العالم العربي: الصحة النفسية، رهان سياسي | ليونار سومبيراك
هذا النص تقديم لملف عن الصحة النفسية في المنطقة العربية اعدته شبكة المواقع الاعلامية المستقلة حول العالم العربي والتي تضم علاوة على “السفير العربي”، “أوريان 21″، “مدى مصر”، “حبر”، “ماشاالله نيوز”، “المغرب الناهض”، “نواة”، و”باب المد”.
ليونار سومبيراك*
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يعاني واحد من كل ثمانية أشخاص من اضطرابٍ نفسي، لا سيّما القلق والاكتئاب. وقد ازداد الوضع سوءاً منذ أن غزت جائحة كوفيد-19 العالم عام 2020. ولكن إذا كان العالم مجنوناً، أليس من الطبيعي أن نصاب نحن أنفسنا بالجنون؟ هناك أمراض نفسية ذات أسباب عصبية حيوية أو نمائية معروفة، بيد أن العديد من المشاكل النفسية والعقلية تسببها عوامل عائلية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. تلك المحددات البيئية يمكن أيضاً أن تفاقم الاضطرابات الموجودة بالفعل.
مقالات ذات صلة
وتزداد تلك النسبة في العالم العربي، حيث يبلغ متوسط عدد المصابين بالاكتئاب 29 في المئة، وخاصةً العراقيين والتونسيين والفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع. وتقل تلك النسبة بين المغاربة والجزائريين بمتوسط 20 في المئة، ناهيك عن الآثار النفسية الناتجة عن مشاهد الإبادة الجماعية الحالية التي يشنّها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول أكتوبر 2023، كما كشفت دراسة أجريَت في تونس، والتي ترجع بشكل أساسي إلى تراكم مشاعر الغضب والظلم.
لا تخلو المنطقة من الأسباب التي تؤدّي إلى نشأة أو تفاقم الاضطرابات النفسية، ويتعلق معظمها بالأوضاع السياسية. حيث تظل العديد من البلدان العربية (فلسطين وسوريا واليمن والعراق) فريسةً لصراعاتٍ لا تنتهي، تروّع الشعوب وينتقل تأثيرها من جيل إلى جيل. هذا هو الحال أيضاً في ليبيا والجزائر بعد سنواتٍ من الحرب الأهلية، بسبب غياب سياسة مصالحة ملائِمة. كما يضاعف النزوح الجماعي كالذي تشهده السودان من مخاطر الاضطرابات النفسية.
في مواجهة الاستبداد المتزايد منذ اندلاع الثورات العربية عام 2011، تحوّل الإحباط السياسي، كما هو الحال في مصر أو تونس، إلى تبلّد وشعور بالعجز زاد من اضطرابات القلق والاكتئاب، التي يتعذّر علاجها في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية. وفي مصر، لا يقل “انهيار” الجنيه من 8 إلى 50 جنيهاً مصرياً لليورو الواحد خلال خمسة عشر عاماً “جنوناً”، وهو يشكّل عامل ضغطٍ إضافي على شعب يعاني بالفعل من زيادة سكانية وتوسع حضري متسارع يزيد الضغط على البنى التحتية الصحية القائمة.
وعلى الرغم من أن النزعة الفردية تظل بلا شك أقل انتشاراً في المنطقة منها عن سائر دول العالم، بفضل تجذّر البنى الأسرية والتضامنية، إلا أن الاستخدام المكثّف لشبكات التواصل الاجتماعي في كافة الدول العربية يساهم في ربطها افتراضياً بالعالم وبسلوكيات الآخرين، وهو ما يشكّل تلقائياً خطراً على الصحة النفسية للشعوب. وتُعد مكانة المرأة في المجتمع أيضاً عاملاً مؤثراً، خاصةً بسبب النظام الأبوي السائد، كما أوضحت الطبيبة النفسية نوال السعداوي في إحدى المقابلات بقولها أن “المرأة المصرية عبدة للرجل، وعبدة للمجتمع والدين والنظام السياسي المالي الذي يسحقنا جميعاً”.
وقد أدّت تلك المحنة التي تمر بها الشعوب العربية إلى زيادة حالات الانتحار، حيث ارتفعت معدلات الانتحار في العراق إلى الضعف خلال خمس سنوات. ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى الاضطرابات النفسية. كما تتنامى معدلات استهلاك العقاقير النفسية، كما هو الحال في تونس، مع صعوبة التحكم في مدة وكمية الجرعات، الأمر الذي يمكن أن يشكل خطراً في حد ذاته.
وفي حين لا تزال البنية التحتية والرعاية المقدمة في مجال الصحة ضعيفة للغاية في المنطقة، على الرغم من بعض الفروق القليلة، تظل الصحة النفسية، كما هو الحال في أي مكان آخر، أقل المجالات التي تلقى اهتماماً في المجال الطبي. وقد أظهرت دراسة أجريت عام 2012، على الرغم من صعوبة الوصول إلى البيانات، نقصاً في التشريعات الملائمة والأسرّة المتاحة والمتخصصين. هذا أيضاً ما نلقي عليه الضوء في ملفّنا، مع التركيز على غياب سياسة رعاية عالمية، والصعوبات التي يواجهها المرضى في الحصول على العلاج، والفوارق الجغرافية الكبيرة. ويأتي هذا على الرغم من توصيات منظمة الصحة العالمية بأن كل دولار يُنفق في علاج الاضطرابات النفسية يعود في المقابل بخمسة دولارات بفضل تحسين الصحة والإنتاجية.
هذا الوضع الإقليمي الذي ازداد سوءاً بسبب رحيل المتخصصين إلى الخارج، يكشف عن تطور البدائل الطبية، سواء تلك المتعلقة بالمعتقدات الدينية أو بتقنيات التنمية الشخصية، وهو التوجّه الذي يُبعد المرضى عن عالم الطب. فإذا تأملنا تناول ميشيل فوكو لتطوّر مفهوم المرض العقلي في المجتمع ومن خلاله، وكيف أن القوة المؤسسية للطبيب، من خلال معرفته الطبية، تصنع “المريض العقلي”، يمكن أن نفهم اليوم إلى أي مدى يظل هذا الأمر من التابوهات، خاصةً في العالم العربي، في الأوساط العامة والخاصة على حدٍّ سواء. وفي عام 2020، أكد حوالي نصف الشباب في الوطن العربي أن اللجوء إلى العلاج النفسي يُنظر إليه نظرة سلبية في بلادهم.
ولكن الوضع لم يكن كذلك دائماً في العالم العربي. من تأسيس البيمارستان الأول في دمشق في بداية القرن الثامن، إلى الاهتمام بالصحة النفسية عند أبي علي الحسين بن عبد الله ابن سينا من خلال تصنيف الأعراض المختلفة، مروراً بأبي بكر محمد ابن زكريا الرازي وكتابه “الطب الروحاني”… لطالما كان المريض العقلي موضع اهتمام في المنطقة. ولعل خلود قصة الحب الأسطورية “مجنون ليلى”، والتي تعود أحداثها على الأرجح إلى عصر الجاهلية، خير دليل على ذلك.
إن مسألة الصحة النفسية وتمثلها، ولا سيما العناية بها، مسألة سياسية بامتياز. وكما أوضح حمزة حموشان في مقاله “عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا القمع والتحرر”، فإن فانون ربط بين التحول الاجتماعي والخلاص النفسي للأفراد. و”تعطي سيكولوجيا التحرر هذه الأولوية لتمكين المضطهَدين من خلال الأنشطة الاجتماعية المنظمة، بهدف استعادة التاريخ الفردي والجماعي الذي عطّله وأعاقه القمع والاستعمار”. بعبارةٍ أخرى، في سياقٍ سياسي شديد الاضطراب كالذي نشهده، يجب أن يكون علاج الاضطرابات النفسية قادراً على الجمع بين العلاجات السريرية الفردية والسياسات العامة التي تعترف بالعوامل الاجتماعية والسياسية الجماعية لهذه المظاهر الفردية وتستهدفها.
ولأن هذا الوضع لا يزال قائماً، قررت “شبكة المواقع الاعلامية المستقلة حول العالم العربي” تخصيص ملفٍّ لموضوع الصحة العقلية والنفسية، وفعلت أيضاً بسبب صعوبة الوصول إلى البيانات وفقر معالجتها إعلامياً على الرغم من أهميتها السياسية والاجتماعية.
____________من دفاتر السفير العربي-عشـرون عامـاً على الحرب على العـراق-2019: انتفاضات مبتورة النتائج-ملف خاص – إلى غزة وأهلها____________
في مقاله ل السفير العربي بعنوان: “تعبانة.. عن صحة العراق النفسية”، يذكر ميزر كمال أن الميزانية المخصصة للصحة النفسية في العراق لا تتعدى 2 في المئة من إجمالي ميزانية الصحة، ولا توجد سوى ثلاث مستشفيات للصحة النفسية لشعب يبلغ تعداده 43 مليون نسمة، ويعاني آثاراً نفسية كارثية بعد معايشته أربعة حروب كبرى على مدار الأربعة عقود الأخيرة، تخللتها عقوبات اقتصادية وحروب أهلية (من بينها حرب طائفية بين عامي 2006 و2007). وقد نتج عن ذلك زيادة في معدلات الانتحار وتناول العقاقير النفسية (الميثامفيتامين والكبتاجون). “إن الوصم والإهمال المتعمَّد للصحة النفسية من قبل الدولة والمجتمع ساهما بقوة في استمرار نقص الكوادر الطبية المتخصصة في الصحة النفسية”، مما عزّز في الواقع اللجوء إلى ممارسات “الشيوخ” البديلة.
في مقالهما لموقع “بابلميد” بعنوان: “العناية بالصحة النفسية في الجزائر”، تتناول كل من غادة حمروش وغانية خليفة تدهور أوضاع الصحة النفسية في الجزائر على الرغم من قلة البيانات المتاحة في هذا الشأن. فالشعب الجزائري “عالق بين حدثين صادمين كبيرين: حرب التحرير والحرب الأهلية”. وعلى الرغم من وجود عدد “مقبول” من المتخصصين ومنشآت الرعاية، تشير الكاتبتان إلى وجود فجوات في الرعاية والحصول على العلاج ومراعاة الفوارق الجهوية. “من الضروري تعزيز العلاج النفسي وإنشاء هياكل تسهّل انتقال المرضى بعد العلاج، وتكون قريبة قدر الإمكان من بيئتهم اليومية”، من خلال نهج متعدد التخصصات، خاصةً وأن الأمراض النفسية لا تزال تعالَج بالتمائم والتعاويذ واللجوء إلى الرقية الشرعية، وهو نظام مربح للغاية.
في مقالها لموقع “نواة” بعنوان: “اضطرابات القلق والاكتئاب: انقطاع أنفاس التونسيين”، تؤكد رحاب بوخياطية تزايد هذا النوع من الاضطرابات بشكل ملحوظ في تونس في الآونة الأخيرة. وتحتل تونس المركز 115 من أصل 143 في تقرير السعادة العالمي، وفقاً لعدة مؤشرات منها الشعور بالحرية وغياب الفساد ومستوى الدخل والدعم الاجتماعي. وتناقش بوخياطية كذلك تأثير شبكات التواصل الاجتماعي الضار وتطور “صناعة السعادة”، كما تناقش تنامي تعاطي العقاقير النفسية منذ عام 2013 “كشكلٍ من أشكال العلاج الذاتي”، وكذلك استهلاك مثبّطات القلق، خاصةً بين المراهقات. “في السابق، كان المرضى يركِّزون بشكلٍ أساسي على المخاوف المتعلقة بحياتهم الخاصة. أما الآن، فهم يتحدثون كثيراً عن البيئة المثيرة للمخاوف: عدم الاستقرار وانعدام الأمان أو حتى انعدام الرؤية فيما يتعلق بالآفاق المستقبلية”. حتى وإن كانت استشارات المتخصصين في اضطرابات المزاج تشهد تزايداً، فلا تزال الوصمة المجتمعية والأحكام المضمَرة تطال الساعين إلى العلاج النفسي.
في مقالها لـ”مشالله نيوز” بعنوان: “النضال من أجل الحصول على العلاج النفسي في ظل الأزمات العديدة التي تعيشها لبنان”، تسعى ليلى يمّين إلى إظهار تأثير الفقر، الذي ارتفع إلى أكثر من ثلاثة أضعاف خلال عشر سنوات وفقاً للبنك الدولي، على الاضطرابات النفسية وعلاجها، والذي تعد تكلفته عائقاً في ظل نظامٍ طبي يخضع في غالبيته للقطاع الخاص. وعلى الرغم من وضع استراتيجياتٍ وطنية لتحديث قطاع الصحة النفسية، إلا أنها تعاني من نقص في الميزانية المخصصة: “في عام 2020، تم تخصيص 5 في المئة فقط للصحة النفسية من إجمالي الإنفاق الحكومي على الصحة”. رحيل المتخصصين عن البلاد، والعلاج الذاتي، والوصم، والتابوه، كلها أمور تضاف إلى الأحداث المؤلمة التي عاشها لبنان ولا زال يعيشها. فبعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، أصبح العدوان الإسرائيلي على غزة وتداعياته في جنوب لبنان هو ما يُرسّخ مشاعر الخوف والألم والقلق في نفوس اللبنانيين.
في ورقة بحثية لـ”أوريان 21″ بعنوان: “العلاج النفسي بالمغرب.. رحلة شاقة محفوفة بالاستغلال والابتزاز”، يشير محمد النجاري إلى أن ما يقرب من نصف المغاربة يعانون من اضطراباتٍ نفسية، وأن غياب السياسات العامة وإمكانات الاستقبال والرعاية المناسِبة تَحول دون معالجة هذه المشكلة، خاصةً وأن “هناك أقل من أخصائي واحد لكل 100 ألف نسمة”. ويؤدي نقص الرعاية المقدمة إلى انتشار الفساد والمحسوبية، ويلجأ العديد من المرضى إلى ممارسات بديلة مربحة للغاية، بدايةً من زيارة المقدسات، منها ضريح بويا عمر “الملقب بغوانتانامو” الذي أُغلق عام 2015، والرقية الشرعية، هذا إن لم يتم احتجازهم بدعوى تخليصهم من المرض النفسي. وفي ظل غياب حملات التوعية، يتعرض العديد من الأشخاص للاستغلال والابتزاز، خاصةً الابتزاز الجنسي، مما يزيد من أزماتهم النفسية ومن احتمالات إقدامهم على الانتحار.
في مقاله لـ “مدى مصر”، يسلط محمود بشير الضوء على مشاكل الصحة النفسية في قطاع غزة، والتي تفاقمت بصورةٍ هائلة بسبب الحرب الحالية، بالإضافة إلى نقص الاحتياجات الأساسية (المياه، الغذاء، المأوى، الدواء). كما يحلل الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية الصحية، على الرغم من محدودية الرعاية الصحية التي كانت قائمة بالفعل قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بسبب سوء الرعاية وغياب البيئة الملائمة للعلاج النفسي.
– في مقالها لموقع “حبر”، تؤكد عبير خوان على دور الأدوية، واللجوء إليها بشكل أساسي في العلاج النفسي على حساب الأساليب العلاجية الأخرى، وذلك “لعدة أسباب بنيوية مرتبطة بنقص الكوادر الطبية المتخصصة، ونقص التمويل العام، وثقل الاجراءات الإدارية، وعدم الاهتمام العام بالصحة النفسية”. بالإضافة إلى ذلك، لا تؤخذ العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحسبان. ومع أن ما يقدر بنحو 20 في المئة من الأردنيين يعانون من الاكتئاب والقلق، فإن أساليب أخرى ليست متاحة دائماً في القطاع العام، كما ثبت ارتفاع تكلفتها في القطاع الخاص.
______________________
*عضو هيئة تحرير “أوريان XXI “، ومنسق “شبكة المواقع الاعلامية المستقلة حول العالم العربي”.-ترجمته من الفرنسية دينا علي.
______________________
#العالم #العربي #الصحة #النفسية #رهان #سياسي #ليونار #سومبيراك
تابعوا Tunisactus على Google News