التجربة البرلمانية في ليبيا (1908-1969) (5)
.. والواقع أن إختيار ممثلي الأقاليم الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان) في لجنة الواحد والعشرين خاض مخاضا عسيرا وصعبا في تلك الأيام والظروف للاستقرار في محطة يرتاح عندها الجميع وتبدأ منها انطلاقة كبيرة وجديدة لإنجاز التطور الدستوري في ليبيا بمشاركة هؤلاء الممثلين إنقاذا لليبيا من العديد من التربصات والأطماع التي كانت مستعدة وتنتظر حدوث أية انتكاسات أو مشاكل تنشأ عن ذلك المخاض العسير. لقد ظل السيد بلت والمجلس الاستشاري للأمم المتحدة في ليبيا في نقاشات استغرقت أياما ولياليَ في طرابلس وخارجها للوصول إلى توافق يرضي كل الأطراف صاحبة الصلة المباشرة.
وتحمل المستر بلت أعباء التنسيق والمشاورات فقد طلب منه المجلس القيام بذلك في طرابلس على وجه الخصوص بحسب ماله من إدراك وتمييز ومقدرة وعلى أن يسلك طريقة مماثلة للطريقة المنوه عنها في الفقرة السابعة من قرار الأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا وأن يعدل تلك الطريقة بمطلق الحرية متى رأى ضرورة لذلك وأن يتشاور أيضا مع الإدارة القائمة في طرابلس بشأن الكيفية التي يتم بها اعتماد الممثلين السبعة الذين سيختارون لتمثيلها حتى يكون في مركز مماثل لمركز كل من ممثلي برقة وفزان وأن يتشاور مع الأمير إدريس في برقة ومع السيد حمد سيف النصر. وحدد المجلس له موعدا لايتجاوز يوم الحادي والعشرين من يونيو 1950 .
كانت هنا قد نهضت مشكلة تتعلق بتمثيل الأقليات في اللجنة المذكورة. والأقليات تعني في الغالب وتحديدا الإيطاليين في طرابلس دون غيرهم. وزاد المخاض حول هذه النقطة الجدلية وتدفق لحظة فلحظة. غير أن الصبر الذي ميز السيد بلت مع معونة المجلس مع رضاء بعض الأطراف.. أضاف حكمة ولطفا بمستقبل البلاد.
في الثامن عشر من يونيو 1950 حضر المستر بلت إلى بنغازي والتقى بالأمير إدريس بناء على رغبة ودعوة من الأمير نفسه الذي كان يود الاستزادة من بحث أمر اجتماع اللجنة المؤلفة من الواحد وعشرين عضوا. في هذا اللقاء الذي تم بين قصري المنار والغدير في بنغازي أثار الأمير مسألة ما إذا كان اشتراك الإيطاليين في اللجنة المعنية من شأنه أن يعتبر حكما مسبقا في تقرير الوضوع القانوني لأولئك الطليان في ليبيا بعد أن تعلن البلاد دستورها وتحقق استقلالها ورغب من السيد بلت أن يطلب مشورة المجلس حول هذه المسألة معربا له عن رأيه بأن هذه المشورة ستكون عونا كبيرا للحكومة في برقة ومجلس نوابها في المداولة للوصول إلى وجهة نظر للاتفاق على اختيار لجنة الواحد والعشرين. كان سؤال الأمير محددا للمندوب لأخذ مشورة المجلس وتحدد في التالي وفقا لمحاضر المجلس المذكور: (هل يعتبر المجلس أن إشتراك الإيطاليين في اللجنة المؤلفة من واحد وعشرين عضوا وفي الجمعية الوطنية ليس سابقة في تنظيم الوضع القانوني للإيطاليين عند استقلال ليبيا بعد وضع دستورها؟).
توجس أو حذر أو استباق لما هو قادم أو نظرة تمتلئ سياسة ودهاء من الأمير تظل تحمل وعيا لسد أية ثغرة قد تطيل أمد الأزمة المتوقعة. فهناك تاريخ قديم للطليان على امتداد ليبيا مفعم بالشراسة والعنصرية والفاشية والمعتقلات والقتل والتشريد واغتصاب الممتلكات والتهجير.. وكل ماتحت ذلك وينبغي مراعاته ووضعه في الحسبان. وقد كانت مشورة المجلس حول سؤال الأمير وحذره جاهزة في اليوم الرابع والعشرين من يونيو 1950 إذ اعتبر المجلس: (أن إشتراك الإيطاليين في اللجنة أو الجمعية المشار إليهما لايعد سابقة في تنظيم الوضع القانوني للإيطاليين بعد إصدار دستور ليبيا وإعلان استقلالها).
ثم تشكلت هيأة حكومية وشعبية تمثل برقة وتعبرعن رأيها من وزراء حكومتها وعضوها في المجلس الاستشاري وممثليها في لجنة الواحد والعشرين لبحث الموقف النأشئ عن احتمال إشراك عضو أجنبي عن الأقليات في طرابلس وقررت بأنه وفقا لمشورة المجلس القاضية بأن الاشتراك (لايعتبر سابقة) فهو يعني عدم وجود أي حق أو ادعاء للإيطاليين أو لغيرهم من الجاليات الأجنبية في طرابلس أو غيرها بطلب تمثيلهم السياسي في أي هيئات تأسيسية أو تشكيلات حكومية وأن لهم فقط تأمين حقوقهم المدنية والدينية والاجتماعية بموجب الدستور الذي سيوضع قياسا للمتبع في الدساتير الحديثة.
وأكدت أيضا بأنها لاتمانع الآن في وجود شخص أجنبي عن الأقليات في طرابلس إذا قرر الطرابلسيون أنفسهم قبوله معهم في لجنة الواحد والعشرين التي لها الحق في البت في موضوع تمثيل الأجانب من عدمه في الجمعية الوطنية إضافة إلى أنها لاتقبل تحميل برقة أية مسؤولية أو الاشتراك في أية نتائج غير صالحة في نظرها قد يسببها هذا القبول الأجنبي في اللجنة.
خلال تلك الأيام كان السيد حمد سيف النصر موجودا في تونس للعلاج وذهب إليه المستر بلت مع الحاج أحمد صوفو ممثل فزان في المجلس الاستشاري (وكان مع السيد أحمد مرافقا السيد سيف النصر ابن أخيه عبدالجليل)وتم تداول الموضوع باستفاضة وقد كان الموقف من السيد حمد بالرفض لتاريخ الطليان في ليبيا.
لكن تم الاتفاق في النهاية معه على القبول بوجود ممثل للطليان في اللجنة دفعا وابتعادا عما يسبب أي قلاقل في مسار التطور الدستوري القادم. ونشأت معارضات أخرى وعدم توافقات في المشاورات مع بعض الشخصيات البارزة التي أكدت بدورها بأن هناك عدم ارتياح جدي وعام حول فكرة تمثيل الأقليات وخصوصا عبر شخص يحمل الجنسية الإيطالية الواحد والعشرين. إرتكزت المعارضة هنا على أساس أن (أشخاصا يحملون جواز سفر أجنبيا يجب أن لا يشتركوا في تطور ليبيا الدستوري)!.
وفي كل الأحوال تم اختيار الممثلين السبعة عن كل إقليم حسب الأتي: 1. برقة. (محمود بوهدمة. عمر شنيب. رشيد الكيخيا. خليل القلال. أحمد عقيلة الكزة. الطائع البيج. عبدالكافي السمين.)
ويلاحظ أن خمسة منهم كانوا أعضاء في مجلس نواب برقة. وفي طرابلس عقب التشاور بين المستر بلت والأحزاب والهيئات السياسية التي التقاها هناك وهي: حزب الاتحاد المصري الطرابلسي. حزب الاستقلال. حزب الكتلة الوطنية الحرة. حزب العمال. حزب الأحرار. المؤتمر الوطني العام. الجمعية السياسية لترقي ليبيا وهي مكونة من عرب وطليان. الرابطة الديمقراطية وهي جلها من الطليان فقد اختير: (محمد أبو الأسعاد العالم. أبوالربيع الباروني. سالم المريض.علي رجب المدني. أحمد عون سوف. عبدالعزيز الزقلعي. والإيطالي جياكومو ماركينو).
وكان حزبا الاستقلال والكتلة الوطنية قد رفضا تقديم قائمتيهما إجابة لطلبات المندوب المستر بلت وكان عذرهما في ذلك أنهما يعارضان مبدأ التمثيل على قدم المساواة بين الأقاليم الليبية الثلاثة.
كما رفضت الجمعية السياسية لترقي ليبيا تقديم قائمة بمرشحيها أيضا فيما صارت القوائم التي اقترحتها أحزاب أخرى وكانت مماثلة لا فرق بينها واختير من فزان.. (سي المهدي بن هنية وكان قاضيا لغدامس التابعة حينها للإقليم. طاهر الجراري. علي بديوي. محمد بن عثمان الصيد. بلقاسم بوقيلة. أحمد الطبولي. علي المقطوف.)
في مفتتح اجتماعاتها الذي عقدت في طرابلس 27 يوليو. 1950.. تحدث المستر بلت أمام لجنة الواحد والعشرين بكامل أعضائها في قاعة فندق جراند هوتيل قائلا: (يطيب لي أن أشهد اليوم بصفتي مندوب الأمم المتحدة أول اجتماع لأول هيأة تمثل ليبيا كلها في تاريخ هذه البلاد الحديث وهذه المناسبة من الأهمية بمكان فالوحدة أصبحت قريبة المنال وانبثقت الآن أنوار الاستقلال الحقيقي التام. إن مهمتكم سهلة ولكنها خطيرة الشأن فعليكم أن تتخذوا الإجراءات اللازمة لاجتماع الجمعية الوطنية أي الهيأة التي ستعرب عن رغبات الشعب فيما يختص بشكل حكومته المرتقبة والقواعد المدنية والسياسية التي سوف يجري بمقتضاها تصريف شؤونه في المستقبل.) ثم تحدث السيد عمر شنيب وجاء في حديثه.. (يسرني باسم وفد برقة في هذه اللجنة وباسم الأمير إدريس أن أقدم الشكر على ماقمت به وما تقومون به من الأعمال المشرفة في سبيل استقلال ليبيا.
وهذه مناسبة سعيدة أتيح لنا فيها أن نتكلم باسم ليبيا جمعا لاستكمال لوازم استقلالها. إن الواجب الذي يلقيه علينا التاريخ سيكون منه حكم قاسٍ لنا أو علينا ولذا فلا شئ يمكن أن يعرقل استقلالنا إلا أن نكون نحن وحدنا.. ونحن بناة الاستقلال ونحن الذين دفعنا الثمن ولاقوة في الدنيا تستطيع أن تحرمنا من حقنا).
فيما أشار سي المهدي في حديثه عن فزان.. (أحييكم باسم عموم أهالي فزان ومنطقة غدامس وأرجو أن نوفق لما فيه صلاح أقاليمنا الثلاثة وأن يكلل عملنا بالتوفيق والنجاح) ثم تحدث الشيخ الباروني ممثل طرابلس.. (سنشرع اليوم بعون الله وتوفيقه في وضع قواعد دولتنا ولنهتف بحياة الزعماء العاملين وعلى رأسهم الأمير السنوسي والزعيم السعداوي وبحياة الأمم المتحدة).. وامتد الطريق طويلا اعتبارا من يوليو 1950. والغاية هي إرساء الحجر الأساس للتطور الدستوري الليبي .
#التجربة #البرلمانية #في #ليبيا
تابعوا Tunisactus على Google News