الثورة التونسية في ذكراها الـ13: عودة إلى ما قبلها؟
الثورة التونسية في ذكراها الـ13: عودة إلى ما قبلها؟
يخرج التونسيون، اليوم الأحد، مجدداً إلى شارع بورقيبة وسط العاصمة تونس، في ذكرى الثورة التونسية التي أطاحت نظام زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011. غير أن خروجهم لن يكون للاحتفال بذكرى الثورة، بل للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الذين يقبعون في السجن منذ حوالي السنة، وكأن عجلة التاريخ قد عادت إلى الوراء، وكأن ثورة حرية لم تحدث.
وفي السجن، يقبع رئيس برلمان شرعي منتخب هو راشد الغنوشي، ورؤساء أحزاب وصحافيون وناشطون ورجال أعمال ومواطنون، وُجهت إليهم تهم لم تثبت على أكثرهم إلى حد اليوم، ولا يزالون بعد أشهر على اعتقالهم ينتظرون محاكمتهم، بينما عادت عائلاتهم إلى معاناة ما قبل الثورة التونسية في طريقهم إلى السجون.
ذكرى الثورة التونسية: مشهد رمادي
وتكاد ترسم أغلب التقارير لوحة رمادية فيها الكثير من التشاؤم بخصوص تحولات المشهد في تونس ومآلاته المنتظرة، على الأقل في المدى القريب.
ويقول مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس مهدي مبروك، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “الثورة التونسية كانت بمثابة نقطة تحوّل حاسمة في المنطقة العربية والعالم عموماً، ولم تكن مجرد صرخة في واقع الاستبداد العربي الآسن، بل أيضاً رجة في مجتمعات خلنا أنها راسخة في الديمقراطية”. ويضيف: “لقد اهتزت مجتمعات غربية على غرار الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا واليونان على وقع أهازيج الشباب في الثورة التونسية، وتلقفت مجتمعات عربية أخرى هذا الصوت وذهبت به بعيداً، لكن المآلات كانت في جلّها مخيّبة، خصوصاً في محيطنا العربي، وحتى آخر شمعة قاومت هذا المصير انطفأت في اعتقادي”.
ويذكّر مبروك بأن “الاحتجاجات السلمية في تونس انطلقت بسبب البطالة والتضخم والفساد الذي نخر البلاد، وفي 14 يناير 2011، هرب الرئيس السابق زين العابدين بن علي إلى الخارج بعد أن حكم البلاد مدة فاقت 23 سنة”. ويتابع: “كنا نتخيل آنذاك أن لا خوف بعد اليوم وأننا ذاهبون إلى ترسيخ الديمقراطية بشكل لا رجعة فيه إلى الاستبداد والتسلط، لكن ها نحن على مرمى حجر من العودة إلى مربع البدايات حيث تتربص بنا الشعبوية التسلطية”.
مهدي مبروك: تشكلت بسرعة بيروقراطيات الثورة حتى انفض من حولها الشباب
ويلفت مبروك إلى أن “هاجس الذين شكّلوا حاضنة تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، في الأشهر الأولى، كان تحقيق التدارك التاريخي، بالمعنى السياسي تحديداً، حتى إنهم اخترعوا للثورة شعارات وأهدافاً وهي في الحقيقة من إنتاج هؤلاء: الحرية والكرامة والعدالة والتشغيل، وعشرات الأحلام الأخرى التي نشط الجميع في نسجها”. ويضيف: “لكن كلما أوغلنا في هذا المسلك الذي توهمنا أنه وعر، أيقنا أنها تضاريس دامية، فقد جدّت أحداث إرهابية مرعبة، واندلعت صراعات عبثية، وتشكلت بسرعة بيروقراطيات الثورة حتى انفض من حولها الشباب وشكلوا حركات اجتماعية، وخلت الأحزاب من هؤلاء، بينما ظلت النخب القديمة تعيد خطاباتها التي تشكلت في ثمانينيات القرن الماضي بين جدران الجامعة، وفي الأثناء، كان مجتمع آخر يتشكل، إنه مجتمع خلفي، بعيد عن الطبقة السياسية التي قادت المرحلة”.
ويؤكد مبروك “أن جيوب الدولة العميقة اشتغلت من أجل إيقاف هذا المسار مستغلة جبال الأخطاء وسوء التقدير”، لكنه يضيف أن “البلاد شهدت مع كل ذلك خلال تلك العشرية، بكل أخطائها، ربيعاً ديمقراطياً، حيث انتظمت أكثر من ست محطات سياسية عميقة وكُتب دستور ريادي وتداولت حكومات انتقالية وجرى انتخاب مجلس وطني تأسيسي لكتابة دستور جديد، حتى أصبحت نموذجاً ناجحاً للتحول الديمقراطي في المنطقة”. لكنه يلفت إلى أنه “مع مرور تلك السنوات، انفصل المجتمع العام عن الثورة وظل ملتفاً حولها المجتمع السياسي الذي فقد ثقة الناس، ولا شك أن انغلاقه وخطابه والرموز التي بثها من خلال وسائل الإعلام قد ساهمت في نحت صورة منفرة له”.
ويشير مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس إلى أن “ثمة عوامل عدة تلعب دوراً هاماً في تناسي الثورة التونسية أو عدم التحمس لها، لعل أهمها ما يبدو للبعض أن البعض الآخر سرقها أو غدر بها، وقد يدفع الراهن، بكل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية العويصة، البعض أيضاً إلى تبني مشاعر النقمة عليها، وقد يشعر البعض بأن التغيير لم يأتِ بالنتائج المرجوة أو أن الانتقال الديمقراطي لم يحل المشكلات بل ضاعفها، لذلك يرتمي في أحضان الشعبوية المستبدة أو اللامبالاة”.
ويلفت مبروك إلى أن “نسب الانتخابات تبرهن أن شعباً كاملاً يعزف عن الشأن العام، ومن يفرح لهذا المعطى على أساس أنه يبرهن له على خسران النظام شعبيته فإنه خاطئ، لأن معارك استعادة الديمقراطية تقتضي تعبئة مواطنية كبرى”. ويختم مبروك قائلاً إن “طعم نسيان الثورة التونسية هذه السنة خاص وعلقم، وما يجري في قطاع غزة يعمق النسيان أيضا”، مؤكداً أن “الثورات ليست حدثاً ولا خطأ أفقياً إنما هي أيضا خطوط متقطعة وتعرجات ومنعطفات”.
النخب السياسية والشعبوية تفكّك الديمقراطية
لا يختلف مدير الديوان الرئاسي الأسبق ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي عدنان منصر عن هذه القراءة كثيراً، ويقول لـ”العربي الجديد”: “يمكن بالفعل اليوم أن نتحدث عن سقوط التجربة الديمقراطية التونسية. هناك عملية تفكيك واضحة للديمقراطية تجري في تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021 بطريقة منسقة ومخطط لها، وتُنفذ اليوم من دون مقاومة حقيقية لها”.
ويفسر صاحب كتاب “سنوات الطين، تونس من الديمقراطية الكسيحة إلى الاستبداد الشعبوي”، أن “المسؤولية عن سقوط الديمقراطية التونسية هي أولاً مسؤولية النخب السياسية التي اعتقدت، ولم تكن قد مرّت على التجربة سوى بضع سنوات، أنها تجربة غير قابلة للتراجع والتفكيك”.
ويضيف منصر: “سمح ذلك للنخب السياسية باتّباع سلوكيات أتت في نهاية الأمر على الديمقراطية، وأول مظاهر هذه المسؤولية هو الطابع الشكلاني الذي أسبغته النخب السياسية على الديمقراطية التونسية قولاً وممارسة”.
ويلفت إلى أن “التحالفات السياسية التي كانت تتم من انتخابات إلى أخرى، والتي كانت تُشكل بموجبها حكومات أو تُسقط، لم تكن في نهاية الأمر اعتداء على الديمقراطية من ناحية شكلية، لكن كل تلك الممارسات حكم عليها بأنها لاأخلاقية”.
ويضيف منصر: “هذا هو الحكم العام الذي أصدره الشارع على النخب وعلى الديمقراطية كما مارستها تلك النخب، وهو ما جعل الشعبوية تسير في طريق مفتوح تماما، وقد بدأ ذلك بصورة مؤسساتية في 25 يوليو، لكن إرهاصاته كانت واضحة منذ سنة 2019”.
ويشير منصر إلى أن “الوجه الثاني من المسؤولية، التي تتحمّلها النخب السياسية عن فشل الديمقراطية، هو ما أدت إليه الصراعات السياسية من انفصال تام للساحة السياسية والحزبية والمؤسساتية عن الساحة الواقعية، ببساطة، تركت النخب مهمتها الأصلية وهي تمثيل الناس في مؤسسات الدولة من أجل حل مشكلاتهم، إلى مهمة أخرى، وهي إدارة الصراع السياسي فيما بينها”. ويضيف: “أدى ذلك إلى حكم أخلاقي آخر وهو أن كل السياسيين متشابهون، وأن حل مشاكل الناس الحياتية هو آخر اهتماماتهم”.
ويتابع منصر: “نفهم من ذلك ببساطة العوامل الهيكلية لفشل التجربة الديمقراطية، من ناحية أنها عوامل جعلت الناس تفقد الثقة في النخب وفي الديمقراطية، وفي الوقت نفسه، هي عوامل قبول الرأي العام للشعبويين اليوم، لأن ذلك هو ما يقوله الشعبويون بالضبط: “النخب فاسدة لا يمكن أن تنتج إلا ديمقراطية فاسدة”، وهذا ما يؤدي إلى الوضع الحالي الذي سيستمر بمميزاته الراهنة في المدى المتوسط”.
ويذهب منصر إلى تفكيك هذا الوضع، معتبراً أن “هناك مفارقة هامة لم تستطع كثير من النخب فهمها: كيف يمكن أن يؤدي كل هذا الفشل في إدارة الشأن العام الذي يراكمه الشعبويون بقيادة (الرئيس التونسي) قيس سعيّد اليوم، والذي يظهر بوضوح في إدارة مسألة التموين، إلى كل هذا الهدوء من قبل الشارع؟”.
عدنان منصر: هناك عملية تفكيك واضحة للديمقراطية في تونس من دون مقاومة حقيقية لها
ويضيف: “هذا الهدوء لا يعبّر فقط عن قبول، ولكن بالأساس عن يأس. لو كان الأمر يتعلق بقبول أو بشرعية شعبية لرأينا نسب مشاركة محترمة في كل الانتخابات التي دعا إليها قيس سعيّد”.
ويتابع: “هناك يأس من رؤية الأمور تتغير نحو الأحسن بالطرق المتعارف عليها، وفي الوقت نفسه ليست هناك عروض سياسية تطرح أفكاراً جديدة يمكن أن يتبناها هذا الشارع المنهك واليائس”. ويعتبر أن “هذه هي الوضعية المثالية لاستمرار أي نظام حكم شعبوي، وفي المقابل، تطرح المعارضة اليوم العودة للديمقراطية. هذا جميل. لكن الأمر يتعلق مرة أخرى بتلك الديمقراطية التي يئس الناس من رؤية نجاعتها وقدرتها على تحسين الواقع”.
مؤلف كتاب “الشعب يريد: حين تأكل الديمقراطية نفسها”، الباحث السياسي أيمن البوغانمي، يقول في تصريح لـ”العربي الجديد”: “نحن حالياً في مرحلة الثورة المضادة، وهي مرحلة عادية في كل الثورات”. ويضيف: “إذا اعتبرنا الثورة التونسية ثورة ديمقراطية، فنحن اليوم في الاتجاه المعاكس، ونبتعد يومياً بخطوة إضافية عن الديمقراطية وهو ما يعني الثورة المضادة بقطع النظر عن الخطابات والشعارات”. ويؤكد أن “هذا القوس يمكن أن يطول كثيراً لأسباب كثيرة، وحتى طموح الثورة أو القيمة الأساسية المتفق عليها في المراحل الأولى للثورة تم التخلي عنها، وهذا يمكن أن يطول أو ربما العكس لأن هذه المسألة مرتبطة بعوامل كثيرة يصعب حصرها”.
ويلفت البوغانمي إلى أن “المهجة (التوجه أو الروح) العامة لا تخدم مصلحة المطالبة بالديمقراطية، وكأن هناك توافقاً بين خطاب الشارع ومسيرة الابتعاد عن الديمقراطية، وهذا يمكن تفسيره بأن تقاليدنا الديمقراطية ضعيفة جداً، وهذا يشير إلى إمكانية طول أمد التجربة الحالية”.
ويبيّن البوغانمي أن “الخلافات السياسية في تونس كانت عميقة وتسببت في ضياع التجربة، لكن طبيعة الخلافات لم تكن إيجابية، لأننا إذا اتفقنا على احترام الديمقراطية، فهناك مخاطر تهددها لا يجب القيام بها، ولكن الاتفاق العام حول قيمة الديمقراطية لم يؤد للأسف إلى اتفاق حول الاستتباعات التي تنبع من ذلك الاتفاق، كأن نضيّع التجربة بسبب حسابات أو نقاط سياسية”. ويضيف: “هناك عوامل عديدة حوّلت الصراع إلى مرض قاتل، من بينها الأزمات في تونس وضعف المؤسسات والتهور النقابي وأيضاً الأزمة في ليبيا، وبالتالي هناك عدة عناصر داخلية وخارجية ومؤامرات ساهمت في ضرب التجربة، لأن التجربة التونسية تآمرت عليها عدة أيدٍ ولم تشأ لهذه الديمقراطية أن تستقر”.
#الثورة #التونسية #في #ذكراها #الـ13 #عودة #إلى #ما #قبلها
تابعوا Tunisactus على Google News