السلطوية العربية ومأزق الشباب في العالم العربي
عقب انطلاق شرارة
ثورات “الربيع العربي” تحول الشباب في العالم العربي إلى بؤرة اهتمام
مركزي على الصعيدين التنموي والأمني، إذ نادراً ما كان الشباب في العالم العربي
موضوع دراسات في العلوم الاجتماعية، فلم يُعترف بـ”الشباب” كفئة
اجتماعية في المنطقة إلا في فترة ما بعد الاستعمار، أي منذ منتصف القرن العشرين.
لكن حدثين مهمان غبرا هذا المنظار، وهما: هجمات تنظيم “القاعدة” على
الولايات المتحدة الأمريكية في 11 أيلول/
سبتمبر 2001، وانتفاضات “الربيع العربي” 2011، على الأنظمة السلطوية
العربية.
وسرعان ما سلّط
الرأي العام اهتماماً دولياً على الشباب في المنطقة، بعد أن كانت الأهمية
الاجتماعية للشباب مؤقتة أو عابرة. فالمزيج من الطفرة الديموغرافية الشبابية
وتهميش الشباب اقتصاديّاً وسياسيّاً أدى إلى الافتراض بأن الشباب يلعب دوراً
متزايداً في الاضطرابات الاجتماعية والسياسية على امتداد المنطقة. وهكذا أعادت
أحداث “الربيع العربي” توجيه الأنظار إلى الدور المحوري للشباب في
المنطقة.
قبل ظهور الموجة
العارمة من الاهتمام بالشباب في العالم العربي في الفترة التي سبقت انتفاضات
“الربيع العربي”، ظهرت في الولايات المتحدة بُعيد هجمات الحادي عشر من
أيلول/ سبتمبر، موجة كبيرة من الدراسات والوثائق الخاصة برسم السياسات المناسبة
للشباب العربي ترتكز على مفهومي التنمية والأمن، ومن تلك المبادرات “مبادرة
الشباب المسلم” في “مؤسسة راند”، و”مبادرة شباب الشرق
الأوسط” في “معهد بروكلين”، و”برنامج التبادل والدراسة الخاص
بالشباب” التابع لوزارة الخارجية الأميركية. وخلال الفترة ذاتها، تشكّلت
منظمات أهلية متخصصة في خدمة الشباب في الولايات المتحدة، مثل “مؤسسة التربية
والتشغيل”، وسرعان ما حذت المنظمات الدولية حذو المبادرين، فظهرت مبادرة “الأمم
المتحدة لأهداف الألفية: عدسة الشباب العربي” التابعة للأمم المتحدة، وأصدرت
منظمة العمل الدولية تقريراً خاصاً حول الشباب العربي. وبالإضافة إلى كل هذا، أخذت
التقارير المعنية بالإصلاح العام في العالم العربي -مثل تقارير التنمية البشرية- تركزّ
بشكل خاص على “قضية الشباب”.
المزيج من الطفرة الديموغرافية الشبابية وتهميش الشباب اقتصاديّاً وسياسيّاً أدى إلى الافتراض بأن الشباب يلعب دوراً متزايداً في الاضطرابات الاجتماعية والسياسية على امتداد المنطقة. وهكذا أعادت أحداث “الربيع العربي” توجيه الأنظار إلى الدور المحوري للشباب في المنطقة
في إطار الحرب
على الإرهاب شرعت الأنظمة السلطوية العربية الاهتمام بالشباب في العالم العربي،
فنشأت وزارات للشباب ووضِعَت استراتيجيات وطنية خاصة بالشباب، وظهرت العديد من
المنظمات الأهلية المتخصصة بالشباب وعدّلت المناهج التعليمية بحيث يصبح الشباب
“مؤهلين للعمل”؛ وتشكلت مجالس نيابية للشباب بهدف زيادة
“مشاركة” الشباب في الحياة السياسية.
ففي مصر، على
سبيل المثال، ظهر 60 في المئة من المنظمات الأهلية الخاصة بالشباب خلال الفترة
2003-2006. وصدرت العديد من التقارير في العالم العربي عن أوضاع الشباب، وكرست
الجامعة العربية تقريرَيْها للعامين 2005 و2006 لموضوع الشباب، وخصصت الشبكة
العربية للمنظمات الأهلية تقريرها السنوي لعام 2007 لتحليل وضع الشباب العرب
والمجتمع المدني. وتخصص مراكز رسم السياسات أقساما كاملة للشباب، مثل عصام فارس في
الجامعة الأمريكية في بيروت، ومدرسة الحكم في دبي.
لم تكن تلك
السياسات والاستراتيجيات الخاصة بالشباب العربي سوى بلاغة خطابية، فالممارسات
السلطوية كانت أشد وطأة وتتعارض مع الكلمات، فمعاناة الشباب في العالم العربي كانت
قد بلغت مداها قبل بدء الانتفاضات العربية. فالأنظمة السلطوية أغلقت مسارات
الإصلاح السياسي وتركزت اهتماماتها على ديمومة حكمها ومراكمة ثرواتها، وكان الفشل
السياسي والاقتصادي السمة المميزة للسلطوية العربية، فقد استمرت أنماط اللا مساواة
هذه وترسخت عبر الحكم السلطوي وقمع الدولة.
وحسب آدم هنية، فقد
كان من المستحيل التفرقة بين البُنى السياسية الأوتوقراطية للغاية في المنطقة
والسياسات والنتائج الخاصة بنماذج التنمية بقيادة السوق التي نُفذت منذ
الثمانينيات. فقبل الانحدار الاقتصادي العالمي في عام 2008 كان متوسط معدلات
البطالة الرسمية في كلٍ من مصر والأردن ولبنان والمغرب وسوريا وتونس أعلى من
المرصود في مثيلاتها في أي منطقة في العالم، وتضرر الشباب والنساء من البطالة أكثر
من أية فئات أخرى، حيث كان نحو خُمس النساء العربيات ورُبع الشباب في المنطقة
يعانون من البطالة.
وتُخفي هذه
الأرقام وراءها تفاوتات إقليمية كبيرة: في المشرق العربي (مصر، الأردن، لبنان،
العراق، سوريا، الضفة الغربية وقطاع غزة)، فقد عانى أكثر من 45 في المئة من مجمل
الشابات من البطالة في عام 2011، بواقع أكثر من ضِعف نسبة الشباب من الذكور. كما
كان الشرق الأوسط يحتل قاع معدلات المشاركة في سوق العمل على مستوى العالم، حيث
كان أقل من نصف سكان المنطقة يشاركون في قوة العمل، ونحو ثلث الشباب فقط و26 في
المئة من النساء كانوا يعملون، أو يسعون للعمل. وقد جاء هذا التهميش العميق للشباب
والنساء مصحوباً بتداعيات اجتماعية جذرية في البلدان التي سيطر فيها الرجال المُسنّون
على السلطة السياسية.
في ظل تردي السياسات السلطوية العربية قُبيل الانتفاضات العربية، وفي سياق الحرب الأمريكية على الإرهاب، تصاعدت خطابات التنمية والأمن العربية الرسمية تجاه الشباب، ولم تكن تلك الخطابات المنمقة التي تعد بخلاص الشباب سوى كلمات جوفاء فارغة
في ظل تردي
السياسات السلطوية العربية قُبيل الانتفاضات العربية، وفي سياق الحرب الأمريكية
على الإرهاب، تصاعدت خطابات التنمية والأمن العربية الرسمية تجاه الشباب، ولم تكن
تلك الخطابات المنمقة التي تعد بخلاص الشباب سوى كلمات جوفاء فارغة، عبّر عنها
مؤلف جماعي أصدره معهد بروكينغز في عام 2009 تحت عنوان: “شباب الشرق الأوسط
جيل يترقب ووعود لا تتحقق”، تناول فيه السياسات التنموية البائسة تجاه الشباب
في المنطقة.
عندما انطلقت
انتفاضات 2011 في العالم العربي كانت “جذور الغضب” لدى الشباب ناجزة وأسباب
وشروط التمرد مكتملة، وهي أسباب تشير إلى غياب العدالة وانحدار الحرية السياسية
والاقتصادية. ورغم أن خطاب التنمية شكّل ثيمة ثابتة للسلطويات العربية في عصر
العولمة النيوليبرالية، فقد برهن المفكر الاقتصادي علي القادري في كتابه
“التنمية العربية الممنوعة”، بأن الطبقة السلطوية العربية الحاكمة لن
تحقق التنمية المرجوة، فقد فشلت السلطوية في اختبار التنمية، وشهدت خلال العقود
الثلاثة الماضية تنمية عكسية؛ فتراجعت متوسطات الدخول وتزايد التفاوت في توزيعها،
وقفزت معدلات البطالة، واشتدّت القيود المفروضة على الحريّات المدنية.
ويشكك القادري في
قدرة الطبقات الاجتماعية الحاكمة في البلدان العربية على تحقيق “التنمية
القَوِيمة”، بسبب طبيعتها الاستبدادية وتبعيتها لرأس المال العالمي، بعدما
استسلمت وسلّمت سيادتها للتحولات النيوليبرالية التي استنزفت مواردها وثرواتها، إضافة
إلى توسّع الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على النفط نتيجة الحروب التي شنّتها على
البلدان العربية خلال العقود الأخيرة، حيث شهدت المنطقة أعلى وتيرة صراعاتٍ في
العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
مع اشتعال شرارة
ثورات الربيع العربي برز الشباب كقوة جديدة في المجتمعات العربية، حيث لعبت دور
المحرك الرئيس في حركتها الاحتجاجية وفي قيادتها، فقد احتلّ الشباب رجالاً ونساء
الساحات والميادين على الأرض في كل من تونس العاصمة والقاهرة وصنعاء والمنامة،
وغزوا المساحات الافتراضية على شبكة الإنترنت، رافعين شعارات الحرية والعدالة في
وجه الأنظمة السلطوية العربية، حيث تمكنت الحركة الشبابية من إسقاط أربعة حكام
استبداديين عرب استأثروا بالسلطة طيلة عقود في تونس ومصر وليبيا واليمن، وأصبح
“الشباب العرب” أبطال الحاضر وأمل المستقبل، وتحوّل بعضهم إلى رموز
للثوار على امتداد العالم العربي.
هكذا شكلت ثورات
الربيع العربي التي دشنها الشباب العربي مفاجأة وصدمة للغرب، الذي هيمنت على
مقارباته للمنطقة على مدى عقود نظرة دونية جوهرانية ثقافوية، تختزل المنطقة بشيبها
وشبابها في تفسيرات ثقافوية ودينية، وتنزع عن الإنسان العربي الفاعلية، وتسجنه في
بنى جوهرانية مغلقة.
مع اشتعال شرارة ثورات الربيع العربي برز الشباب كقوة جديدة في المجتمعات العربية، حيث لعبت دور المحرك الرئيس في حركتها الاحتجاجية وفي قيادتها، فقد احتلّ الشباب رجالاً ونساء الساحات والميادين على الأرض في كل من تونس العاصمة والقاهرة وصنعاء والمنامة، وغزوا المساحات الافتراضية على شبكة الإنترنت، رافعين شعارات الحرية والعدالة في وجه الأنظمة السلطوية العربية
والحال أنّ هذا
التوصيف متجذّر في فهمٍ سكونيّ وذي بُعدٍ واحد للهويّة؛ ولذلك فقد صُدم العديد من
المراقبين الغربيين، كما أشار جون إسبوزيتو، عندما بدأ العرب انتفاضاتهم العلنية
ضد حكوماتهم في كانون الأول/ ديسمبر 2010. إذ كان الحكم السلطوي قد أصبح هو الواقع
لفترة طويلة، لدرجة أن البعض قد اعتبره شكل الحكم المفضل لدى العرب، أو على الأقل
هو الواقع المتوقع والمقبول بالنسبة لهم، وقد أقر غريغوري غاوس أن العديد من علماء
السياسة كانوا غير مستعدين تماماً لهذه التطورات، وكتب مقالة في مجلة “فورين
أفيرز” بعنوان “لماذا أخفقت دراسات الشرق الأوسط في توقع الربيع العربي”.
شكّل افتراض
الاستثنائية العربية حجر الزاوية في تعامل الغرب مع العرب، فالحقيقة المُحزنة حسب
كينيث روث: هي أن السياسة الغالبة على الغرب تجاه الشعوب العربية كانت دائماً
سياسة احتواء، ويبدو أن الغرب راض في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدعم طائفة من
المستبدين العرب، طالما هم يدعمون المصالح الغربية ويرعونها. فالغرب ينظر إلى
أباطرة ومستبدين العالم العربي وكأنهم ضمانة “الاستقرار”، حتى لا ينزاح
الغطاء عن صندوق المطالب الشعبية. فالعالم يروج لحقوق الإنسان كقاعدة عامة، لكن
العالم العربي هو الاستثناء في نظر العالم. فقد سمحت الحكومات الغربية بـ”الاستثناء”
العربي لأنها كانت تعتقد أن أفضل من يخدم مصالحها في المنطقة هم الحُكام
المستبدون، بوعدهم الوهمي بـ”الاستقرار”، وفضّلت هذا الاختيار على مسار
الحكومات المنتخبة المليئة بالاحتمالات.
وهناك خمسة أسباب
مركزية تفسر قبول الغرب لهؤلاء الرؤساء والأباطرة الذين كانوا يعتقدون أنهم
سيشغلون كراسي الحُكم إلى نهاية حياتهم. السبب الأول هو “احتواء” أي
تهديد للمصالح الغربية من الإسلام السياسي، والسبب الثاني لاحتضان الغرب لطغاة
العرب هو تصور الغرب أنهم قادرين على مكافحة الإرهاب، وثالثاً، ائتمن الغرب الطغاة
العرب أكثر مما ائتمن الشعوب العربية على تحقيق حالة “وفاق” مع إسرائيل،
ورابعاً، كان الغرب يرى طغاة العرب أفضل سبيل لاستمرار تدفق النفط، وأخيراً، فإن
الغرب -لا سيما الاتحاد الأوروبي- لجأ إلى حكومات المنطقة السلطوية كي تساعده في
وقف تدفق المهاجرين.
قُبيل ثورات
الربيع العربي بلغت النظريات الثقافوية ومقولات الاستثنائية ذروة رواجها، والتي
تصف العالم العربي بالاستبداد والجمود والانغلاق ومعاندة التحول الديمقراطي، وقد
انتقد الباحثان لوران بونفوا وميريام كاتوس هذه التنميطات الاستشراقية بشأن مقاومة
العالم العربي لموجات نشر الديمقراطية، عقب نهاية الحرب الباردة، وسقوط الأنظمة
الشمولية في المنظومة السوفييتية، حيث “يبدو ظاهرياً” أن العالم العربي
منغلق على “العولمة السعيدة”، كما تنصّ عليها المرجعية الليبرالية
الشائعة، ولذلك عمدت بعض وسائل الإعلام وبعض الخبراء، من عرب وغيرهم، إلى الترويج
لمقولة مفادها أنَّ المنطقة مصيرها ركود تعمُّ فيه حالات البؤس، مستخدمة في ذلك،
وبإفراط، صوراً نمطية سلبية للمنطقة تعرّضت مرات عدة للتفكك. فقد انتشرت بعض
تمثيلات ورسخت في المخيلات الجمعية، لا سيّما الغربية منها، كتمثيلات الإرهابي
الكامن داخل أي “شاب عربي”. وتبدو الأجيال العربية الجديدة وكأنها معين
لا ينضب من الإرهابيين المحتملين.
الغرب ينظر إلى أباطرة ومستبدين العالم العربي وكأنهم ضمانة “الاستقرار”، حتى لا ينزاح الغطاء عن صندوق المطالب الشعبية. فالعالم يروج لحقوق الإنسان كقاعدة عامة، لكن العالم العربي هو الاستثناء في نظر العالم
إن الخطاب الذي
يربط بين الشباب والعنف والإسلام، له جذور بعيدة، وقد تصاعد الربط بسبب تميز
المنطقة العربية بأنها تضم أكبر مجموعة من الفئة الشبابية التي شهدتها المنطقة على
الإطلاق، حيث يشكل الشباب (15-29 سنة) حوالي 30 في المئة من السكان، أو نحو 110
مليون نسمة في منطقة لم يتعد فيها 60 في المئة من السكان سن الثلاثين.
وبعد هجمات
الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 تنامى الخطاب حول الشباب والعنف في العالم
العربي مع ارتباطه بخطاب التّنمية والأمن، وتكرّست المخاوف الأمنيّة الغربيّة بشأن
الإرهاب العربيّ والإسلاميّ من جهة، وأفعال وهويّات الشباب العربيّ من الجهة
المقابلة. وبعد تنفيذ الهجمات مباشرةً، صدرت تقارير أمريكية ودولية كثيرة تتحدّث
عن تضخّم عدد الشباب وتهديده لأمن الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ومنها ما أصدره
معهد بروكنغز في تقريرين عن تضخّم أعداد الشباب. وقد أكد غراهام فولر، النائب
السابق لرئيس مجلس الاستخبارات الوطنية في السي آي إيه في كتاب بعنوان “عامل
الشباب”، مزاعم الربط بين الشباب والعنف والإسلام في العالم العربي، وشدد على
النقمة الديموغرافية والميل نحو العنف والعداء للولايات المتحدة.
حاجج يوسف كرباج،
وهو مدير الأبحاث في المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية في باريس، بأن التحوّل
الديمغرافي، بمعناه الأوسع، هوَ ظاهرة كونية، تشمل الآن العالم العربي، وأن ظاهرة
“النمو في أعداد الشباب” لن تدوم إلى الأبد. فقد دخلت جميع هذه الدول
اليوم في مرحلة من التقارب مع العالم المتقدم، وهو ما يعني أن “النمو في
أعداد الشباب” سيبدأ بالانخفاض من دون أن يترافق ذلك مع ارتفاع كبير في نسبة
المسنّين. وهذه الديموغرافيا الجديدة تقدّم فرصاً هائلة للعالم العربي وللمنطقة.
ويؤكد كرباج على
أن وصول تلك الانتفاضات إلى البلدان العربية كان حتمياً، وتكمن المشكلة الأساسية
لدى هذه المدرسة الفكرية -التي تعتمد منظور النمو في أعداد الشباب- في أنها تصوّر
الواقع المتغيّر بسرعة في هذه المجتمعات على أنها حالة ثابتة، وتُرجع تلك الظاهرة
العابرة إلى عوامل حضارية ودينية. وهي، بحسب هذه الأدبيات، تصوّر العرب والمسلمين
بأنهم معادون للحداثة وبأن سلوكهم الديموغرافي ثابت محدّد إلى الأبد.
إن فرضية وجود
علاقة بين طفرة أعداد الشباب الذكور في المجتمع وبين الاضطرابات الاجتماعية التي
تؤدي إلى الحرب والإرهاب، ليست جديدة، وكان هربرت مولر قد توصل منذ ستينيات القرن
الماضي إلى القول: “يجب النظر إلى الفئات العمرية للسكان على أنها مُعامِل
أساسي في نشوء السلوك العنفي”.
وفي سبعينيات
القرن الماضي أصدر نادي روما تقريره الأول الشهير “حدود النمو” في عام
1972، محذراً من تزايد السكان وارتباطه بالشباب بالعنف، لكن الجديد هو فرضية استثنائية
التحولات الديمغرافية وطفرة الشباب العربي والإسلامي وربط العنف بالثقافة العربية
والإسلامية، وهي فرضية استند إليها صموئيل هنتنغتون في نظرية “صدام
الحضارات”، حيث يقول: “الشباب هم أبطال الاحتجاج وعدم الاستقرار
والإصلاح والثورة”، إذ تشكّل الديموغرافيا حسب هنتنغتون عاملاً محدّداً أساسياً
في صراع الحضارات، وخصوصاً الحضارات الإسلامية، ذلك “أن نمو السكان في
البلدان الإسلامية، وبخاصة تزايد الفئة العمرية بين 15 و24 عاماً، يوفّر الاستقطاب
للتيارات الأصولية ويشجّع التمرد والهجرة؛ فالنمو الاقتصادي يعزّز حكومات آسيا، في
حين أن النمو الديموغرافي يهدّد الحكومات الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية”.
وقد نقض إيمانويل
تودْ ويوسف كرباج مقولة “صراع الحضارات” عبر المداخل الديمغرافية في
كتاب “لقاء الحضارات”، وأكدا أن التحول الديمغرافي في العالم الإسلامي
سوف يقود إلى تحولٍ عميقٍ سيسمح للحداثة في النهاية أن تعمَّ في المجتمعات؛ التي
تبدو ظاهرياً وكأنها في حالة جمود وثبات.
يُنظر إلى الشباب كفرصة وتهديد، ولا تعدو هذه السياسات عن كونها أيديولوجيا خطابية تهدف إلى خدمة قوى السلطة، وتكريس الانقسامات داخل المجتمع باصطناع نموذج الشاب الجيد الموالي للسلطة والشاب السيئ المعارض للسلطة
إن النظر إلى
الشباب كتهديد في العالم العربي وربطه بالعنف والإرهاب وعدم الاستقرار راسخ في
الخطاب الغربي، في مجالات معرفية عدة، فقد ربطت دراسات عديدة بين الديموغرافيا في
العالم العربي والإسلامي والتطرف وعدم الاستقرار. وأشار تقرير استراتيجي أعدّه
جنرالات متقاعدون ومسؤولون رفيعو المستوى في منظمة حلف شمال الأطلسي، بعنوان:
“نحو استراتيجية شاملة لعالم غير مستقر”، إلى الدول العربية والإسلامية
على أنها أقل المناطق استقراراً في العالم، وذلك بسبب “النمو في أعداد
الشباب” فيها، الأمر الذي -بحسب معدّي التقرير- يعزّز عوامل الاضطراب
والالتباس ويشجّع التعصّب السياسي والإسلام المتطرف الذي قد يغذّيه “الانفجار
الديموغرافي”.
خلاصة القول أن
التعامل الغربي مع المنطقة العربية يستند إلى مقولات ثقافوية جوهرانية تربط
الإسلام بالعنف، وتتعامل مع مسألة الشباب العربي باعتبارها خطرا استراتيجيّا، من
مدخل الزيادة السكانية، بحيث يتحوّل الشباب إلى قضية جيوسياسية، واستخدام منهج
معرفي يستند إلى مفاهيم عدم الاستقرار السياسي والإرهاب والهجرة إلى الغرب، ويتعامل
مع ارتفاع نسب الشباب بين السكّان كمصدر تهديدٍ استراتيجيّ، وهو ما تتماهى معه
سياسات الأنظمة العربية السلطوية تجاه الشباب التي ترتكز على خطاب عولمي ثقافوي.
يُنظر إلى الشباب
كفرصة وتهديد، ولا تعدو هذه السياسات عن كونها أيديولوجيا خطابية تهدف إلى خدمة
قوى السلطة، وتكريس الانقسامات داخل المجتمع باصطناع نموذج الشاب الجيد الموالي
للسلطة والشاب السيئ المعارض للسلطة، فالتحول الجديد في سياسات الدول العربية نحو
الشباب ينطوي على تناقض جوهري، فهو يتحدث عن الالتزام بحقوق الشباب ومصالحهم
وتمكينهم، لكنه يمارس سلوكاً مغايراً، يخدم مصالحه هو ومصالح القوى الدولية
المهيمنة، فالشباب الذين انتفضوا على الأنظمة السلطوية مطالبين بالديمقراطية
والحرية والعدالة، تعرضوا للقتل والسجن والتهجير واللجوء.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
#السلطوية #العربية #ومأزق #الشباب #في #العالم #العربي
تابعوا Tunisactus على Google News