“التأسيس الجديد” في تونس أو سرير بروكرست
بعد عشرية كاملة من الانتقال الديمقراطي الهش، جاءت لحظة 25 يوليو/ تموز – أو ما سُمّي “تصحيح مسار” عند البعض و”انقلابا” عند غيرهم- لتضع حدا لوهم “الاستثناء التونسي” ودعم القوى الديمقراطية في الغرب له. فبعد فرض التأويل الرئاسي للفصل 80 من الدستور، وجد التونسيون أنفسهم أمام واقع سياسي جديد تحولت فيه “حالة الاستثناء” إلى مرحلة انتقالية غايتها بناء “جمهورية ثانية”، عبر مشروع “التأسيس الجديد” وخارطة طريقه المعروفة (استشارة وطنية الكترونية، استفتاء شعبي عام، انتخابات برلمانية مبكرة).
وقد يكون من المبالغة أن نقول إن الرئيس قد فاجأ عموم المواطنين -أو على الأقل النخب التونسية- بمشروعه، ذلك أنه قد طرحه على الناس خلال حملته الانتخابية، فلا يمكننا بالتالي أن نلوم الرئيس على عدم تعامل النخب مع هذا المشروع/ البديل بما يستحق من جدية.
منذ حملته التفسيرية/ الانتخابية، كان الرئيس يحمل مشروعه السياسي في يد ويحمل سرير بروكرست في اليد الأخرى، وإن شئنا الدقة أكثر فإننا سنقول إن “التأسيس الجديد” -بما يحكمه من منطق البديل الجذري للدستور وللنظام السياسي وللأجسام الوسيطة كلها- كان هو سرير بروكرست نفسه، لكن مع مراعاة الفارق كما يقول المناطقة. ففي الأسطورة اليونانية كان بروكرست قاطع طريق من أتيكا، يُكرم وفادة ضحاياه ويدعوهم إلى النوم على سريره الحديدي، ثم يقوم بمطّ أجسادهم أو قطع أطرافهم لتتناسب مع السرير.
من المبالغة أن نقول إن الرئيس قد فاجأ عموم المواطنين -أو على الأقل النخب التونسية- بمشروعه، ذلك أنه قد طرحه على الناس خلال حملته الانتخابية، فلا يمكننا بالتالي أن نلوم الرئيس على عدم تعامل النخب مع هذا المشروع/ البديل بما يستحق من جدية
لقد كان بروكرست مخادعا، وكان يستثمر ثقة ضحاياه للتنكيل بهم وتحقيق نزواته. أما الرئيس التونسي فإنه كان يحمل سرير بروكرست -على استحياء- منذ الانتخابات الرئاسية، ثم أظهره للناس يوم 25 تموز/ يوليو عندما استولى على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وحاول الاستيلاء على السلطة القضائية ولكنه تراجع عن ذلك إلى حين، ثم قام أخيرا بدعوة الناس/ النخب إلى النوم على السرير بمرسومه الشهير عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر الماضي، فمنهم من تمنّع “ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر”.
لقد كان الجميع يرون سرير بروكرست منذ البدء، بل كان أغلبهم -بقصد أو بلا قصد- يُزينون للناس ذلك السرير عندما بغّضوا إليهم كل المضاجع بسياساتهم/ صراعاتهم العبثية التي زهّدت الناس في الديمقراطية التمثيلية والبرلمان وسائر الأجسام الوسيطة، بأحزابها ونقاباتها وإعلامها ومنظمات المجتمع المدني. فكان أن تقبّلت طائفة كبيرة من التونسيين “سرير بروكرست” (التأسيس الجديد) لأنهم لا يرون أنفسهم مهددين به، بل يرونه عقوبة مستحقة للنخب التي سامتهم سوء العذاب وأرهقتهم بخياراتها وسياساتها الكبرى؛ التي كان محصولها البائس -خاصة في المستوى الاقتصادي- مدخلا للترحم على أيام المخلوع والكفر بـ”الجمهورية الثانية”.
لقد توهّم مؤسسو الجمهورية الثانية أن الحرية أو الديمقراطية هي مطلب شعبي، بل توهموا أنها مطلب أغلب النخب التي تشربت الاستبداد رغم كل ادعاءاتها الذاتية، ونسي الآباء المؤسسون ومن خلفهم في إدارة الدولة -خاصة زمن التوافق- أن الغالبية العظمى من الشعب تقيس نجاح المنظومة الحاكمة بتحقيق حاجتين جوهريتين أشار إليهما القرآن الكريم- قبل هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية- ألا وهما “الإطعام من الجوع” و”الأمن من الخوف” (الاحتياجات الفيسيولوجية واحتياجات الأمان).
نجاح الرئيس في فرض خارطة طريقه على سائر الفاعلين الجماعيين لا يعود إلى قوته الذاتية أو إلى ما يتلقاه من دعم القوى الإقليمية والدولية (بعيدا عن بيانات القلق الشديد الكاذبة)، بل يعود نجاحه إلى تشرذم خصومه وعجزهم عن التوحد لمواجهة الخطر الوجودي الذي يتهددهم جميعا
لقد جاء “التأسيس الجديد” أو سرير بروكرست ليُظهر مدى هشاشة الانتقال الديمقراطي من جهة أولى (انعدام قدرة الأجسام الوسيطة على المقاومة الفعالة)، كما جاء ليضعنا -من جهة ثانية- أمام زيف الوعي الديمقراطي لدى أغلب النخب (قابلية الارتكاس لخدمة المشاريع التسلطية وغياب النقد الذاتي وهيمنة المقاربات الهوياتية).
إن نجاح الرئيس في فرض خارطة طريقه على سائر الفاعلين الجماعيين لا يعود إلى قوته الذاتية أو إلى ما يتلقاه من دعم القوى الإقليمية والدولية (بعيدا عن بيانات القلق الشديد الكاذبة)، بل يعود نجاحه إلى تشرذم خصومه وعجزهم عن التوحد لمواجهة الخطر الوجودي الذي يتهددهم جميعا. فلا استعداد النهضة للتنازلات “المؤلمة” (مع إبقائها على وجوه التوافق سيئة السمعة والمرفوضة شعبيا)، ولا تحركات اليسار الاجتماعي (مع إصراره على تقديم التناقض مع النهضة على التناقض مع خطر الاستبداد) بقادرين على تهديد الرئيس بصورة جدية.
وضع مؤقت؛ لأن الشعب سيوقن -إن عاجلا أو آجلا- بأن السرير لن يكتفيَ بالنخب. فهو ليس سرير الشهوة الفردية كما كان شأنه مع بروكرست، إنه سرير السلطة المطلقة التي لا راد لقراراتها، بل لا راد لما يمليه عليها صندوق النقد والجهات المانحة/ الناهبة من “إصلاحات”
إن عجز الشعب عن تمثل مقدار المخاطر التي تتهدد احتياجاته الأساسية في حال نجاح “التأسيس الجديد” وضرب الأجسام الوسيطة كلها (لا وجود في مشروع الدستور لأي هيئة دستورية بخلاف هيئة الانتخابات، كما لا توجد أية آلية مراقبة للرئيس أو محاسبته وعزله)، كل ذلك سيجعل من “سرير بروكرست” هو سيد المرحلة القادمة.
فما دام الشعب يرى نفسه غير مهدد بذلك السرير، ويراه عقوبة مخصوصة بالنخب التي خذلته وخانت انتظاراته المشروعة، فإنه لن يتحرك ولن ينصت لمعارضي الرئيس مهما كانت نسبة المشاركة الشعبية في الاستفتاء. ولكنه وضع مؤقت؛ لأن الشعب سيوقن -إن عاجلا أو آجلا- بأن السرير لن يكتفيَ بالنخب. فهو ليس سرير الشهوة الفردية كما كان شأنه مع بروكرست، إنه سرير السلطة المطلقة التي لا راد لقراراتها، بل لا راد لما يمليه عليها صندوق النقد والجهات المانحة/ الناهبة من “إصلاحات”؛ لن يحمل المواطنين عليها بالقوة إلا “سرير بروكرست” أو النظام الرئاسوي الذي يُبشر به دستور “التأسيس الجديد”.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
#التأسيس #الجديد #في #تونس #أو #سرير #بروكرست
تابعوا Tunisactus على Google News