- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

الحسين إيلان يعيد للجسد مركزيته ويحرر رغباته من الظلام | عزالدين بوركة

- الإعلانات -

“الفن، الإيقاع، الرغبة”، ثلاثية أزلية لا ينفصل الواحد فيها عن الأجزاء الأخرى، ويخبرنا كروتشيه بأن الفن، إلى جانب كونه حدسا، يعد إيقاعا غنائيا. وهو ما يمنحه الشبقية المرتبطة بالرغبة.

وإنْ يمكن وصف الأعمال الفنية، متبعين الفلسفة التحليلية، على أنها “أشكال الفن”، أو بالتعبير السوسيولوجي “أشكال ثقافية”، فمن المستحيل الحديث عنها، دونما التحدث عن رغبة وما تستلزمه من خطاب صوفي وإيروتيكي حول الفن. لذلك يجب علينا أن ننظر، ببساطة شديدة، إلى الرغبة وعلاقتها بالذات المبدعة والدخلاني والمفارق والشهواني فيها.

 إنّ الرغبة هي ذلك الجزء غير العقلاني من الروح، والذي يُطلق عليه أحيانا الجزء الآخر من العقل، الجانب الغامض والمستتر؛ إنها ضد الإرادة، حرة وطليقة، لا تتصل بأي قاعدة ولا تستكين إلى أي حدود، إنها جامحة ومندفعة، وهي ما يهب الفن عنفوانه والجرأة على اقتحام المجهول والكشف عن المسكوت عنه.

الإيقاع الإيروتيكي

◙ معرض بروح مختلفة
معرض بروح مختلفة

يطارد الفنان التشكيلي المغربي الحسين إيلان الرغبة متبعا إيقاعاتها المرتبطة بالذات والجسد والداخل، رغم أن منجزاته تلامس التجريد، فهي تنفلت منه لترسم معالم الجسد الشبقي الضاج بالرغبة بكل تجلياتها الجنسانية والتحررية.

ويحوّل إيلان إطار اللوحة إلى شكل دال وعلامة إستتيقية، فيصير بدوره مفتاحا لقراءة العمل. إذ يتخذ الإطار شكل المثلث بكل ما يحمله من إيحاءات جنسية في الثقافة المغربية، خاصة الأمازيغية منها.

للمثلث -في الموروث المغربي- إيقاع إيروتيكي يتنوع ويختلف تبعا لطريقة عرضه. يشير المثلث المنتصب رأسه صوب الأعلى إلى الذكورة والفحولة، بينما يحيل المثلث المائل رأسه إلى الأسفل إلى الأنوثة والخصوبة.

وهو ما يمنح كل منجز على حدة نوعا من الفانتازم والشهوانية المسكوت عنها مجتمعيا، وخاصة، في ظل “غزو” التيارات الإسلاماوية التي عمدت إلى نشر خطابات تقمع الرغبة والبوح، باسم العفة والحشمة، وغيرها من المسميات التي تستغلها لقمع كل أشكال الرغبة الفردية. مما يجعلها خاضعة للسلطة الغير (الجماعات) لا الذات (الفرد)، قابعة في الأعماق المظلمة غير قادرة على الخروج إلى السطح للكشف عن نفسها، إلى جانب ما تتعرض إليه من إخضاع من قبل السلطة السياسية، التي ترغب جاهدة في رسم حدود الجسد ورغباته، لتتحكم في الفرد وذاته.

 لهذا رأى مشيل فوكو بأن الجسد ليس كيانا طبيعيا، بل إنه نتاج اجتماعي، خاضع لأنظمة المعرفة والسلطة، أي أنه من إنتاج الخطاب، مما يجعله لَيّنا سهل التطويع.

يقول نيتشه “إن الغريزة هي أعظم أنواع الذكاء التي عرفها الإنسان حتى الآن، لقد بالغ الإنسان في تقدير الإدراك العقلي، وليس الإدراك سوى عملية ثانوية لإدارة القوة التي تجسّدها الغريزة”.

ولا تنفصل الرغبة والغريزة عند هذا الفيلسوف عن الفن، بالمعنى الديونيزيوسي المتعارض مع الأبولوني.. إذ أن الفن في نظره هو النشاط الميتافيزيقي الحقيقي الذي يقوم به الإنسان، حيث لا يعد نشاطا عقليا بالمعنى الهيجيلي، بل إنه فعل شبقي وإيروتيكي مثير للحواس والرغبات.

إيقاعات الرغبة

إن الفن اندفاع للرغبة بهذا المعنى. ولكون الرغبة جامحة ومندفعة، فكيف يكون لها إيقاعـ(ات)؟ هذا هو السؤال الذي نجعله مدخلا إلى قراءة دلالات ومعاني منجزات الحسين يلان.

يجعل هذا الفنان من المثلث شكله الرئيس لكل أعماله، بل إنه المحور الركيز الذي يمكننا إتباع حركات إيقاعاته لمطاردة المضامين الخفية والعلامات الرامزة، التي يكتنز بها عمل إيلان الفني.

يُفجر إيلان، في نسقية وتوليد دلالي، علاماته على المساحة الصباغية، مُنتجا بذلك شظايا علاماتية تغدو استعارات ورموزا. عامدا إلى تكثيف أشكاله ومانحا عمله بدنا ملموسا وخشنا، يجعله يتصل في ما يصطلح عليه ميرلو بونتي، بنسيج العالم. فالعمل الفني نتاج المواد والبنى والأشكال ذاتها التي تشكل العالم. مما يجعله جسدا متصلا بالجسد الكلي: الكون.

ولأننا مدفوعون بالرغبة والبحث عن إشباعها فإيلان يجعل من رموزه متصلة بالإشارات الدالة عليها. يتضح ذلك جليا من خلال تلك العلامات التي تحاول، رغم التجريد، أن تجسّد الأعضاء الشهوانية الذكورية والأنثوية، حيث يصير السهم قضيبا ويتحول الشكر المقوس إلى ثدي. وكل ذلك داخل جسد مثلثي يحيلنا سواء إلى المذكر أو المؤنث، أو هما معا. إننا إذن، نقف إزاء إيقاعات متداخلة للرغبات الإيروتيكية، حيث تضم الواحدة الأخرى، وتحيل عليها.

ولأنه، ومنذ الزمن البعيد، كان الإيقاع البدائي احتضانا جنسيا أنتج جميع أشكال الفن، فلا يمكن عزله عن تفاصيل العمل الفني الصباغي، وهو يتخذ في عمل الحسين إيلان حضورا دالا، عبر تجريد لا يحاول قمع الرغبة والاندفاع الشهواني، بل إنه يرغب في جعل معالم الغموض التي يحيا فيها بارزة وقابلة للتأويل.

يغدو الإطار في منجز إيلان رمزا لا شكلا خارجيا تزيينيا أو مؤطرا لحدود العمل. إذ يمنح هذا الشكل للوحة انفتاحا على الأفق في كل الاتجاهات، مما يجعل المتلقي يعمد إلى تكميل الصورة ذهنيا، أي إعمال المخيلة، وهو ما يضع المنجز إزاء المكشوف والمسكوت عنه في آن، بين الظاهر والمضمر، كأننا أمام مشهدية سينمائية حيث لا تعمد الصورة إلى تأطير المشهد ووضع حدود بصرية له، بل إنها تراوح بالمتلقي بين الحقل وخارجه، بين ما تشير إليه (المرئي) وما تحيل إليه (اللامرئي).

ولأن “الجسد -كما يخبرنا حسن إغلان- يظل في ثقافتنا العربية الإسلامية منسيا ولا مرئيا، حتى إن كنا نراه ونبحث عنه، ثمة حجب متعددة بيننا وبينه”، لهذا فهو مؤطر ومتحكم فيه، مما دفع إيلان إلى الانزياح عن الحدود المتعارف عليها في اللوحة، ليختار المثلث، كأفق مفتوح لا حدود له.

يتحوّل المثلث في عمل هذا الفنان إلى بدن وجسد، حاملا للدلالة، مادام خاضعا لآلية إنتاج الخطاب. وهو ما يمنحه دلالة رمزية، تتراوح بين المقدس والمدنس، وذلك في ظل حديثنا عن الثقافة الإسلامية والعربية والأمازيغية. ففي هذه الأخيرة، يغدو المثلث استعارة ورمزا يحيلان إلى الجسد، وخاصة الأنثوي، في إشارة إلى العضو التناسلي وما يحمله من قدسية، وأيضا إلى رحم الإلهة – الأم، إذ قدس الأمازيغ المرأة ووضعوها على رأس القبيلة (تَمْغارْتْ= المرأة= تأنيث لزعيم القبيلة ‘أمْغارْ’).

بينما الجسد في الثقافة العربية الإسلامية مشروط بالقدسي والدنيوي، خاضع للحدود المرسومة سلفا، حدود مقدسة يستحيل اختراقها، ولا انفصال بين القدسي والدنيوي، فكلاهما يعملان على تأطير الجسد باسم الـ”عفة”، لكونه وعاء الشرور والآثام والذنوب، فهو قابل للفساد عكس الروح.

بين هذه الثنائية، التقديس والتدنيس، الانفتاح والانغلاق، يعمل الحسين إيلان على أعماله جاعلا منها أبدانا تنعم بالحياة، تكتنز رموزا دلالية أو تحمل مفردات قادمة من العالم المعيش واليومي والاعتيادي.

محرك العالم

يغدو منجز إيلان ساحة حفريات أركيولوجية للجسد، يكتب عبر تلك المفردات، التي يدمجها في صلب بدنه، تاريخ تفاصيل الجسد المغربي، عامدا إلى إخراج الجسد من دائرة اللامفكر فيه.

وأما التجريد -عنده- ليس مضادا للتشخيص، بل إنه وسيلة للترميز والتكثيف، ويبرز المشخَّص في عمله من خلال ذلك الشكل الهلامي الهجين الذي استحدثه، أو من خلال تلك الخامات التي يلصقها ويدمجها في العمل الفني، لتغدو أثرا، مانحة إياه تضاريس ومتاهات والتواءات، تجعل منه بدنا حيا، في بعد إيروتيكي يتضح بفعل تلك الصباغات الترابية المائلة إلى لون البشرة الآدمية بكل تدرجاته.

يستقي إيلان خاماته من البيئة المغربية الشعبية والفقهية، وهما مجالان يتقاطعان في الكثير من التفاصيل. حيث تشير “المجمرة” إلى عوالم الشعوذة وإلى الوصفات البخورية “الشافية” (التي يصفها الفقيه إلى الممسوسين)، وكلاهما وسيلتان ترومان التحكم في الجسد، الأولى عبر إخضاعه بالتسليط والثانية عبر إفراغه من الشياطين والشرور، بغية ضبطه “حتى يكون نسخة للأصل”، حيث إن “جسد المسلم فضاء للصراع بين اللاوعي الشيطاني واللاوعي السماوي، صراع يمتد في الجسد إلى حدود مماته”، كما يخبرنا إغلان.

إن الجسد إذن، خاضع لشمولية هدفها إخضاعه وجعله تباعا لممارسات سلوكية أو خطابية أو لاهوتية أو اجتماعية، غيّر أن الحسين إيلان يجعلنا نواجه نوافذ مفتوحة على الرغبة التي يعمد إلى إظهارها وإخراجها إلى دائرة الضوء، لكل ما تحمله من عنفوان واندفاع إيروتيكي، متحديا على تلك القيود التي تقيّد الجسد داخل حدود مرسومة سابقا، إذ يجعل من منشأته الفنية (الآلة الراغبة، 2022) تجسدا لذلك.

بين ثنائيات التقديس والتدنيس والانفتاح والانغلاق يعمل الحسين إيلان على أعماله جاعلا منها أبدانا تنعم بالحياة

يُخرج شكله الهجين (قبة-ثدي وصومعة-قضيب: المذكر في المؤنث) من المساحة المسطحة إلى الفضاء الثلاثي الأبعاد يحتل الفضاء، واضعا إياه داخل مثلث معدني يدور فوق حامل مندمج معه، حول خارطة العالم المنبسطة فوق الحامل.الرغبة، إذن، هي محرك العالم وهي أساس صراعاته والدافع الرئيس نحو كل التغيرات الحاصلة فيه. وقد عرض إيلان عمله هذا، رفقة مجموعة من لوحاته، في معرضه الفردي برواق “منظار Mine D’art” بالدار بيضاء، في شهر مارس الماضي.

يرسم الحسين إيلان عبر أعماله تفاصيل الرغبة وإيقاعاتها، أي إنه لا يحددها في تصنيف جنساني أو استهلاكي أو اجتماعي أو ذاتي محدد، بل إنه يدمج الرغبات في مفردة واحدة بصيغة المفرد، مما يمنح منجزه تكثيفا دلاليا ويجعله قابلا للتأويل المفتوح والمفرط.. فيه يقترب الجسد من المقدس والمدنس معا، وفيه يعيش الأول في الثاني والعكس (لنتأمل الشكل الهجين)؛ غير أن الرغبة الكبرى التي يسعى إلى توضيحها بالمجرد المنجز ههنا، هي تلك المتعلقة بالاندفاع الجنساني، والتي تعد ذريعة للتكاثر والتناسخ مع الأصل (إن أول ما خلقه الله في الإنسان هو العضو التناسلي، يخبرنا القرطبي)، وهي أيضا مدعاة كل الحروب والصراعات التي تغير السياسات والجغرافيات، لهذا فآلة الرغبة ستظل تدور وتجول العالم.

يستقي إيلان خاماته من البيئة المغربية الشعبية والفقهية

 

#الحسين #إيلان #يعيد #للجسد #مركزيته #ويحرر #رغباته #من #الظلام #عزالدين #بوركة

تابعوا Tunisactus على Google News

- الإعلانات -

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد