الاقتصاد الدائري فرصة لاعتماد منوال جديد للتنمية الحقيقية في تونس
بقلم الأزهر بنّور – لا يعد الاقتصاد الدائري مصطلحاً وليد السنوات الأخيرة، بل إنه يضرب بجذوره في العالم منذ عقود عند ابتكار مفهوم التدوير وإعادة الاستخدام، وظهر بشكل واضح في الدول الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية عندما حاولت حكومات تلك الدول استغلال التكنولوجيا والآلة في إعادة بناء أوروبا واليابان حيث سعت إلى استغلال ما تم تحطيمه بفعل الحرب من مصانع ومبان وبنية أساسية. وقد أصبح هذا الاقتصاد محل اهتمام كبير من قبل الحكومات خلال العشرية الأخيرة وذلك لعدة أسباب من أبرزها أن الاقتصاد الرأسمالي التقليدي وصل إلى مرحلة افتعال الأزمات والتوحش مما تسبب في الاستغلال المفرط للموارد المتاحة وتهميش جزء كبير من المجتمعات وجعلها خارج المعادلة الاقتصادية والاجتماعية ومع التطور التكنولوجي وخصوصا تكنولوجيا الاتصال والإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي سعت عدة فئات من المجتمع والمنظمات الدولية إلى إدماج النواحي الاقتصادية والبيئية والاجتماعية في نظرة متكاملة (الاقتصاد المستديم) تهدف إلى القطع مع المنظومة الحالية التي قد تتسبب في أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية وبيئية لا يمكن للبشرية أن تتحملها مستقبلا. فالاقتصاد الدائري هو ضمن البدائل الاقتصادية الجديدة ويتكامل معها مثل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والاقتصاد التشاركي والاقتصاد الأخضر والاقتصاد الأزرق…… ويعرّف الاقتصاد الدائري على أنه نظام اقتصادي جديد كبديل لنظام قديم يعتمد على الربحية والاستغلال المفرط للموارد المتاحة ويهدف هذا الاقتصاد إلى القضاء على الإهدار والاستخدام المفرط للموارد. ويعتمد بالأساس على منظومة التدوير من خلال إعادة الاستخدام والتثمين المستمر ويستند إلى مبادئ المشاركة والإصلاح والتجديد والإدماج وإعادة التصنيع وإعادة التدوير لإنشاء حلقات مغلقة ومثمرة تأتي بالنفع على الفرد والمجموعة وعلى البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة. والنتيجة المباشرة من اعتماد هذا النمط الاقتصادي هو التقليل من استخدام مدخلات الموارد إلى الحد الأدنى وخفض للنفايات والتلوث وانبعاثات الكربون. ويهدف الاقتصاد الدائري إلى الحفاظ على استخدام المنتجات والمعدات والبنية التحتية لفترة أطول، وبالتالي تحسين إنتاجية هذه الموارد والتقليل من الكلفة واستنباط أنماط جديدة من الانتاج. أما على المستوى الاجتماعي فإن هذا الاقتصاد يعتمد على مبدأ الادماج في الدورة الإنتاجية والاقتصادية من خلق فرص للعمل والنشاط لفئات كانت على هامش الحركة الاقتصادية بما يساهم في تحسين القدرة الشرائية بما أن المنتجات ستطول مدة استعمالها وتحسين ظروف الحياة خصوصا في المدن الكبرى. ما المقصود بالاقتصاد الدائري؟ هو عبارة عن نموذج اقتصادي يستهدف تقليل المهدر من المواد والسلع والطاقة والاستفادة منها قدر الإمكان، بحيث يتم خفض الاستهلاك والنفايات والانبعاثات، وذلك عن طريق تسلسل عمليات الإنتاج باعتماد تقنيات التدوير والتثمين وخلق قيمة اقتصادية كامنة تساهم في تعظيم القيمة المضافة الكلية وبالتالي الناتج المحلي الخام ويتطلب الاقتصاد الدائري هيكلة عمليات الإمداد بالمدخلات (مخرجات عمليات التدوير) والاسترسال للحصول على منتجات قابلة للتدوير من جديد ولديها مدة استخدام أطول. يسهم الاقتصاد الدائري أيضاً في تعظيم الاستفادة من جميع المواد الخام والمعادن والطاقة والموارد بمختلف استعمالاتها وبالتالي التقليل من الكلفة، فضلاً على تنويع عمليات إعادة التدوير والاستخدام وإعادة التصنيع والتطوير، بدلاً من نمط الهدر وإلقاء المخرجات في شكل نفايات غير قابلة للاستعمال والاستغلال. ويعيد الاقتصاد الدائري بوجه عام تطوير الأنظمة الصحية والاستهلاكية والتعريف بقيمة الأشياء وأهمية الاستخدام الفعّال والمثمر للمنتجات وتقليل الآثار السلبية الناجمة عن الأنماط الإنتاجية التقليدية، كما أنه يسهم في خلق فرص اقتصادية واستثمارية أفضل للشركات والمؤسسات، فضلاً على المزايا البيئية والاجتماعية. والمبدأ في الاقتصاد الدائري هو أن تصبح جميع “النفايات” مدخلات لعمليات تدويرية: المخرجات تكون منتجات جديدة أو مستجدة أو منتجات ثانوية قابلة للاستعمال أو موردًا مسترجعًا لعملية صناعية أخرى، أو كموارد متجددة للطبيعة، ومن الأمثلة على ذلك السماد المستخرج من النفايات الغذائية المنزلية والتي يمكن أن تنتج غازا قابل للاستعمال. هذا النهج التجديدي يتناقض ظاهريا مع الاقتصاد الخطي التقليدي، الذي لديه نموذج «خذ، اصنع، تخلص» من الإنتاج. لكن هذا التناقض ينتفي إذا تعمقنا في آليات تحقيق المنفعة الفردية والكلية للاقتصاد لأن الاقتصاد الخطي الذي يعتمد على تعظيم الربح من خلال التقليل من التكاليف المباشرة لعملية الانتاج وتحقيق القيمة المضافة المباشرة تتوقف سلسلة القيمة عند الاستهلاك بحيث يتم التخلص من المنتج المستهلك دون التفكير في تدويره وبالتالي مواصلة خلق القيمة وتحسينها بما يساهم في تحقيق الرفاه للمواطن الذي سيصبح في قلب العملية الانتاجية. وفي هذا الصدد يقترح مؤيدو الاقتصاد الدائري أن وجود عالم مستدام لا يعني انخفاضًا في نوعية الحياة للمستهلكين، ويمكن تحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والرقي أي التنمية في مفهومها الشامل دون خسارة الإيرادات أو التسبب في بروز تكاليف إضافية للمصنعين. الحجة هي أن المؤسسات التي تتبنى نماذج الأعمال الدائرية يمكن أن تكون مربحة أكثر من المؤسسات التي تحافظ على النماذج الخطية، ما يسمح للمجتمع بالاستمرار في الاستمتاع بمنتجات وخدمات مماثلة أو في كثير من الأحيان ذات قيمة اجتماعية أعلى بكثير من المنتجات التي يتم رميها في الطبيعة وتتسبب في تكاليف مباشرة (استثمارات ضخمة في البنية الأساسية للنفايات) وغير مباشرة (تكاليف عالية جدا على الصحة وبروز أمراض جديدة مكلفة وتعطل الاقتصاد والعمليات الانتاجية). وبالرغم من أن عديد الشركات الكبرى وصنّاع القرار في بعض الدول ومنها تونس، غير مقتنعين بالشكل الكافي بأهميّة الاقتصاد الدائري، فإن باحثين وجمعيات ورجال اقتصاد مقتنعين أن هذا النمط الاقتصادي الجديد سيمكن العالم من وضع منظومة جديدة قادرة على المحافظة على مكتسبات الاقتصاد العالمي وتثمينه والمرور به إلى مرحلة جديدة تراعي الإكراهات البيئية والاجتماعية وتضمن العيش المشترك على كوكب الأرض وتتيح لعديد البلدان والفئات الهشة في المجتمع من المشاركة الفاعلة في الدورة الاقتصادية. مجالات الاقتصاد الدائري يغطي الاقتصاد الدائري مجالات متعددة وواسعة تهم كافة نواحي الحياة العصرية، حيث أظهرت النتائج المستخلصة من الأبحاث التي قامت بها مراكز البحث في جامعة هارفارد الأمريكية، أن هذه المجالات تهم التطبيقات الصناعية لكل المنتجات والخدمات ومنظومات انتاج الغذاء والطاقة واطرق استغلال الموارد الطبيعية المتاحة. هذا إلى جانب الممارسات الفردية والمجتمعية والسلوك اليومي للمستهلك والسياسات الحكومية الكلية والقطاعية. ويشمل الاقتصاد الدائري المنتجات والبنية التحتية والمعدات والخدمات، وينطبق ذلك على كل قطاع صناعي وخدمي. وتدعو معظم مراكز البحث والاستراتيجيات الاقتصادية إلى الإسراع في تبني الاقتصاد الدائري من خلال البدء بالتحول من الوقود الأحفوري إلى استخدام الطاقة المتجددة وقد كان قطاع صناعة السيارات سباقا في التأقلم مع هذه المعطيات من خلال توسيع انتاج السيارات الكهربائية، وقد بادرت اليابان والاتحاد الأوروبي بوضع تشريعات تشجع على التحوّل الطاقي بالتزامن مع التحول الرقمي و”الاقتصاد4.0 “. كيف سيُغير العالم بحلول عام 2030؟ يعيش العالم على مبادرات وحلول لنموذج الاقتصاد الدائري بالاعتماد على الشفافية وزيادة الثقة في سلاسل الإمداد العالمية رغم ما شهدته من إشكاليات مع تفشي جائحة كرونا وتعطل الملاحة بقناة السويس مما جعل عديد الحكومات تفكر في التحكم بشكل أكبر في الموارد المتاحة وتعميم تدويرها بما يساهم في تحقيق حد |أدنى من الاستقلالية. لكن هنالك بعض الاقتصادات السباقة والمجددة تتمتع بوجود سلاسل إمداد دائرية محلية فعالة ومهيكلة يتم عن طريقها اقتسام الأرباح بشكل عادل بين المنتجين والمستهلكين وغيرهم من المتدخلين بما في ذلك أجهزة الدولة. وقد ساعدت الثورة الصناعية الرابعة التي اقتحمتها هذه الدول في انتشار هذا النمط الاقتصادي الجديد حيث تشكلت ملامحها في وسائل تكنولوجية مثل “بلوك شين” والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والنانو تكنولوجي، وأسهمت جميعها في انتعاش عدد من القطاعات مثل الاسترسال في عمليات الانتاج والنقل والاستهلاك والتدوير وتتبع المعادن من المناجم إلى المستهلكين وتحليل البيانات لاستخدامها في إعادة التصنيع والتدوير والتجارة على الخط. ويتوقع محللون أنه في أفق 2030 سيكون الاقتصاد الدائري حالة اقتصادية عادية في الدول التي لديها مقومات أساسية مثل الثورة الصناعية الرابعة وتخطيط جديد للمدن وطاقات بشرية متمرسة تستمد قوتها من مخرجات نظام تعليمي يعتمد على البحث والتجديد في مجالات الذكاء الصناعي والبيوتكنولوجيا والطاقات المتجددة وحماية البيئة هذا إلى جانب وجود حكومات تدمج الفئات المهمشة (ليس كعبء اقتصادي بل كفرصة لتوسيع قاعدة المستهلكين وصناع الثروة) وتستثمر في بنية أساسية جديدة تهدف لتحقيق رفاه المواطن وكرامته. وفي هذا الصدد سيستفيد العالم في 2030 من المبادرات البيئية التي أطلقت مؤخراً لمكافحة التغيرات المناخية والتحول نحو اقتصادات صفرية الانبعاثات الكربونية في شتى القطاعات. من هنا يأتي دور الاقتصاد الدائري في إعادة صياغة السياسات الحكومية باعتماد مقاربة كلية ولا تقتصر فقط على بعدها البيئي والاجتماعي بل تتخطاه إلى بعدها الاقتصادي والتوفيق بين مسارها الداعم للبيئة والمجتمعات وتلبية أهداف حماية المناخ وكوكب الأرض من جهة ومسارها في خلق الثروة وتوفير منتجات بأسعار مناسبة قابلة للتدوير. وتتسابق عديد الدول التي لديها حكومات وطبقة سياسية على وعي وإرادة أكبر بقيمة إعادة الاستخدام على دمج قطاعاتها العامة والخاصة لاعتماد تقنيات أحدث لإدارة ما لديها من موارد بشكل أكثر فاعلية وتجنب مخاطر تكدس النفايات الضخمة. وسينتج عن ذلك اقتصاد إصلاحي ومتجدد يحافظ على النظام البيئي ويزيد العائد ويعظم الاستفادة من الموارد وينتج عنه رخاء ورفاه لمواطني تلك الدول. أين تونس من كل هذا؟ يشكو المنوال التنموي في تونس من مواطن خلل عديدة حيث أصبح الاقتصاد غير قادر على خلق ثروة حقيقية من خلال اعتماد أنشطة مناولة بسيطة تستقطب استثمارات هشة ذات قيمة مضافة محدودة وذات قدرات تشغيلية لا تلبي حاجيات جحافل خريجي الجامعات من أصحاب الشهائد العليا. وقد نتج عن هذا المنوال التنموي تكريسا للاقتصاد الريعي أو الأوليغارشي وتفاوتا في نسق التطور الاقتصادي والاجتماعي وضغطا على سوق الشغل وبطالة وتآكلا للطبقة الوسطى وتعميقا للتفاوت الجهوي مع تهميش للبعد البيئي وإجبار فئات كثيرة من المجتمع على الانخراط في الاقتصاد الموازي كبديل للاقتصاد المهيكل الذي وضع حواجز قانونية وّإجرائية لتعميق تهميش جزء مهم من المجتمع. وقد قدّم عديد الخبراء خلال العشر سنوات الأخيرة تصوراتهم حول المنوال التنموي البديل الذي سيساعد على تحقيق تغيير جذري في البلاد لكن مقترحاتهم بقيت حبيسة منظومة اقتصادية وفكرية تقليدية خطية غير قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة لرفاه المواطن والاستغلال الأمثل للموارد المتاحة وإدماج الفئات الهشة والتموقع الفاعل في سلاسل القيمة الدولية والإقليمية والاستفادة المثلى من مكامن القوة لدى الاقتصاد الوطني وترسيخ الشفافية واسترسال المعاملات. إذا المسألة ليس في تحديد دور الدولة أو تفعيل التمييز الإيجابي أو اعتماد اقتصاد اجتماعي بل من الضروري الخروج من بوتقة اقتصاد يهدر الموارد ويكدس الفضلات ويستهلك طاقة ملوثة ويستورد منتجات لا تستجيب لأبسط قواعد الاستدامة ونجد هذا في القطاع الخاص والعام (أنظروا للمؤسسات العمومية وثقافة هدر المال العام وإلقاء النفايات واستنزاف الموارد الطبيعية وتبني حلولا صناعية وتكنولوجية وتنظيمية أكل عليها الدهر وحوكمة مكبلة للتجديد والتصرف الرشيد) وبالرغم من تعدد المبادرات والمقترحات ولجان التفكير والمخططات التنموية المتعددة وبرامج الإنعاش الاقتصادي والرحلات المكوكية للخبراء الدوليين من الجهات المانحة، ليس هنالك أي نتيجة تذكر بل إن الوضع الاقتصادي في تدهور مستمر وتخطى كل الخطوط الحمراء مما ينبئ بانهيار اقتصادي وإفلاس للدولة التونسية. إذا أين الخلل؟ إن الأزمة الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية الحالية التي تعيشها تونس سببها الرئيسي عدم القدرة على الاستباق والخروج من بوتقة الحلول الجاهزة والقطع مع منظومة اقتصادية واجتماعية لم تنتج إلا الإشكاليات المتفاقمة. إن مصدر الصعوبات التي نواجهها يكمن في أخطائنا الجسيمة في السياسات الاقتصادية وخلق تنافر بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية إنها أزمة عدم التقدم في الإصلاحات والوعي بضرورة وضع منظومة تخلق الثروة والرفاه وليس منظومة لتوزيع الفقر والتهميش والتفاوت الاجتماعي والجهوي. وقد أظهرت هذه الأزمة بصفة جلية عدم استعداد المجتمع ووعيه لمواجهة المخاطر الصحية والالتزام بقواعد المدنية والانضباط، في ضل عدم الثقة في الطبقة السياسية العاجزة على تقديم حلولا عملية للخروج من الأزمة وإعطاء المثال في تطبيق كافة البروتوكولات والإجراءات التي تقرها. الخلل يكمن إذا في غياب نظرة شاملة واستراتيجية تخرج من تغوّل نظام اقتصادي ريعي وخطي لوضع بدائل اقتصادية تتلائم ووضع البلاد وإمكانياتها الطبيعية والاجتماعية ومكامن قوتها والاستفادة من المنحى العام على المستوى الدولي في اتجاه تبني الاقتصاديات البديلة على غرار الاقتصاد الاجتماعي والتضامني (لا يمكن تركيز هذه المنطومة الاقتصادية بمجرد إصدار قوانين) والاقتصاد التشاركي والاقتصاد الدائري. وما يجري اليوم لدى فئات متعددة من المجتمع وخصوصا فئة الشباب التي فضلت البقاء يتونس، من ناحية استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لممارسة أنشطة اقتصادية جديدة لم تتفطن لها أجهزة الدولة ولا تحكمها قوانين، إلا دليل على أنّ منوال التنمية في تونس فاته القطار ويؤكد الأرقام أنّ الاقتصاد المهيكل التقليدي لا يمثل سوى 40 بالمائة من جملة المصادر المتاحة لخلق الثروة والخطر في ضل عجز الدولة على الاستباق يكمن في أن الأنشطة الجديدة أصبحت مصدرا للإثراء غير المشروع وتجارة الممنوعات والتهرب الجبائي وتبييض الأموال كما أنها مدخلا لاستقطاب الإرهابيين وتهديد الأمن القومي. لذا فإن غياب الدولة وعدم قدرة أجهزتها على مواكبة التحولات واستباقها جعلها عاجزة على وضع تصورات جديدة في مجالات الاقتصاديات البديلة. بل في كثيرا من الأحيان تفتقد للمرونة الكافية لدمج الأنشطة الجديدة وجعلها نافعة للمجموعة الوطنية وتضع في المقابل عراقيل مكبلة تدفع المبادرين إلى النشاط الموازي. فالاقتصاد الدائري في تونس موجود وبدأت تتسع رقعة نشاطاته إلا أنها تبقى أنشطة غير مهيكلة وبالتالي عاجزة عن خلق ثروة حقيقية وديناميكية اقتصادية واجتماعية كلية ومن بين أكثر الأنشطة التي تنامت خلال السنوات الأخيرة نشاط جمع الفضلات القابلة للتدوير “البرباشة” وتجارة الخردة حيث يشتغل فيها آلاف الأشخاص يوفرون مواد بلاستيكية ومواد صناعية وإلكترونية أخرى من النفايات لإعادة تدويرها وفي غياب أطر تنظم هذا النشاط فقد أصبحت بوابة لكل التجاوزات وتفقد قيمتها الاقتصادية والاجتماعية. ومن أبرز التجاوزات التي برزت خلال السنوات الأخيرة هو السماح بتوريد المستعمل من المنتجات من محركات سيارات وملابس وأحذية وحتى النفايات وذلك على عكس تجارب عديد الدول التي عملت على هيكلة نشاط التدوير وجعله منفذا لفئات اجتماعية هشة للاندماج في الحركة الاقتصادية. ومما زاد من صعوبة تثمين نشاط التدوير وجعله بديلا اقتصاديا حقيقيا هو اعتماد مثال التهيئة العمرانية لمدننا بشكل عشوائي تخطاه الزمن مما ولد مشهدا بيئيا واجتماعيا متأزما وبؤر توتر بالأحياء الشعبية تنتشر فيها البطالة والفقر والجريمة وبيئة خصبة لانتشار التطرف. إذا يجب أن يكون هدف كل الحكومات مهما اختلف لونها وانتمائها هو إنشاء اقتصاد تونسي دائري مستدام منخفض الكربون مدمج لكافة الفئات الاجتماعية يخلق الثروة ويفتح الآفاق للتشغيل. وذلك شريطة أن تكون أجهزة الدولة أكثر مرونة في التعامل مع التطورات التكنولوجية والسلوكيات الجديدة وتبني اقتصاد دائري ديناميكي كأحد الحلول العملية وغير المكلفة للخروج من عنق الزجاجة. الأزهر بنّورمستشار للمصالح العمومية
تابعوا Tunisactus على Google News