السلطات التونسية ترمي كرة شح التموين في ملعب المحتكرين
برامج رقابية نوعية تستهدف حلقات الإنتاج والتخزين والتوزيع (فرانس برس)
تحمّل سلطات تونس المحتكرين مسؤولية اختفاء سلع أساسية من السوق، متهمة شبكات توزيع الغذاء بالتلاعب بقوت التونسيين، بينما يحذر مهتمون بالشأن الاقتصادي من مخاطر تعويم قضية ندرة المواد الأساسية في البلاد وحصرها في مكافحة الاحتكار في وقت تسارع كل الدول إلى تأمين غذاء شعوبها على وقع الحرب الأوكرانية الروسية.
وبدأت فرق مشتركة من الأمن وجهاز المراقبة الاقتصادية في تنفيذ خطة رئاسية لتعقّب المحتكرين عبر مداهمة مخازنهم ومصادرة السلع المخزنة بغاية المضاربة، في ثاني حملة وطنية لملاحقة المحتكرين منذ 25 يوليو/ تموز الماضي تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيد إجراءات استثنائية جمع بمقتضاها في يديه كل السلطات.
وأعلنت وزارة التجارة وتنمية الصادرات، الخميس الماضي، وضع خطة مشتركة تتضمن برامج رقابية نوعية مسترسلة بمختلف حلقات الإنتاج والخزن والتوزيع يتواصل تنفيذها إلى غاية استرجاع النسق العادي للتزويد والأسعار.
وأكدت وزارة التجارة، في بلاغ لها، توفر المخزونات الكافية من المواد الأساسية المدعمة والمواد الموردة، بما يغطي حاجيات الاستهلاك خلال الفترة الحالية وشهر رمضان، داعية المواطنين إلى “ترشيد شراءاتهم وتفادي مختلف مظاهر اللهفة التي من شانها إرباك السير العادي للتزويد والعرض بالسوق وتغذية محاولات الاحتكار”.
لكن السوق التونسية تعاني منذ أشهر من نقص في مواد أساسية لموائد التونسيين، ولا سيما منها الدقيق والمعجنات والزيوت النباتية والسكر والأرز، وهي مواد تدعمها الدولة في إطار سياسة اجتماعية تعتمدها تونس منذ أكثر من 5 عقود.
وتنكر السلطة الرسمية في تونس وجود أزمة ناتجة عن ضعف المخزونات الاستراتيجية من المواد الأساسية أو تأثير أزمة المالية العمومية على تأمين واردات الغذاء والطاقة، التي قد تكلف الموازنة نفقات إضافية ستضاف إلى عجز بنحو 9 مليارات دينار في موازنة العام الحالي.
ويعتبر وزير التجارة السابق والخبير الاقتصادي محسن حسن أن “الحكومة تجانب الصواب بحصر مشاكل نقص التموين في مسألة الاحتكار”، مؤكدا أن “تونس تعاني من مشاكل هيكلية في اقتصادها وماليتها أثرت بشكل مباشر على قدرة الدولة على مواصلة تأمين واردات المواد الأساسية التي تتصاعد أثمانها يوميا منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية”.
وقال حسن، في تصريح لـ”العربي الجديد”، إن شماعة الاحتكار التي تعلّق عليها السلطة أسباب اختفاء مواد أساسية من السوق “ليست إلا جزءا من مشاكل متراكمة تتجه بالبلاد إلى اقتصاد الندرة”.
وفسّر وزير التجارة أزمة اختفاء المواد الأساسية بـ”تفكك منظومات الغذاء على مدى السنوات الماضية، وغياب سياسات حكومية لدعم الإنتاج وتحقيق الأمن الغذائي”، مرجحا أن تتصاعد الأزمة بسبب عدم قدرة تونس على مجابهة الارتفاع الصاروخي لأسعار الحبوب والطاقة في السوق العالمية.
وأضاف أن “أزمة المالية العمومية انعكست بصورة واضحة على المؤسسات الحكومية المكلفة بشراءات المواد الأساسية، ومنها القمح والطاقة والدواء”، معتبرا أن “تونس التي تستورد 84% من القمح اللين الذي يصنع منه الخبز ليست في مأمن من الناحية الغذائية، وجاءت الأزمة الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة والقمح والمواد الأولية ليدفعا البلاد نحو مزيد من الاقتراض الخارجي لتأمين حاجياتها الأساسية من الغذاء والطاقة”.
وتعوّل تونس على القروض لتأمين الغذاء، إذ بلغت وارداتها من القمح الروسي والأوكراني، بحسب تقرير اتحاد المصارف العربية 1095 ألف طن، من بينها 984 ألف طن، جرى توريدها من أوكرانيا، بقيمة 196 مليون دولار، بينما تقدر قيمة الواردات الروسية بـ24 مليون دولار.
لكن الوزارات المكلفة بتنفيذ حملات تعقّب المحتكرين تنشر يوميا بلاغات عن حصيلة المداهمات لأوكار الاحتكار والمضاربة وحجز آلاف الأطنان من الدقيق والسكر والبيض ومختلف السلع المختفية من الأسواق.
في المقابل، يتبرأ تجار الجملة وأصحاب مخازن الغذاء من تهم الاحتكار والمضاربة التي تلاحقهم، معتبرين أنهم أصبحوا في مرمى الخطايا والملاحقات القضائية في إطار حملات السلطة “الدعائية” للتغطية على عجزها على توفير قوت التونسيين.
ويقول عز الدين فطناسي، وهو تاجر جملة للمواد الغذائية، إن “السوق تحتكم إلى قانون العرض والطلب في كل دول العالم”، مؤكدا أن “الحكومة توفر الأرضية الخصبة للمحتكرين بعدم ضخ الكميات الكافية من المواد الأساسية في الأسواق”.
وأفاد المتحدث، في تصريح لـ”العربي الجديد”، بأن ما تصفه السلطة بمكافحة الاحتكار “لن يخفض الأسعار ولن يحقق العرض المطلوب في الأسواق نتيجة وجود نقص حقيقي في مخزونات الحبوب والزيت وعدم تلاؤمها مع الحاجيات الحقيقية للسوق”، مضيفا أن “أكبر التجار القمح يضاربون في سوق الحبوب العالمية ولا تصادر سلعهم، لأن السوق تحتكم إلى قانون العرض والطلب”. ونبّه من تأثيرات ملاحقة تجار الجملة قضائيا ومصادرة سلعهم على مسالك التوزيع وانتظامية تزويد السوق.
والجمعة، أصدرت وزارة العدل منشورا لحث القضاء على إيلاء الجرائم الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص جرائم الاحتكار والمضاربة في المواد الأساسية والمدعمة والترفيع في الأسعار، الأهمية والمتابعة اللازمتين في عمل النيابة العمومية والمجالس القضائية، مع مضاعفة الجهد على مستوى النيابة العمومية لتتبع مثل هذه الجرائم بالنجاعة والسرعة المرجوتين، ومن خلاله على مزيد تنشيط دور خلايا الفصل السريع.
ومنذ إعلان سعيد لتدابير استثنائية في يوليو/ تموز الماضي، شّن حربا على شبكات المضاربة والاحتكار ووعد بخفض الأسعار، غير أن وعوده لم تحقق بعد بسبب تواصل الغلاء وتسجيل التضخم نسبا قياسية بلغت 6.6%، وفق أحدث البيانات التي نشرها معهد الإحصاء الحكومي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وتصاعدت ما بعد 25 يوليو/ تموز الماضي معركة كسر العظام بين السلطة وكارتلات الغذاء التي دخلت في مواجهة غير مباشرة مع الرئيس قيس سعيد، بسبب إعلانه ما وصفها بـ”حرب التصدي للمحتكرين والمضاربين”، بهدف حماية قوت المواطنين من الغلاء القياسي الذي يعيش على وقعه التونسيون.
وتشهد أسواق تونس بسبب حرب الكرّ والفرّ بين السلطة والكارتلات نقصاً في تزويد مواد أساسية، ومنها زيت الطهو إلى جانب ارتفاع قياسي في أسعار اللحوم البيضاء ومشتقات الدواجن، وسط توقعات بمزيد تأزم الوضع بسبب تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية على سلاسل الغذاء في العالم.
ويرجح خبراء الاقتصاد أن تحتاج حكومة نجلاء بودن إلى ما لا يقل عن 1.3 مليار دينار إضافية لمواصلة دعم السلع الغذائية الأساسية، ستُضاف إلى نحو 2.2 مليار دينار من نفقات الدعم التي جرى ترسيمها في قانون الموازنة للعام الحالي. وللحد من تأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية على الموازنة، رفّعت الحكومة أسعار الطاقة في مناسبتين في غضون شهر واحد، وراكمت زيادة لا تقل عن 6% في غالبية أصناف المحروقات.
#السلطات #التونسية #ترمي #كرة #شح #التموين #في #ملعب #المحتكرين
تابعوا Tunisactus على Google News