الغواصة الفرنسية (لاكريول)
أَنقُل، في البداية، ما تحدث عنه أندري لوديت (André Le Det)، وهو أستاذ فرنسي كان يُدرس بثانوية مولاي يوسف الكائنة بمدينة (الدار البيضاء)، في سبعينيات القرن الماضي، في بحثه الجامعي في موضوع مناخ أو طقس مدينة (الدار البيضاء) أنجزه لينال به دبلوم الدراسات العليا في علم الجغرافية من جامعة (بوردو،Bordeaux) الفرنسية يحمل تاريخ 1962م، قال بأن «(فورنستان) يقول -وطبقا للنظرية التي عُرضت سابقا- بأن تصاعد المياه الباردة هي التي تُعطي حيزا لتيار (الكناري) البحري؛ لكن على السطح يكون الماء دافئا؛ والذي لم يفكر فيه السيد (روش). اِرتكز السيد (فورنستان) على معطيات سجلتها الغواصة (لا كريول، La Créole)؛ في عام 1948م؛ في مسار التيار المفترض، ومن تم سجلت 27° عند مستوى أربعة أمتار من العمق؛ عند جزيرة (Lansarot لانزاروت الكنارية)، و24° عند جزيرة Fuerteventur (فويرتيفونتور الكنارية)، و23° في عرض مدينة )مازكَان)، وهي مدينة (الجديدة) المغربية الحالية…». ولما لم يكن بمقدور المغاربة أن يستعلموا عما يحدث في محيطهم المائي في ذلك التاريخ أو كانوا في جهل من ذلك، اِرتأيت أن أبحث عما يمُت بصلة بالغواصة الفرنسية (لا كريول)، ولو كان قليلا، وأُنقب لعلي أنتهي إلى ما يفيد وينفع في المستقبل. إذا تأملنا جيدا في الكلمتين الواردتين في النص -الذي سبق أن ذُكر والمكتوب بالفرنسية- وهما: «au large de Mazagan»، وأمعنا التفكير في معناهما، وفي سياق كلام الأستاذ (لوديت) وفيما يريد أن يقصد، نتوصل إلى أن ما يهدف إليه هو أن الغواصة (لاكريول) (La Créole) كانت تغوص في أعماق المياه أو تعوم على السطح على مسافة قريبة من المدينة المغربية (مازاكَان، Mazagan)، تُسجل أجهزتُها القياسية حرارة مياه السطح ومياه الأعماق عند نُقط عديدة؛ فهي في مياه جزر (الكناري)، وفي مياه (المغرب)؛ وفي عمق نُقط متوغلة في المحيط (الأطلنتي)، وما تحصده من معطيات أو بيانات رقمية هو مادة خام لإجراء عمليات إحصائية ودراسات تحليلية مقارنة سيُستنتج منها ما يُثبت وجود تيار مائي يندلق من الشمال (الأطلنتي) إلى جنوبه؛ ويمر بمحاذاة سواحل شمال غرب إفريقيا، ويُؤثر بشكل مباشر في مناخات وطُقوس المنطقة، وهو التيار البحري (الكناري). هل تكون التكنولوجية التي بُنيت بها هذه الغواصة هي التي اكتشفت التيار البحري المعروف، والمسمى بـ(الكناري)؛ الذي نتناوله كثيرا في دراستنا لمناخ بلاد (المغرب) ومنطقة الساحل الإفريقي؟ طبعا، لا معرفة علمية دقيقة بالأشياء وبالظواهر الطبيعية إلا بتطور وسائل الرصد والتسجيل والفحص. لقد خطا الأوروبيون في بلاد الغرب وأمثالُهم في شمال القارة الأمريكية، ولم يكن المغاربة في ذلك التاريخ قد خطوا، كانوا يقفون مُنبهرين لا يدرون ما يفعلون، وكانت إدارة الحماية الفرنسية تُسير البلاد بإحكام في النصف الأول من القرن العشرين والمغاربة يتُوقون إلى التحرر والاستقلال، ولم يكن في متناولهم غير المطالبة بهذا ولا شيئا آخر؛ وهذا إحدى عِبر التاريخ؛ فلنستعبرها… في أي تاريخ بُنيت الغواصة (لا كريول)؟ وأين؟ وفي أي ظروف؟ وفي أي تاريخ غادرت منصة الإطلاق، وطفت على مياه البحر؟ وما مآلها؟ وكيف كان ذلك؟ وماذا يعني اسمها؟ ولماذا سُميت بذلك؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي قصة الغواصة الفرنسية (لا كريول) التي كانت تجوب مياهَنا، في وقت كُنا لا نبحث إلا عما يهمنا وما يلبي حاجاتنا الآنية، وما زلنا كذلك كما تقدم ذكره؛ فإن المحلي المترسب منذ عصور، وإعادة إنتاجه كما هو من طرف المبرمجين والمجترين لمنافع مادية هو تخلف وصرف لاهتمامات الأجيال عما يتحقق وما يُنفذ في الأمم التي خطت بعيدا. كانت بداية بناء الغواصة (لاكريول) في سنة 1937م؛ في ورش بناء السفن (نورمان، Normand) بفرنسا؛ أي قبل تاريخ اندلاع الحرب العالمية الثانية وهو فاتح شتنبر 1939م، وقد نشبت المعارك وزحفت جيوش الألمان؛ فدُفع بالغواصة إلى البحر، وعلى عجل في الثامن من شهر يونيو سنة 1940م، ولم تكن جاهزة إلا بنسبة 78 بالمائة؛ فقُطِر هيكلها إلى مدينة (بريست، Brest) الساحلية، ثم إلى (نانتيس، Nantes)، وإلى (باليس، Pallice). وفي عشرين يونيو من عام 1940م؛ كان الألمان قد أوشكوا على الوصول؛ فقَطَرها المركب القاطر (L’Abeille 1) إلى إنجلترا؛ حيث بقيت هناك طيلة الحرب العالمية الثانية. في سنة 1945م، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أُعيدت الغواصة الفرنسية (لاكريول) إلى فرنسا، وأُنهي بناؤها ضمن برنامج إعادة تأهيل أسطول فرنسا البحري، وكانت للجنرال (شارل دوكَول 1890م- 1970م، Charles de Gaulle) توصيات وتوجيهات آمرة في هذا المجال، ودُفعت إلى البحر للمرة الثانية في الثالث من شهر ماي من عام 1946م. زُودت بأنبوب التزود بالهواء وطَرد الغازات، الذي يبقى خارج مستوى سطح الماء عند غطسها، وسُلحت بمدفع ذي قياس ثمانية وثمانين ميليمترا. وُظفت للخدمة في بحرية فرنسا العسكرية في فاتح أبريل من سنة 1949م. يصل طولها إلى ثلاثة وسبعين مترا وخمسين سنتيميترا، وعرضها إلى ستة أمتار وخمسين سنتيميترا، وهي من نوع الغواصات الكلاسيكية الفرنسية؛ التي بُنيت في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين؛ تعمل بوقود (الدييزل) على سطح الماء بقوة ثلاثة آلاف حصان، وتغطس في عمق الماء بمحركات كهربائية بقوة ألف وأربعمائة حصان؛ صُنعت للدفاع أو للمواجهة عند السواحل، وقد اعتبرت كلاسيكية، لأنه ستظهر فيما بعد غواصات جد متطورة تعمل بالطاقة النووية، وكان في صنع الأولى بعض التقليد للألمان؛ خاصة في جهاز التزود بالهواء وطرد الغازات الخارجي. كانت البحار والمحيطات مسارح لأحداث درامية على مر التاريخ، ولم ينجح الإنسان في مواجهة مخاطر البحر إلا نسبيا؛ فمياه البحار وفي نوبات هيجانها تبتلع ما يسبح أو يغوص في خِضمها. وما دام يدور حديثنا عن هذه الغواصة؛ فإن أكثر من ست وعشرين غواصة فرنسية اصطدمت بسفن شحن أو بغواصات أو بأجسام مجهولة، وجميعها تقريبا تتضرر في الكشك الذي ينتصب على هيكلها وفي أنابيب التهوية ونفث العوادم، ولم تكن الغواصة (لاكريول) بمنأى عن حوادث البحر؛ فقد تعرضت لثلاثة؛ سيظهر -بعد أن تُسرد بعض التفاصيل- أنها تمثل ما يتوجب استعراضه مرات عديدة في فصول الدراسة والتكوين في ميدان البحرية العسكرية؛ ليُأخذ في الحسبان دائما وللحيلولة دون حدوثها مرة أخرى؛ كان قد وقع مثلها وكثر وتعدد خصوصا في المائة سنة الأخيرة، والذي يسترجعه من الماضي هو تاريخ البحرية العسكرية. سُميت الغواصة الفرنسية بـــ(لاكريول)، ومعنى هذه الكلمة: الأوروبي المولد في المستعمرات الأوروبية القديمة، أو تعني حلقة أذن كبيرة، أو هي تفيد اللغة الناتجة عن مزج بين لغة محلية ولغات المستعمر الأوروبي، كالفرنسية والانجليزية والإسبانية والبرتغالية والهولاندية، والتي غدت لغة أم في تلك المناطق البعيدة. وتدرجت الكلمة من الإسبانية (creollo)، والتي بدورها اشتقت من الكلمة البرتغالية (criado)، وتعني (الخادم). وقد أُعطي ربما هذا الاسم للغواصة الفرنسية لتعني (الخادمة)، انطلاقا من صورة رمزها، والتي هي عبارة عن امرأة مُولدة أو خلاسية -ولدت من أبوين أبيض وأسود- من مناطق ما وراء البحار والمحيطات؛ تبرز من الماء. إذا قارنا بين التواريخ؛ فـ(لوديت) يقول إنها كانت قد قاست معدلات حرارة المحيط الأطلنتي في مياه (المغرب) الإقليمية، وفي مياه جزر (الكناري) في سنة 1948م، ومن عاصر أو نقل عما صدر عن ذاك يقول إنها غدت ضمن عُدة بحرية فرنسا العسكرية في عام 1949م؛ فما أنجزته كان خدمة من أجل توثيق ما يَعتمد عليه العلم في تحاليله الاحصائية، وبالتالي كان خدمة للحماية ومواجهة المنافسين، وأولئك الذين يُؤججون ويُلهبون رغبة شعوب مستعمرات فرنسا في الاستقلال والحرية، وكذلك استخبارها عن قدرات الذي يقود المعسكر الشيوعي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كان الزعيم العربي الذي أذكى الشعور بالقومية العربية في بلدان شمال إفريقيا (تونس والجزائر والمغرب) التي احتلتها فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين هو أحد الضباط الأحرار الذين أطاحوا بملك مصر فاروق بن فؤاد بن إسماعيل (1920م- 1965م)؛ ولم يكن هذا الزعيم غير العقيد جمال عبد الناصر (1918م- 1970م) ذي التوجه الاشتراكي، والذي لم يقم من فراغ.. كانت قد حمسته قضايا الشعب العربي السياسية آنذاك، ومخلفات الاستعمار الغربي بالبلدان العربية التي استقلت حديثا، وخلقُ كيان ناشز استوطن بلاد فلسطين، وما تعرض له العرب في ذلك الزمن من انهزامات وإحباطات. فلن يتحقق إذن الاستقلال الكامل والانفلات من التبعية إلا بخلق اقتصاد وطني حر؛ فتقرر تأميم قناة (السويس).. وهذا فيه مكسبان؛ اقتصادي وسياسي. ماذا يعني امتلاك مصر لقناة السويس؟ هو تجريد دولتين من حصصهما في استغلال القناة، ولم تكن هاتان الدولتان غير فرنسا وإنجلترا. هذه الأخيرة كانت قد اشترت حصص مصر في عائدات القناة؛ فتعاهدت فرنسا وإنجلترا ودولة إسرائيل، واتفقت على سبع نقط، ووقعت على بروتوكول اتفاقية (سيفر) السرية، في اجتماع بمدينة (سيفر Sévres) الفرنسية في 22 أكتوبر 1956م، فهجمت إسرائيل على شرق القناة، واحتلت قوات إنجلترا العسكرية مدينة (بورسعيد) الواقعة في شمال مصر الشرقي على ساحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبي، ولم يكن لفرنسا بد من أن تُرسل إحدى غواصاتها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط؛ فكانت (لاكريول) هي التي ستقوم بما خُطط لها؛ بتنفيذ مهمتين خلال مدة زمنية امتدت من واحد وعشرين أكتوبر من عام 1956م، إلى الثاني عشر نونبر من السنة نفسها؛ أولاهما إغاثة ربابنة الطائرات التي ستُغير على مصر وتُقنبل مطاراتها العسكرية؛ بانتشالهم من البحر في حالة هبوطهم الاضطراري؛ ثانيتهما التصدي لغواصات العدو التي تتقدم في أعماق مياه القناة؛ فكانت هذه الغواصة إذن داخل الميدان الذي تجري فيه المعركة؛ فأصابتها طائرتان من نوع (Corsaires 14 F) خطأ؛ أقلعتا من حاملات الطائرات الفرنسية (Arromanches)، ولم تكن بحرية مصر العسكرية في جهل أو في غفلة؛ فهي كانت دائما تدري ما توجبه عليها سواحلها المطلة على البحر الأبيض المتوسط؛ والتي عليها ثغر (الإسكندرية) من تأمين وحماية؛ فأصاب أحد زوارقها الحربية السريعة (Vedette) الغواصة (لاكريول) في أنابيب التهوية والعوادم [مفرد الكلمة (عادم)، وهو أنبوب المركبات الميكانيكية؛ يخرج منه ناتج احتراق وقود محركها السائل]. يبقى الحادث الثالث؛ فغير بعيد عن ميناء (طولون )الفرنسي المطل على البحر الأبيض المتوسط، وفي البحر اصطدمت -وكما يحدث غالبا- سفينة الشحن الفرنسية (سيدي فروش Sidi Ferruch) [(سيدي فروش) هي شبه جزيرة توجد على بعد 30 كيلومترا إلى الغرب من الجزائر العاصمة، شهدت نزول القوات الفرنسية في احتلال الجزائر في سنة 1830م، وتسمية سفن الشحن الفرنسية بمثل هذه الأسماء معروف، فما السر في ذلك؟ بنيت سفينة (سيدي فروش) في سنة 1949م، وسفينة (سيدي بلعباس) في سنة 1929م، وسفينة (سيدي عُقبة) في سنة 1955م، وهناك أيضا سفينة (سيدي بوسعيد)، وغيرها من سفن أخرى] بهذه الغواصة في الثالث والعشرين من مارس 1962م؛ مما أدى هذا إلى حدوث ضرر في الكُشك، وتسرب كميات هائلة من ماء البحر إلى داخل الغواصة، وصلت إلى خمسين طنا، وأصيب بعض رجال الغواصة، ولم تحدث أي وفاة؛ روى هذا البعض ممن كان بين أفراد الطاقم وقت وقوع الاصطدام. بعد سبعة أشهر، وفي أكتوبر من السنة نفسها (1962م)، أُعفيت الغواصة (لاكريول) من الخدمة.. بأي كيفية تم التخلص منها، أبتفكيكها أم بطريقة أخرى؟ نعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية صنعت أول غواصة تعمل بالطاقة النووية في سنة 1958م؛ كبديل لعَيْب في ميكانيكية وهيكل الغواصات الكلاسيكية، التي كانت لا تعيد شحن بطاريات الغوص إلا بالطفو على سطح الماء بوقود (الدييزل). هل كانت الغواصة (لاكريول) تغوص في مياه المحيط الأطلنتي بهدف تسجيل معطيات فيزيائية مياه (المغرب) أم بأغراض أخرى؟ والأرجح هو أن قائدها ونوابَه كانوا قد حرروا تقاريرا بجميع مهماتها المدنية والعسكرية؛ ففي أرشيف فرنسا ما يُطلعنا على ما كان يهم بلاد (المغرب) وبلاد (مصر) في خمسينيات القرن العشرين من هذه الناحية، وما كان له الأثر على مستقبلهما الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فتُخول لنا تلك التقارير -كمصادر توثيقية تاريخية-كتابة تاريخ زمننا المعاصر، ولنعرف كيف كان تجري أمور لم نكن نعلمها، ولم تكن لتتوفر لنا السبل للوصول إلى ذلك في ذلك الوقت.
#الغواصة #الفرنسية #لاكريول
تابعوا Tunisactus على Google News