- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

التراث الثقافي اللا مادي في تونس… كنوز ثمينة تواجه الإهمال واللا مبالاة! – رصيف 22

- الإعلانات -

ظل الاهتمام بالتراث المادي للإنسانية كبيراً حتى نهاية ثمانينيات القرن العشرين، حين بدأ التوجه إلى تثمين جانب ثقافي مهم في التراث الإنساني لا يقل أهميةً عن المادي، ألا وهو التراث اللا مادي الذي يشمل، حسب تعريف اليونسكو، “التقاليد أو أشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا والتي تداولتها الأجيال الواحد تلو الآخر وصولاً إلينا، مثل التقاليد الشفهية، والفنون الاستعراضية، والممارسات الاجتماعية، والطقوس، والمناسبات الاحتفالية، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، والمعارف والمهارات في إنتاج الصناعات الحرفية التقليدية”.

يتجلى التراث اللا مادي حسب اتفاقية اليونيسكو بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي، (باريس، تشرين الأول/ أكتوبر 2003)، في “التقاليد وأشكال التعبير الشفهي وفنون وتقاليد أداء العروض والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية”. فما هو واقع الحال في تونس؟

منذ بداية الألفية الثالثة، بدأ السباق بين الأمم والدول محموماً للمصادقة على الاتفاقية وإقرارها لتسجيل أرصدتها في هذا المجال ضمن القائمة التمثيلية للتراث الإنساني لليونيسكو، بغاية التعريف بها وحفظها من التلف وتخليدها، بوصفها مقوماً من أبرز مقومات الهوية الجماعية التي عملت أجيال متعاقبة على تشكيلها، وذلك لمقاومة زحف العولمة التي أخذت تمحو كل الخصوصيات الاجتماعية والثقافية لتذوب الثقافات جميعها في النهاية في “الثقافة المنتصرة”، بغاية تعميمها في النهاية بوصفها الأنموذج الأكمل. هذا نلحظه عياناً في تعميم طرائق اللباس مثلاً، وانتشارها لتطغى على الطرائق المحلية، بالإضافة إلى عادات الأكل والزواج وغيرها من الطقوس التي أخذت تفقد خصوصياتها المحلية، مقتديةً بما هو وافد. عملت وسائل الإعلام على تحقيق هذه الغاية من خلال الإعلانات وزادت التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي من الهيمنة على الثقافات المحلية وتذويبها واندثارها لتسود ثقافة واحدة في مختلف المجتمعات متحديةً الهويات ومخترقةً الخصوصيات وفارضةً الثقافة الغربية والأمريكية ثقافةً أسمى. لذلك، ذكرت ديباجة اتفاقية اليونيسكو المشار إليها آنفاً (2003)، “أن عمليتي العولمة والتحول الاجتماعي، وبجانب ما توفرانه من ظروف مساعدة على إقامة حوار متجدد بين الجماعات، فإنهما، شأنهما شأن ظواهر التعصب، تعرّضان التراث الثقافي اللا مادي لأخطار التدهور والزوال والتدمير، ولا سيما بسبب الافتقار إلى الموارد اللازمة لصون هذا التراث”.

يتجلى التراث اللا مادي حسب اتفاقية اليونيسكو بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي في “التقاليد وأشكال التعبير الشفهي وفنون وتقاليد أداء العروض والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات والمعارف

صادقت تونس على اتفاقية اليونيسكو بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي بعد ثلاثة أعوام من إقرارها، أي في العام 2006، وأشرف المعهد الوطني للتراث على تشكيل فريق من المتخصصين والباحثين في مجال التراث لجرد التراث اللا مادي التونسي بعد ستة أعوام من المصادقة على الاتفاقية في مجلس النواب، وقد تمكن الفريق إلى الآن من جرد 66 عنصراً.

أما العناصر التي نجحت تونس في تسجيلها تراثاً إنسانياً عالمياً، فهي خمسة عناصر منها عنصران فرديان هما: الصيد بـ”الشرفية” في جزيرة قرقنة (محافظة صفاقس جنوب تونس)، وهي أقدم وسائل الصيد البحري التقليدي القارّة التي تعود حسب مؤرخين إلى العهد البونيقي، واشتهرت بها جزيرة قرقنة منذ عهود، و”فخّار سجنان”، نسبةً إلى مدينة سجنان التابعة لمحافظة بنزرت شمال تونس، والمعارف والمهارات المرتبطة به.

في حين أنّ العناصر الثلاثة المتبقية تشترك فيها مع دول عربية أخرى مغاربية وعربية وهي: النّخلة، وفنون الخطّ العربيّ (بالاشتراك مع 16 بلداً عربياً)، والكسكس وتناوله (بالاشتراك مع 3 دول مغاربية).

إذاً، استطاعت تونس خلال 16 عاماً، تسجيل 5 عناصر فقط من ضمن قائمة الـ66 عنصراً التي تمكنت إلى الآن من جردها، وهي نسبة ضئيلة جداً تعكس تراخياً في التعامل مع التراث اللا مادي وتهاوناً في الاهتمام به، ولا مبالاة مقارنةً بدول أخرى حققت تقدماً كبيراً في هذا الشأن المهم، وعياً منها بأهميته وانعكاساته على التعريف بهوية البلدان وتنمية سياحتها واعتزازها برصيدها المحلي من التراث الذي يمثل في تونس كنوزاً حقيقيةً، ولكنها مهملة لا تلقى العناية اللازمة.

استطاعت تونس خلال 16 عاماً، تسجيل 5 عناصر فقط من ضمن قائمة الـ66 عنصراً التي تمكنت إلى الآن من جردها، وهي نسبة ضئيلة جداً تعكس تراخياً في التعامل مع التراث اللا مادي وتهاوناً في الاهتمام به، ولا مبالاة مقارنةً بدول أخرى

هذا ما يؤكده الباحث التونسي عبد الكريم البراهمي، المتخصص في التاريخ المعاصر والأنثروبولوجيا. يقول البراهمي لرصيف22: “أغلب المهتمين بالتّراث الثقافي التونسي، وتحديداً منه التراث اللا مادي، يدركون مدى التهميش والإهمال اللذين يعيشهما هذا القطاع الثقافي، نظراً إلى غياب إستراتيجية ثقافية واضحة للتعامل معه، وغياب الإرادة السياسية. والتهميش ناجم عن تقصير المؤسسات المعنية مباشرةً بهذا القطاع، وهي وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، وخاصةً المعهد الوطني للتراث”.

يضيف الأستاذ البراهمي، “أنّ هذا التقصير عائد إلى ضعف الميزانية المخصصة لوزارة الثقافة عامةً التي لم تبلغ بعد 1 في المئة من الميزانية العامة، والتراث اللا مادي واحد من القطاعات الثقافية العديدة التابعة للوزارة، والعدد المحدود جداً للباحثين المتخصصين في التراث اللا مادي التّابعين للمعهد الوطني للتراث، وعجز الدولة عن تكوين عدد مهم من المحافظين على التراث للقيام بجرد عناصر التراث الثقافي اللا مادي، والمساهمة في تكوين ملفات وترشيحها للتسجيل في قوائم اليونسكو”.

ويؤكد الباحث أن “تقصير المؤسسات المعنية بالتراث اللا مادي يظهر في العدد المحدود من عناصر التراث الثقافي التي تمّ جردها (66 عنصراً)، والمنشورة على موقع المعهد الوطني للتراث، وفي العدد القليل من العناصر المسجّلة تراثاً عالميّاً، وهي خمسة عناصر منها ثلاثة عناصر مسجّلة مع دول أخرى، اثنان منها مع دول عربيّة (الخط العربي والنخلة)، وعنصر مسجّل مع الدول المغاربية (الكسكسي)، ما يعني أنّ مساهمة تونس فيها مساهمة جزئيّة. وتتأكّد قلّة عدد العناصر الثقافيّة المسجلة عند مقارنة الوضع التونسي ببعض البلدان المغاربية، فالمغرب مثلاً سجّل 12 عنصراً من تراثه الثقافي اللا مادي تراثاً عالمياً، والجزائر تمكّنت من تسجيل 9 عناصر”.

نصت اتفاقية صون التراث المذكورة أعلاه على ثلاث قوائم هي: القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللا مادي للبشرية، وقائمة التراث الثقافي اللا مادي الذي يحتاج إلى صون عاجل، وقائمة أفضل الممارسات في مجال الصيانة، ولكن تونس لم تهتم سوى بالقائمة الأولى، وهي في ذاتها مهمة من حيث أنها تسهم في إشعاع البلاد التونسية والتعريف بها على المستوى العالمي، خاصةً أنّ نسبةً مهمةً من سكان العالم لا يعرفون خصوصيات البلد وثقافته وحضارته معرفةً كافية. ويمكّن التسجيل من تثمين العنصر الثقافي وتوظيفه في السياحة الثقافية مثلاً، أو السياحة الغذائية عند الحديث عن أغذية تقليدية، أو تنويع المنتوج السياحي التونسي بخلق سياحة ثقافية بديلة، أي أنّ سياحاً عديدين سيأتون إلى تونس من أجل التعرّف على العناصر الثقافيّة المسجلة تراثاً عالميّاً، وهذا ما من شأنه أن يساهم في صيانة العنصر الثقافيّ وهو الهدف الأسمى من التّسجيل في لوائح اليونسكو.

أما القائمتان الثانية والثالثة فمهملتان حسب الأستاذ البراهمي، بالرغم من أهميتهما البالغة، فـ”قائمة التراث الثقافي اللا مادي الذي يحتاج إلى صيانة عاجلة تتجلى في تمكين اليونسكو الدول النامية الأعضاء في الاتفاقية (الجمعية العامة لليونسكو)، التي تثبت أنّ لديها عنصراً ثقافياً لا مادياً مهدّداً بالاندثار، ويحتاج إلى الصيانة العاجلة، حسب المعايير الواردة في بنود الاتفاقية، من الحصول على كلّ المساعدات المالية والتقنية والبشرية اللازمة لذلك. أما أهمية قائمة أفضل الممارسات في مجال الصيانة فتظهر في أن نجاح الدول في تسجيل أحد عناصرها الثقافية في قائمة أفضل الممارسات في مجال الصيانة، تقوم اليونسكو بالترويج لها في مختلف بلدان العالم، وهذا يساهم في إشعاعها وفي استفادة الشعوب والدول الأخرى من تجربتها، كما يساهم في استغلالها وتوظيفها في تحقيق التنمية، لا سيما التنمية المستدامة التي تُعدّ من المبادئ الأساسية لليونسكو”.

بالرغم من هذا التهاون وعدم الجدية في التعامل مع ملف مهم جداً من قبيل التراث اللا مادي في تونس، فإن تونس تتمتع بمخزون ثقافي لا محدود يحتاج فقط إلى توفر إرادة قوية لإبرازه وتثمينه. وبحكم اهتمامه بهذا المجال في بحوثه وإلمامه الميداني بتفاصيله، ذكر البراهمي أن عناصر التراث الثقافي اللامادي تُعدّ بالعشرات أو حتى بالمئات، وأغلب عناصر التراث اللا مادي من الممكن تسجيلها، وذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: “مقروض القيروان”، وهو من الحلويات الشعبية التقليدية المعروفة بها مدينة القيروان وسط تونس. وإن وجدت حلويات مشابهة لها في بلدان عربية أخرى، فإنّها تختلف عنها في المذاق وطريقة الإعداد، بالإضافة إلى اللباس التقليدي للعروس في جهات مختلفة من البلاد، مثلاً في جربة، أو في نابل، أو في محافظة المهديّة (الساحل التونسي)، حيث يتميز لباس العروس بتعدّد القطع الفاخرة المكوّن منها، وأغلبها من الحرير المطرّز بخيط الذهب والفضّة المكوّن من “القمجّة” و”الفرملة” و”التّخليلة”، و”الحزام” و”الكوفيّة”، بالإضافة إلى الحلي بأنواعه كونه من المكمّلات الرئيسية للّباس.

وفي مظاهر الاحتفال يرصد الباحث، المهرجان الدولي في سيدي علي بن عون، في محافظة سيدي بوزيد وسط تونس، وهي تظاهرة ثقافيّة سياحيّة تُنظَّم سنويّاً. ويُعدّ هذا المهرجان من أهم المهرجانات الثقافية في البلاد التونسية، وهو مهرجان ثقافي وتجاري وسياحي وشعبي، تظهر أهميته في عدد زوّاره الذي تجاوز في الدورات الأخيرة نصف مليون زائر خلال ثلاثة أيام، وهو بذلك يتفوّق على كل المهرجانات الثقافية، ليس فقط في تونس، وإنّما في كامل بلاد المغرب، ولذلك يُعدّ من العناصر الثقافيّة التي يُفترض أن تكون مسجلةً تراثاً عالميّاً.

وفي الأزياء، يقول الباحث، إن هناك “مرقوم” قفصة، جنوب غرب تونس، وهو من المنسوجات الصوفيّة المعروفة، وتمثّل اليوم أيقونة قفصة، وتُعرف بزخارفها وجمال ألوانها، وهي من المنسوجات التي عرفت تحوّلات في وظائفها، وتحوّلت من نسيج وظيفي إلى نسيج فني جمالي، وإلى نسيج حائطي ولوحات فنيّة تشكيليّة.

كما توجد عناصر عديدة أخرى، منها أكلات “البسيسة”، و”البركوكش”، و”محشيّ” أو “قرن غزال تطاوين”، و”مخارق” باجة، زيادةً على الحرف المرتبطة بالحلفاء، والفروسيّة، والأغاني الشعبية، والشعر الشعبي، والخرافات، والطرق التقليدية في صيد السّمك والحيوانات البرية والطيور، بالإضافة إلى الزيت والزيتون وغيرهما من العناصر الثقافية الأخرى.

وبالرغم من هذا الثراء، يدور الزمن دورته بقسوة ويمحو الأشياء ويدهسها بعجلاته، فتختفي العادات والعناصر الثقافية المهددة بالزوال يوماً بعد يوم، في انتظار قرار سياسي واعٍ بأهمية التراث الثقافي اللا مادي، لا في بعده المحلي فحسب، بل في بعده الإنساني أيضاً، ذلك أن الخبرة الإنسانية يصنع تنوعّها ذلك الزخم من الثقافات والعناصر المحلية، وكل تفريط في عنصر منها إنما هو إساءة إلى تراث الإنسانية جمعاء، قبل أن يكون تقصيراً في حق الثقافات المحلية.

#التراث #الثقافي #اللا #مادي #في #تونس.. #كنوز #ثمينة #تواجه #الإهمال #واللا #مبالاة #رصيف

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد