هي عادة الجمعة كما تسمى في بعض الأسواق، وهي أن يشترك عدد من الأشخاص في شراء كبش أو عجل أو جدي ويتقاسمون لحمه، ويذبح في السوق، وهذه العادة ما زالت موجودة في بعض الأسواق الشعبية في الشرق والغرب إلى اليوم، ومعها يوجد جزارون يبيعون اللحم بعد الذبح مباشرة في السوق، وتتعرض هذه الفئة للتضييق من قبل السلطات. عادات كثيرة اختفت من الأسواق الجزائرية لا يمكن حصرها، لكن المشترك بينها هو أنها جزء من تاريخ وتراث كل الجزائريين، الخدمة المتبقية إلى اليوم في بعض الأسواق الجزائرية هي المقاهي المتنقلة التي كانت تنصب في شكل خيم، ومحلات بيع الشواء التي كانت أيضا تنصب في شكل خيم.
ماذا يرث الكلب؟
من أغرب قصص التراث القديمة التي يعتقد أنها حدثت بالفعل، قصة أحد الأغنياء، عاش قبل قرون، كان يملك قطعانا من المواشي بلا عدد. وفي ذات يوم، افتقد إحدى أفضل النعاج وكانت على وشك الولادة، فاجتهد في البحث عنها، وكان يبحث أيضا عن كلب حراسة (طاروس) افتقده أيضا. وبعد يوم كامل من البحث، وجد النعجة قد ولدت خروفين اثنين، وكان الكلب المفقود قد بقي بقربها يحرسها في الصحراء، وقد تمكن من قتل ذئاب حاولوا قتل النعجة ووليديها. فتأثر الرجل كثيرا لوفاء الكلب، وفي اليوم الموالي طلب حضور شهود وأشهدهم على أن النعجة والخروفين هما ملك للكلب الوفي. وانقضت السنوات وتحوّلت النعجة إلى قطيع ضخم من الغنم، ومات الكلب فاحتار الرجل في القضية، وسأل كثيرا من الناس خاصة أن الكلب ملك له والنعجة أيضا، فأشاروا عليه باستفتاء فقيه أو رجل دين، وجاءت الفتوى الغريبة التي لا أثر لها سوى ما يحكى من القصة التراثية.
تقول القصة إن الفقيه سأل الرجل عن مصير الأموال التي جناها الرجل من بيع صوف وحليب قطيع المواشي المملوك للكلب، فأجاب الرجل إن المال موجود، فقال الفقيه إن على الرجل أن يذهب إلى سوق المواشي ويحمل معه مال الكلب ويسوق أمامه مواشي الكلب، وفور وصوله إلى السوق في الصباح الباكر، يستقبله رجلان، “النزّال والمكّاس”، فيقسم القطيع بينهما مناصفة ويقسم المال أيضا ويعود، أي أن مال الكلب في الرواية “يرثه المكّاس والنزّال”.
هذه القصة التراثية المتداولة في مناطق السهوب تكشف عن ازدراء الناس لمهن النزّال والمكّاس، والأهم من هذا ارتباط حياتهم بأسواق المواشي، ويجب أن نشير هنا إلى أن تقديمنا للقصة لا تعني ازدراء أي من العاملين في أي مهنة، بل هي تقديم لجزء من تراث الجزائر.
النزّال والمكّاس والجلاّب
في التراث الشعبي الجزائري، يعرف “النزّال”، وفي بعض المناطق يسمى الدرّاس، بأنه سمسار المواشي أو التاجر الذي يعرض المواشي للبيع، وهي ليست مملوكة له، فهو مجرد وسيط بين صاحب الغنم والزبون. ويسمى الدرّاس لأنه يجمع الغنم بالطريقة التقليدية، ضمن صف تلتقي فيه رؤوس المواشي من الجانبين، حتى يتمكن الزبائن من فحصها قبل الشراء.
مهنة النزّال أو الدرّاس كانت ضرورية في الماضي، لأن البدو الرحل كانوا يتنقلون إلى المدن مشيا على الأقدام، ويضطرون للبحث عن أماكن لإيواء المواشي قريبة من المدن، ويضطرون تحت ضغط الحاجة لإبقاء أغنامهم عند النزّال صاحب الإسطبل، ويفرض عليهم الأخير شروطه لإبقاء المواشي، منها السماح له بعرض المواشي وبيعها وقبض عمولة إجبارية. ومن هنا جاء كره النزّال، والذي عوّض الآن بمهنة تاجر المواشي الذي يضارب في الأسعار.
أما المكّاس فهو من يتقاضى مقابلا عن كل شخص يعرض سلعا للبيع في السوق، وبسبب فقر الناس الشديد ووجود بعض النصوص الشرعية الإسلامية التي تحرم المكوس، فإن الناس كانت تكره المكاس وتفر من العمل في هذه المهنة.
في أسواق المواشي، يوجد أيضا الجلّاب، وهو تاجر متخصص في بيع كل ما يحتاجه البدوي القادم من الصحراء أو الريف، فالبدوي الذي يبيع المواشي يحتاج المواد الغذائية والملابس والسجائر وغيرها. ويجلب التجار أو الجلابون بالتعبير الجزائري كل ما يحتاجه البدوي للعيش في الصحراء، الجلاب لا يبيع في العادة بمقابل مالي بل يقايض مربي المواشي في المواسم، مقابل الصوف والسمن أو “الدهّان الحر” كما يسمى، واللبن و”الكليلة” وغيرها. ويقال في تعبير أهل البادية في صحراء الجزائر قديما، فلان ذهب لكي يأتي بـ”الجلّب”، أي لكي يأتي بمستلزمات الحياة في الصحراء بعد بيع السمن والصوف واللبن وفي حالات بعض المواشي.
لكن أغرب المهن المعروفة في سوق المواشي مهنة الرّمال بفتح الراء والميم، والرّمال هو متسكع يعمل في العادة لصالح تجار المواشي أو المضاربين أو الذين كانوا يسمون في السابق “النزّالة”، وتنحصر مهمة الرّمالين في الادّعاء بأنهم تجار مواش ويقومون بالتقليل من قيمة المواشي التي ترد إلى السوق، وعرض أسعار شديدة الانخفاض على البدو الرحل، حتى يسهل الأمر لاحقا على المضاربين لشراء المواشي بأقل سعر.
المخازني.. البرّاح المدّاح والقهواجي
يقول الدكتور ولد رابح محمد، الباحث في التاريخ الجزائري: “تشير الوثائق التاريخية الموجودة إلى أن الأسواق ازدهرت بشكل خاص في العهد العثماني في الجزائر، وكانت إلى غاية بداية القرن العشرين عبارة عن أماكن تباع فيها المنتجات الفلاحية والمواشي وتباع فيها أيضا بعض المواد الغذائية، وهي أصل الأسواق الشعبية”. ويضيف المتحدث: “كل الأسواق الشعبية القديمة في الجزائر الآن كانت أسواق مواشي أو إبل، على أن كل شيء كان يباع فيها”.
سوق المواشي ليس مجرد مكان لبيع وشراء الأغنام يعقد مرة كل أسبوع، بل هو مكان يلتقي فيه الناس من كل الصحراء القريبة من المدينة، أو من الريف القريب، وفي هذا المكان تباع كل الحيوانات من الحمير والبغال والخيول والأبقار والدواجن. وهنا يلتقي الناس مرة في الأسبوع، فيتبادلون الأخبار، ويتداولون في أمور الحياة، ولهذا السبب كانت أسواق المواشي والتي تحوّلت لاحقا إلى أسواق شعبية، تعج بالناس حتى غير الراغبين في البيع والشراء، وتنصب خيم بيع المأكولات وخيم المقاهي.
وينتشر اللصوص وممارسو القمار، وبما أن المكان يعج بالناس، فإن المسؤولين المحليين في عهد العثمانيين والاحتلال الفرنسي كانوا يوظفون حراسا لتأمين الأسواق من أعوان الباشاغا أو الحاكم الذين كانوا يحملون اسم “المخازنية” في بعض الأسواق الكبيرة، كان ينتشر عناصر عسكر في العهد العثماني أو درك في العهد الاستعماري، الباشاغا أو الحاكم كان يوظف البرّاح الذي يبلغ الحاضرين بقرارات السلطات أو الدولة، مرددا العبارة الشهيرة “الحاضر يعلم الغايب” التي بقيت متواترة إلى اليوم.
يقول السيد جدي كريم، الباحث في التاريخ الجزائري: “في القديم، كان الاقتصاد كله قائما على الأسواق، حيث يتم تبادل السلع التجارية، كما أن السوق بالنسبة للسلطات في القديم كان الموقع الذي تفرض فيه ومنه الدولة سيادتها على الشعب، ومنه تراقب كل شيء”. ويضيف المتحدث: “أغلب المؤرخين وعلماء الاجتماع والرحالة كانوا يكتبون ما يشاهدونه من الأسواق، لأنها في القديم كانت أهم الأماكن التي تكشف طبيعة المجتمع وحالته الاقتصادية بدقة شديدة”.
لحم الغزال بالرطل و10 أنواع من اللحوم!
يقول كبار السن من ولاية الأغواط إنه إلى غاية سنوات ثلاثينيات القرن الماضي، كانت لحوم الغزلان تعرض للبيع في سوق الأغواط القديم، ومعها لحوم النعام وزهم النعام الطبيعي، المعروف كأحد أهم أدوية آلام العظام. ولأن المنطقة السهبية القريبة من ولاية الأغواط كانت غنية بالحيوانات البرية، فإن لحوم الغزال كانت تعرض للبيع بشكل طبيعي هنا. في تمنراست، كانت لحوم حيوان الأروي والغزال تباع بشكل عادي، ومعها جلود أغلب الحيوانات المفترسة الإفريقية وأنياب الفيلة، وهذا إلى غاية خمسينيات القرن الماضي، وإلى اليوم تباع عصافير إفريقية نادرة سرا في تمنراست، أما في سوق ماسرى بولاية مستغانم، يقول بعض كبار السن إن السوق كان الوحيد في الجزائر الذي كانت تباع فيه لحوم من 10 أنواع على الأقل، وهي لحوم السمك المجفف، حيث عرفت مستغانم قبل قرون بمهنة تجفيف السمك التي انقرضت الآن ولحوم الأغنام المجففة والطازجة ولحم وشحم الجمل المجفف واللحوم الطازجة للدجاج والديك الرومي وغيرها، بعدد يفوق 10 أنواع من اللحوم المختلفة. ويقول كبار السن إن من تقاليد المنطقة أن اللحوم المجففة كانت تربط بخيط من الشريط، وتعلق في إحدى غرف البيت، وكانت أيضا تعرض للبيع لدى تجار كانوا يمتهنون تجفيف اللحوم والأسماك، ومعالجتها بالملح، وهي العادة التي انقرضت تماما الآن.
#الأسواق #الشعبية #في #الجزائرأو #عندما #يتساوى #الكل
تابعوا Tunisactus على Google News