اللوبيات والأحزاب والزواولة.. من الخاسر ومن الرابح من
-بقلم: العجمي الوريمي
لقد دشن بورقيبة بقرار منه مرحلة التعددية الحزبية بعد أن شهدت البلاد والنظام أزمتين حادتين، الأولى هي مخلفات الإضراب العام يوم 26 جانفي 1978 والثانية هي عملية قفصة المسلحة التي كادت تطيح بالنظام في جانفي 1980. ولم يُستثنى من الإنتفاع بهذا القرار إلا حركة الإتجاه الإسلامي التي عبرت عن رغبتها وحقها في التواجد العلني والقانوني معتبرة “التعددية حق والشعب هو المحدد لشروط ممارستها”، كما استثنت نفسها تيارات اليسار الجديد، معتبرة مبادرة بورقيبة مناورة سياسية.
وقد أدى تزييف أول انتخابات تشريعية بعد دخول طور التعددية إلى إفراغها من مضمونها وتكريس هيمنة الحزب الدستوري مما عزز قناعة اليسار الراديكالي والإسلاميين بأن الأوضاع لن تتغير عن طريق التعددية الشكلية وديمقراطية الواجهات وأن الحرية تفتك ولا توهب وأن موازين القوى لن تتغير بغير النضال الشعبي المتصاعد، وعدم تمكين النظام من حل أزمته عن طريق استدراج المعارضة الكرتونية إلى القبول بالفتات، وقد تراوح وضع الأحزاب والتنظيمات بين الحظر وغض الطرف والقمع والمحاكمات السياسية، وقد فرض الضغط الطلابي والشعبي على النظام فسح مساحة للتعبير والنشاط الحقوقي والمدني للأفراد والنشطاء المستقلين دون أن يسمح للأحزاب المعترف بها أن تتطور وتحقق الإنتشار وتتأهل لقيادة الحكومة في حالة التداول الذي لم تعرفه البلاد، إلى حين قيام الوزير الأول زين العابدين بن علي بانقلاب طبي على ولي نعمته أنقذ به النظام من سقوط شبه محتوم بعد أن تصاعدت المقاومة الشعبية والحركة الإحتجاجية التي نهضت بها حركة الإتجاه الإسلامي بجناحها الطلابي وهياكلها التنظيمية في أرجاء البلاد.
أدرك بن علي أن عليه أن يطور حزب بورقيبة ويعيد هيكلته ليستوعب عديد النخب الراغبة في التموقع في صف الحكم بعد ان تبنى مطالب المعارضة واتخذ عددا من الإجراءات للتصالح مع المجتمع وسحب البساط من تحت الإتجاه الإسلامي.
وقد توفرت بعد 07 نوفمبر 1987 فرصة تاريخية لفتح صفحة جديدة مع معارضي النظام خاصة ممن كانوا ضد المنظومة ويعملون على تغييرها مثل الإسلاميين الذين غيروا اسم حركتهم وثبتوا موقفهم الداعم لمجلة الأحوال الشخصية وإعلان عدم إحتكار الصفة الإسلامية والتخلي للدولة في كل مايدخل في اختصاصها مثل تنظيم المساجد ورعايتها، كما أن أكثر الأحزاب اليسارية راديكالية (حزب العمال الشيوعي) قبل بالتعاطي المرن مع الأوضاع الجديدة وإصدار جريدة تعبر عن مواقفه وخطه السياسي في انتظار الحصول على التأشيرة القانونية.
ومرة أخرى يسقط النظام في اختبار الإنتخابات ويجهض إراديا مسيرة الإنفتاح والتعددية ويختار نهجا اجتثاثيا للظاهرة الإسلامية وتعبيرتها السياسية إلى جانب التضييق على حزب العمال وحظر الإتحاد العام التونسي للطلبة وإدخال باقي الأحزاب إلى بيت الطاعة وتدجين المنظمات الوطنية والإجتماعية حتى غدا الحكم فرديا استبداديا تقلصت فيه الحريات وانتهكت فيه الحقوق السياسية والمدنية وحقوق الإنسان.
وعندما اندلعت ثورة الحرية والكرامة وتوجت بهروب بن علي كانت الحياة الحزبية مجهضة وحتى حزب التجمع صار مفرغا من أي روح أو مضمون وفقد ارتباطه بالواقع وبالجماهير.
ولأجل ذلك لم يتحول “الإنفلات”الحزبي إلى حياة سياسية تعددية عمادها أحزاب جماهيرية قادرة على النهوض بأعباء الحكم والتداول عليه عبر انتخابات حرة.
وحينما وصل قيس سعيد إلى سدة الحكم لم يجد إلا أحزابا كسيحة أو مأزومة وقد كان يقاربها مقاربة المتابع والملاحظ الذي لا تستهويه المنظومة الحزبية إذ لم يجد لها أثرا في من كان يخالطهم في الفضاء العام وفي الأماكن التي يرتادها من مقاهي ومنتديات.
لقد حطم بن علي المنظومة الحزبية وأجهض البدائل وخلق حول نفسه فراغا مروعا تواصل بعد الثورة بأقدار مما ضاعف خيبة أمل الشباب وعموم المواطنين.
أما من موقع الرئاسة وفي ضوء ما يرد عليه من تقارير أصبح الرئيس قيس سعيد يرى في الأحزاب خاصة تلك التي ورثت نداء تونس وتحمل جيناته، مطية للوبيات وأداة إبتزاز لرجال الأعمال الباحثين عن الحماية أو عن خدمة مصالهم كما أصبح يرى في مجلس نواب الشعب منصة تشريعية تحت الطلب تخدم اللوبيات أكثر مما تسهر على تنفيذ وعودها الإنتخابية أو الدفاع عن الفقراء والبؤساء، لذلك رفض التعامل معها ولم يصطفي منها إلا أقلية انتدبت نفسها منذ الإعلان عن نتائج الإنتخابات للدفاع عن بدعة “حكومة الرئيس” في تجاهل متعمد لنتائج الإنتخابات ..
لقد ذهب في اعتقاد قيس سعيد أنه باقتصاد الأحزاب سيحرم اللوبيات من رافعاتها السياسية ومطيتها للحكم والتحكم، لكنه وهو يخوض حربه المقدسة ضد الفاسدين والمحتكرين وناهبي ثروات الشعب من اللصوص الذين نكلوا بالشعب التونسي وجد نفسه وجها لوجه مع اللوبيات والمافيات وتشعباتها وأذرعتها.
لكن وللمفارقة، في الوقت الذي انسحبت فيه الأحزاب وتراجعت خطوة وخطوات إلى الوراء خاصة وقد أطيح بالحكومة وأقفلت أبواب البرلمان، برهنت “اللوبيات” أنها جاهزة للتعبير عن التفاعل الإيجابي مع “حركة” 25 جويلية وإعلان استعدادها للمساهمة المالية (الفتات) وتخفيض أسعار بعض المواد الغذائية والأدوات المدرسية في المساحات الكبرى، وقد فعلت ذلك بقلب كبير وبداعي الوطنية وهو ما استحق تنويه رئيس الجمهورية.
بقي أن نتبين هل أن تهميش المنظومة الحزبية والتعاطي المباشر مع اللوبيات ترغيبا وترهيبا يخدم مصلحة الفقراء والزواولة وصغار التجار وباعة التفصيل وأصحاب المؤسسات الصغرى وعموم المستهلكين، أم هو هدية من السماء لمن خدمتهم حكومات الإستبداد قبل الثورة ولم تضرب على أيديهم الديمقراطية “الفاسدة” لكنهم لم يظفروا بالأمان الذي يبدو أنهم غنموه بالفتات؟
فهل ستتحقق انتظارات الزواولة والبؤساء والثوار بعد التبشير بتصحيح المسار أم أنهم سينتظرون حتى “إشعار آخر”؟
#اللوبيات #والأحزاب #والزواولة #من #الخاسر #ومن #الرابح #من
تابعوا Tunisactus على Google News