- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

الإبداع الكائن في الحضور وفي الغياب… نصري حجاج: أنشودة السينما الفلسطينية ومرثيتها الحزينة | القدس العربي

منذ 30 دقيقة

plus gray
حجم الخط

النعي الذي نشرته عبير حيدر زوجة الكاتب والمخرج الفلسطيني الكبير نصري حجاج، كان مرثية مُوجعة تليق بغياب مُبدع ظل حتى الرمق الأخير مشغولا بالأوطان التي عاش فيها، واستوعبت أحلامه، وترك فيها أثراً من ذكريات وحكايات حلوة ومُرة، فلم يغب عنه حُلم العودة لفلسطين وأرضها وترابها، فقد أوصى بنثر رماد جثمانه ما بين البقاع العزيزة والبلدان الحُرة التي حملته حياً فامتن لها حياً وميتاً، مُخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، وعند قبر والدته في صيدا وقرية الناعمة وسوريا وتونس.
لقد أغنت الوصية التي أنبأت بها الزوجة عن كل كلمات الوفاء والولاء وأبيات الشعر وعرائض النثر، فالرجل الذي مات غريباً في العاصمة النمساوية فيينا عن عمر ناهز السبعين عاماً، أوجز في خطابة وعوّض عن كل المعاني بدلالات الأمكنة وخلفيات المشوار الطويل، الذي مشاه حافياً على جسور الشوك مُهتدياً بضوء الموهبة التي جمع فيها بين الكتابة الأدبية، والإبداع السينمائي، فهو خليط من ثقافة مُتنوعة امتزجت فيها السياسة والصحافة بالسينما والقصة القصيرة، فصار مالكاً لأدواته ثرياً في لغته مُرهفاً في إحساسه.
ولد نصري حجاج في مُخيم عين الحلوة عام 1951 فأبوه من قرية الناعمة في فلسطين وأمه لبنانية الأصل، وقد انخرط في صفوف الثورة الفلسطينية مُبكراً فاكتسب خبرات سياسية واسعة انعكست بعد ذلك في أعمالة الأدبية القصصية وأفلامه التسجيلية والقصيرة، إذ اعترف هو نفسه بأنه دخل عالم السينما من بوابة القصة القصيرة، التي لم يستمر في كتابتها طويلاً، حيث هوى السينما فاستغرق فيها ولم تترك له مجالاً للإبداع القصصي، لاسيما أنه انتقل للدراسة في بريطانيا وأبعد منها بعد استكمال دراسته مباشرة، فجاب بعض عواصم العالم طولاً وعرضاً، لكن ظلت لتونس مكانة خاصة في قلبه النابض بحب فلسطين والبقعة العربية الخضراء. وظل نصري حجاج يتحرق شوقاً للقرى والمُدن الفلسطينية، وما بين نوبات الشوق والشوق، كان يُطفئ نار اللهفة والفراق، ببعض الإبداعات، ولعله نجح تماماً في ترجمة إحساسه الصادق حين فرّغ كل مشاعر الحنين إلى الوطن والأصدقاء والبيوت القديمة والشوارع والمزارع والحارات، فأنجز فيلم «الحقل القرمزي» عام 2015 وفيلمه الأهم «ظل الغياب» الذي شكل بانوراما شاملة عن حياة من سبقوه إلى الموت، إذ ضمّن البانوراما الإنسانية الشجية، مواقف وأزمنة وأبعاداً وسيراً ذاتية لأولئك الذين رحلوا وفوق شفاههم رحيق فلسطين.
وفي ظل الغياب لم يعتن حجاج كثيراً بلغة الرثاء، ولم يُخصص لها حيزاً ولا هامشاً واسعاً من المساحة الدرامية، لكنه أمعن في طرح قضية أكثر قوة وحضوراً، ألا وهي حكمة الغياب والابتعاد والنفي خارج البلاد، إذ كرر طرح السؤال الحائر الباحث عن إجابة بلا جدوى بين أوراق الساسة والمفاوضين والوسطا،ء والشركاء.. لماذا تحمل فلسطين وحدها وزر العالم وأخطائه التاريخية، ولماذا هي بالذات غنيمة المُغتصب؟

وعلى هذا ظل الموت في فيلم «ظل الغياب» هو الملمح الرئيسي الدال على الموضوع، وشاهد الإثبات الصادق على الصلف الإسرائيلي وفلسفة التغييب القسري للحقيقة وظلالها، من خلال محاولات النفي الدائمة للرموز الفلسطينية التي شملتها الرؤية السينمائية، فجمعت بين أبطال المقاومة وأبطال الفكر والقلم، كالحاج أمين الحسيني ومحمود الهمشري وكمال ناصر وراشد حسين وإدوارد سعيد وإميل حبيبي.

حياة في المنفى

وما بين المنفى والموت دارت فكرة الفيلم الفلسفية وبرزت النماذج والشخصيات التي استوحى منها البداية، ففي فناء إحدى المدارس الابتدائية تم دفن أربعة شبان من المُقيمين في مخيم عين الحلوة، حيث لم تسمح السُلطات الإسرائيلية بدفنهم في مقابر عائلاتهم، فاضطر ذووهم لدفنهم في المدرسة، ومن هنا جاء الامتداد الدرامي والواقعي لخط الفيلم الرئيسي، فعمد المخرج الراحل نصري حجاج إلى تضمين الشخصيات والزعامات الكبرى داخل السياق العام ليفضح نذالة الكيان الصهيوني، الذي نفى الفلسطيني خارج أرضه ووطنه حياً وميتاً، بينما سن قانوناً يسمح بدفن الإسرائيلي الذي يعيش خارج إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، التي تم الاستيلاء عليها والمُسماة زوراً وبهتاناً بدولة إسرائيل. وكانت إمارات ذلك الفضح مُتمثلة في القامات التي استُشهدت، أو ماتت وحظرت إسرائيل دفنها في بلادها وتحت ترابها، فمن بين ما أثار جدلاً واسعاً في هذا الخصوص رحيل رسام الكاريكاتير الشهير ناجي العلي، الذي مات ودُفن في لندن، ومثله الشاعر معين بسيسو، لم يُدفن في غزة مسقط رأسه وموطنه، وإنما دُفن في مصر بوصفها الأقرب إلى غزة، وكذلك الرئيس ياسر عرفات لم تسمح سلطات الاحتلال بدفنه في القدس وفق وصيته!
وعلى هذا ظل الموت في فيلم «ظل الغياب» هو الملمح الرئيسي الدال على الموضوع، وشاهد الإثبات الصادق على الصلف الإسرائيلي وفلسفة التغييب القسري للحقيقة وظلالها، من خلال محاولات النفي الدائمة للرموز الفلسطينية التي شملتها الرؤية السينمائية، فجمعت بين أبطال المقاومة وأبطال الفكر والقلم، كالحاج أمين الحسيني ومحمود الهمشري وكمال ناصر وراشد حسين وإدوارد سعيد وإميل حبيبي، بالإضافة إلى المذكورة أسمائهم سلفاً.

«كما يقول الشاعر»

ووصلاً للعلاقة التي كانت تربط المخرج الراحل بالشاعر محمود درويش وإبداعه، قدّم ما يشبه الوثيقة السينمائية عن حياة الشاعر ومحطاته الرئيسية في فيلم جاء عنوانه كالتالي.. «كما يقول الشاعر» وقد جاء الإيجاز بغية الإثارة والتشويق على طريقة درويش نفسه كنوع من المُحاكاة لتقريب شخصيته للمُتلقي وتناغماً مع أسلوبه الإبداعي الفريد، ولا شك في أن الفيلم أضاء الكثير من الجوانب الحياتية والإنسانية في حياة الشاعر، وهو ما يُعد إضافة لعمل السينما التسجيلية على توثيق السير الذاتية المهمة وإدماجها داخل الصنوف الفنية بمحتواها الاستثنائي الكاشف لإبداعها. ولأن نصري كان قاصاً مُحترفاً، استطاع الاستفادة من مهارات الكتابة في الصياغة السينمائية، فثمة علاقة وطيدة بين المجالين، حيث القدرة على الاختصار والاختزال والتكثيف هي العوامل المُشتركة بينهما، ولعل إتقانه لكتابة القصص القصيرة، كان دافعاً لترجمتها للغة الإنكليزية، الأمر الذي عزز بالطبع مكانته، وأثقل موهبته وخلق لديه زاوية بصرية خاصة مكنته من الرصد والتدقيق وإصابة الهدف بلا عناء أو استفاضة في غير محلها.
وكما تميز نصري حجاج في القصة القصيرة والسينما، على النحو الذي أشرنا إليه، كان متميزاً أيضاً في الكتابة الصحافية واختيار الموضوعات وصياغة العناوين الجذابة بشكل يُلفت النظر ويُثير شغف القارئ، فأهم ما كتب من مقالات وسطر من جُمل ذات معاني وأبعاد، جاء مُدرجاً تحت هذه العناوين، دماء محمود درويش في هآرتس ـ الشاعر الفلسطيني والشاعر الكوري والريح بينهما ـ لماذا أحببنا المُطران كبوتشي وكرهنا حارس القدس ـ اليهود في السينما العربية وصولاً إلى أم هارون ـ عن محمد شمس الدين في غيابة ـ عن شوق جدعون ليفي إلى غزة ـ إسراء غريب والفلسطينيات المقتولات ـ كنا نقرأ الأدب ونشاهد السينما في عين الحلوة أن تكون فلسطينياً في لبنان.
بهذه العناوين أشار المخرج والكاتب والسياسي نصري حجاج إلى همومه الأساسية، كما أشارت إلى عمق موهبته وثراء معلوماته وإحاطته بكثير من التفاصيل المُتعلقة بقضيته وهويته ودورة ومساره، كما أنه بكل ما أبدع وسع نافذة التنوير والتبصير، وألهم الأجيال اللاحقة لجيله، روح الإبداع والمقاومة، وربما لهذه الأسباب نعت وزارة الثقافة الفلسطينية بمزيد من الأسى والحزن المُبدع المناضل، ووصفة عاطف أبو سيف وزير الثقافة الفلسطيني بالفعل الثقافي الوطني، واعتبر رحيله خسارة كبيرة للعمل الإبداعي الفلسطيني والعربي.

كاتب مصري

- الإعلانات -

#الإبداع #الكائن #في #الحضور #وفي #الغياب #نصري #حجاج #أنشودة #السينما #الفلسطينية #ومرثيتها #الحزينة #القدس #العربي

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد