الباحث السياسي محمد عفان: لهذا حدث الصدام العلماني الإسلامي بمصر وتونس
يعدّ تفاعل التيارات العلمانية والإسلامية أحد سمات مرحلة الربيع العربي منذ اشتعال الثورات العربية في تونس عام 2011، وهذا التفاعل شهد صداما أحيانا وتوافقا أحيانا أخرى، وكان يطبع هذه العلاقة في مراحل عديدة لبسا في الفهم للطرف “الآخر”.
هذا اللبس أسهم في توتر العلاقة بين الطرفين في مراحل معينة كانت تشهد سعيا مشتركا من الطرفين لبلوغ انتقال سلمي للسلطة وبناء توافق حول انتقال ديمقراطي، لكن الدراسات التي تعنى بالمسارات الانتقالية ودور كل من الإسلاميين والعلمانيين فيها وأثر “التفاوض” في هذه العمليات المركبة التي طبعت المسار العربي كانت محدودة.
وفي هذا الصدد يطرح الباحث المصري محمد عفان، الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة إكستر والمدير التنفيذي لـ”الشرق للأبحاث الإستراتيجية”، كتابه “صدام العلمانية والإسلاموية: المسارات المتباينة للمفاوضات الانتقالية في مصر وتونس” الصادر عن دار نشر “روتلدج” العريقة ضمن سلسلتها المعنونة بـ”دراسات في الدمقرطة والحكومة في الشرق الأوسط” لسنة 2022، وفي ما يأتي نص المقابلة.
لماذا اخترت إنجاز دراسة عن موضوع المفاوضات الانتقالية في دول الربيع العربي؟
بدأت فكرة هذه الدراسة في منتصف عام 2014، بعد الأحداث العاصفة لصيف عام 2013، وذلك قبل عامين تقريبا من بداية العمل الفعلي في إعداد رسالة الدكتوراه بجامعة إكستر ببريطانيا، التي نشرت لاحقا في هذا الكتاب. وكان الدافع لإنجاز هذه الدراسة 3 أمور:
أولا، محاولة لتجاوز مشاعر الإحباط والأسى نتيجة تعثر تجربة التحول الديمقراطي في مصر بسبب الاستقطاب السياسي بين القوى الإسلامية والمدنية طوال المرحلة الانتقالية، وكانت الفكرة البسيطة آنذاك تقول إذا كنا قد أخطأنا فلنحاول أن نتعلم شيئا من أخطائنا.
ثانيا، أنني ما زلت مؤمنا بأن النظم الاستبدادية في المنطقة العربية لا يمكن أن تستمر طويلا لعوامل كثيرة، وأن فرصة جديدة للتحول الديمقراطي ستحين آجلا أو عاجلا، فأردت أن أدرس العوامل التي تدعم عملية التحول الديمقراطي، وأوضحها في هذا الكتاب، لعلها تسهم في ترشيد سلوك الفواعل السياسية والمجتمعية حين تحين هذه الفرصة في المستقبل.
ثالثا، أني ما زلت مؤمنا بفضيلة الإدارة السلمية للصراعات، والتفاوض، والبحث عن الحلول الوسط والتوافقات، لذلك حاولت في هذه الدراسة أن أبحث متى وكيف وفي أي سياق يمكن أن تنجح عملية التفاوض أثناء المراحل الانتقالية.
في الفصل الثاني من الكتاب تقوم بتأصيل مفاهيمي لمعرفة جذور مفهوم العلمانية، فهل يجوز استخدام مفهوم “العلمانية” في السياق العربي الإسلامي؟ وهل يختزن مفهوم “الإسلاموية” توجها علمانيا ضمنيا؟
من الأهداف الأساسية لهذه الدراسة محاولة فهم وتفكيك مصطلحي “الإسلاموية” و”العلمانية”، لأن الجدل حول هذين المصطلحين وتحديد المقصود بهما كان جزءا من سوء التفاهم بين القوى السياسية المتصارعة في دول الربيع العربي، وقد قدم هذا الفصل 3 فرضيات أساسية، وفصّل فيها:
الأولى، أنه يصح استخدام مفهوم العلمانية في السياق العربي الإسلامي على الرغم من أصله المسيحي والأوروبي.
لكن، في هذه الحالة، لا ينبغي أن نعرّف العلمانية بأنها دعوة إلى الفصل بين الدولة والكنيسة، أو الدين والسياسة، أو دعوة لخصخصة الدين، والتقسيم الاجتماعي للعمل المرتبط بالحداثة.
عوضا عن ذلك، يجب أن يُنظر إلى العلمنة على أنها إعادة تشكيل للدين ليكون أكثر توافقا مع الحداثة، ومن ثم فإن العلمانية هي أيديولوجيا سياسية، تقدم نسخة أو مجموعة نسخ حداثية من التدين، هذه النسخ بعضها معاد للدين، ويحاول أن يحل محله منظومات فكرية وقيمية بديلة، لكن هناك نسخا أخرى داعمة أو على الأقل متسامحة مع الدين، ومع وجوده في المجال العام، ومع أدواره السياسية والاجتماعية.
ثانيا، لا ينبغي ببساطة مساواة “الإسلاموية” بالإسلام، وهذا التمييز بينهما لا يعني انحيازا علمانيا. فالإسلاموية مفهوم يشير إلى ظاهرة حداثية تعبّر عن مجموعة من الأيديولوجيات السياسية والحركات الاجتماعية التي تستلهم الإسلام وقيمه، وتحاول أن تؤكد حضوره السياسي والاجتماعي وفاعليته كمرجعية في المجتمعات المسلمة التي دخلت طور التحديث، فإذا كان التجلي السياسي والاجتماعي للإسلام في المجتمعات ما قبل الحداثية تمثل في طوائف أو فرق دينية، ومدارس كلامية، ومذاهب فقهية، وفي الطرق الصوفية، وفي التقاليد والعادات الشعبية، فضلا عن أشكال الحكم المتمثلة في دولة الخلافة التقليدية، والسلطنات، فإن هذا التمظهر في المجتمعات المسلمة الحداثية تمثل في الأيديولوجيات الإسلامية السياسية، والأحزاب الإسلامية، والحركات الاجتماعية الإسلامية، والجمهوريات الإسلامية، ونحوها.
وإذا كان الإسلام دينا يناظر الأديان الأخرى مثل المسيحية والبوذية واليهودية، فإن “الإسلاموية” أيديولوجيا سياسية تناظر الأيديولوجيات الأخرى كالقومية والرأسمالية والليبرالية والاشتراكية، وهو ما يجعلها لا تعطي الأولوية للأمور العقائدية والثيولوجية بقدر اهتمامها بالنظم السياسية والاقتصادية والقانونية والمجتمعية لإدارة معاش الناس، وكذلك بقضايا إدارة السلطة والثروة في المجتمعات المسلمة.
أخيرا، في سياق الربيع العربي لا ينبغي تصوير “الإسلاموية” و”العلمانية” على أنهما مجالان متعارضان متنافران بالكلية، وأنهما يمثلان الدين في مقابل اللادينية، أو الأصالة مقابل التغريب، أو التنوير في مقابل الرجعية، أو ما شابه ذلك من الصور النمطية.
بل يجب فهمهما على أنهما نمطان مميزان للتفاعل بين الإسلام والحداثة، ومجموعتان مختلفتان من الأيديولوجيات التي تتبنّى نسخا متنافسة من التدين الحداثي، وأن بينهما مساحات من التقاطع في أحيان كثيرة، فهناك -على سبيل المثال- أنماط إسلاموية ديمقراطية تدعم فكرة المؤسسية والفصل بين السلطات على حساب فكرة السلطة الموحدة والمشخصنة التقليدية، كما تؤكد مركزية الأمة ودورها الرقابي في النظام السياسي مثل العديد من أنماط النظم العلمانية ذات المنحى الليبرالي الديمقراطي. وفي المقابل، تتبنى بعض النسخ الاستبدادية والفاشية في كلا الأيديولوجيتين “الإسلاموية” والعلمانية نموذج الدولة الشمولية التي تتحكم في كلا المجالين العام والخاص، وإن اختلفتا بطبيعة الحال في موقفهما الشديد التناقض من الدين.
هل يصح تأطير الصراع السياسي في دول الربيع العربي باستخدام هذين المفهومين؟ أم إن هذا التأطير يمثل اختزالا لطبيعة الصراع في دول الربيع العربي؟
الربيع العربي ظاهرة شديدة الالتباس والتعقيد، بل ربما لا يجمع دول الربيع العربي شيء بخلاف اشتراكها جميعا في مظاهر عدم الاستقرار السياسي من مظاهرات وإضرابات واعتصامات، وصولا إلى الصراعات المسلحة في بعض الأحيان، لكن الدوافع وراء حالة التمرد السياسي هذه تختلف من دولة إلى أخرى، وتتداخل فيها عوامل عدة: سياسية، واقتصادية، ومذهبية، وقبلية، ومصالح نخبوية متعارضة، وذاكرة تاريخية محتقنة، واستقطابات إقليمية ودولية، وغير ذلك.
وعلى الرغم من هذا، فإن تأطير الصراع السياسي في بعض دول الربيع العربي كصراع بين “الإسلاموية” والعلمانية لا يجانب الصواب، كما في الحالة المصرية والتونسية على سبيل المثال. صحيح أن هناك أبعادا أخرى للصراع في هاتين الحالتين، إلا أن إطارها الناظم كان أيديولوجيا، يتمحور حول الديني وعلاقته بالسياسي والمجتمعي، ومساحة الأدوار الاجتماعية والسياسية التي يسمح للمؤسسات العُلمائية والحركات الإسلامية بالقيام بها.
بل لاحظت الدراسة أن “الإسلاموية” والعلمانية في خضم الصراع السياسي الحاد تحوّلتا من أيديولوجيات تتصارع على مستوى السياسات والقرارات، إلى أنماط حياة مختلفة، تتصارع على مستوى البراديم، والمرجعية، والرؤى الكونية، وهو ما حوّل الصراع إلى صراع صفري، وجعل القوى السياسية المنخرطة فيه تشعر أنها أمام صراع هوياتي وجودي.
في الفصلين الثالث والرابع بسطت أسباب الصراع بين العلمانيين والإسلاميين في الفترة الانتقالية، هل يمكن أن تشرح دورها في احتواء الأزمات السياسية المتكررة في كل من تونس ومصر؟
بغض النظر عن الخلفيات التاريخية والدوافع الشخصية والمصلحية، فقد تعددت الأسباب المباشرة للصراع بين القوى “الإسلاموية” والعلمانية في المرحلة الانتقالية في مصر وتونس، سواء الاختلاف على إدارة المرحلة الانتقالية كما حدث في مصر بين معسكري “الدستور أولا” أو “الانتخابات أولا”، أو الصراع على مدة وصلاحيات المجلس التأسيسي في تونس، أو بسبب تواضع أداء الحكومات الانتقالية التي هيمن عليها الإسلاميون بدرجات متفاوتة في كلا البلدين، خصوصا في ملفات مثل الاقتصاد والأمن والعدالة الانتقالية، لكن السبب الأساس لهذا الصراع كان الاختلاف حول طبيعة النظام السياسي الذي يجب تأسيسه.
وعلى الأخص خلال إعداد الدستور، إذ اختلف الطرفان حول مرجعية الشريعة، وتجليات هذه المرجعية، ودور المؤسسات العلمائية كالأزهر ودار الإفتاء، وبرزت في ذلك قضايا مهمة، مثل مسألة إمكانية تحديد مرجعية حقوق الإنسان في المرجعيات الدولية والأممية أم إن هناك خصوصية للمجتمعات المسلمة يجب أن تراعى، أو أن الشريعة هي المرجعية الوحيدة أو الأساسية أم إنها تمثّل أحد المصادر ضمن مصادر أخرى في التشريع، وغير ذلك.
وقد اشتمل الفصل الرابع على رصد وتحليل لقرابة 12 حوارا وطنيا ومؤتمرا عاما خلال المرحلة الانتقالية في الحالة المصرية، التي انتهت بانقلاب يوليو/تموز 2013، ونحو 10 مؤتمرات وطنية وجلسات حوار في تونس خلال المرحلة الانتقالية، التي انتهت بإعلان حكومة الوحدة الوطنية والدستور التوافقي في يناير/كانون الثاني 2014، وكان هناك مجموعة أهداف من ذلك، أهمها الوقوف على قدرة هذه الحوارات والمؤتمرات على احتواء النزاعات بفاعلية ونجاح.
وأظهر هذا التحليل أن تأثير هذه الحوارات والمؤتمرات على مسار المرحلة الانتقالية في مصر كان محدودا، فإما أنها لم تنجح في تحقيق التوافق المطلوب كما في حوارات الدكتور عبد العزيز حجازي، والدكتور يحيى الجمل والدكتور علي السلمي، أو مؤتمر مصر الذي رعاه الدكتور ممدوح حمزة، أو لم تلتزم الأطراف السياسية بالوثيقة التي تم التوافق عليها في هذه الحوارات مثل وثيقة الأحزاب التي رعاها المجلس العسكري، أو وثيقة “فيرمونت”، أو وثيقة الأزهر لنبذ العنف.
أما في تونس فعلى الرغم من أن هناك مؤتمرات عدة للحوار الوطني كانت فاشلة، فإن المتحاورين تمكنوا في حالات أخرى من احتواء النزاع بفاعلية مثل حوار عايض بن عاشور في سبتمبر/أيلول 2011، الذي نتجت عنه وثيقة إدارة المرحلة الانتقالية، والحوار الوطني الذي رعته اللجنة الرباعية في صيف 2013 ونتج عنه إقرار دستور 2014، والحكومة التوافقية لمهدي جمعة.
ما الذي يمكن أن نتعلمه من تجربة الربيع العربي بخصوص المفاوضات الانتقالية في ضوء المستجدات المرتبطة بالسياسة في تونس ومصر؟
هناك العديد من الخلاصات التي خرجت بها الدراسة، سواء على المستوى النظري في طبيعة عمليات التحول الديمقراطي، والعوامل التي تؤثر في مساره ونتائجه، أو على المستوى السياساتي التطبيقي، من أهمها:
أولا: أن عملية التحول الديمقراطي تعتريها إشكالية مهمة، إذ إن قوى التغيير الحزبية والمجتمعية التي من المفترض أن تتسلم السلطة، وتقود عملية بناء النظام الجديد في المرحلة الانتقالية هي القوى ذاتها التي كانت مقموعة والتي أنهكها وأضعفها وقسمها النظام المستبد الراحل، وإذا كانت هذه القوى لديها خبرة ودراية بآليات المعارضة وأدوات الاحتجاج بما مكّنها من إحداث التغيير فإن هذا لا يعني أن لديها الدراية والخبرة التي تمكنها من التعامل مع مؤسسات الدولة، وإدارة الشأن العام، خصوصا في الأوضاع المعقدة للمرحلة الانتقالية.
ثانيا، أن عملية التفاوض الانتقالي أيضا تعتريها إشكالية معقدة، فخلال فترات الحكم الاستبدادي تتداخل وتتعقد المظالم الاقتصادية، والاجتماعية، والطبقية، والجهوية، ولذلك تأتي العديد من القوى التي كانت مقموعة أو مهمشة خلال الحكم البائد إلى طاولة التفاوض بقائمة طويلة ومتداخلة من المطالب، بعضها متعلق بإعادة توزيع الثروة ونظام الضرائب وهيكلة الأجور، وبعضها متعلق بالتحقيق في قضايا تعذيب ومطالبة بتعويضات لانتهاكات حقوق الإنسان، وبعضها متعلق بإحداث التنمية في مناطق مهمشة، وبعضها متعلق بالاعتراف بالحقوق الدينية أو الثقافية لأقليات مقموعة، والأهم أن جميعها يأتي إلى المفاوضات بعقلية “اللحظة الفارقة” أو “Now or Never”، وهو ما يعقد مسار المفاوضات تعقيدا كبيرا، ويجعل الوصول إلى توافقات مسألة متعذرة.
وختاما، فإن نجاح عمليات الحوار والتفاوض في المرحلة الانتقالية يحتاج إلى مقاربات شاملة، لا تركز على مهارة وخبرة النخب والقيادات السياسية والمجتمعية وسلوكها الفردي، ولا تأخذ في الحسبان تحييد الأبعاد الهيكلية التي تؤثر في خيارات هذه النخب، أو تغرق في الشأن المحلي ولا تلتفت إلى الأبعاد الإقليمية والدولية، أو تهتم بالتسويات السياسية بين الأحزاب المتنافسة ولا تعطي الاهتمام الكافي لتسوية الأوضاع الاقتصادية والمظالم الاجتماعية، والأهم ألا تذهب مكونات قوى التغيير المتباينة بعيدا في التنافس من أجل تحقيق رؤاها الخاصة -وهي مسألة طبيعية ومشروعة- إلى الدرجة التي تهمل معها ضرورة وجود إطار ناظم من التفاهم والتوافق فيما بينها للإبقاء على عملية التغيير مستمرة والحيلولة دون انهيارها.
#الباحث #السياسي #محمد #عفان #لهذا #حدث #الصدام #العلماني #الإسلامي #بمصر #وتونس
تابعوا Tunisactus على Google News