المغرب: هزيمة العدالة والتنمية ووصايا هيلاري كلينتون
كما كان متوقعا، وأكدناه في عنوان مقالنا الأسبوع الماضي ضمن هذه الزاوية: “تاجر محروقات يقرع بقوة باب رئاسة الحكومة”، أُغلقت مكاتب التصويت، في نهاية مساء الأربعاء 8 سبتمبر الحالي، لينفتح باب قيادة الحكومة المغربية في الساعات الأولى من اليوم التالي أمام السيد عزيز أخنوش (60 سنة)، بصفته الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار، وهو ووزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات منذ ما يزيد عن أربعة عشرة سنة مضت إلى اليوم.
جرت انتخابات المجالس المحلية والجهوية ومجلس النواب في يوم اقتراع واحد، وحظيت باهتمام بالغ داخل المغرب وخارجه. وكان الجميع، سواء من المواطنين المغاربة، أو من المراقبين، على اختلاف آرائهم، بانتظار ساعة التغيير برحيل حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) بعد عشرة أعوام متتالية قضاها على رأس الحكومة.
في الحقيقة، لم يكن هذا الترقب تنجيما ورجما بالغيب، فمنذ أشهر سبقت، تم طرح كل قطع “البازل” المتناثرة فوق طاولة المشهد السياسي، ولم يبق سوى إعادة تجميعها لتظهر أمامنا اللوحة مكتملة بتفاصيلها البسيطة، وكأننا بصدد لعبة مسلية.
وصايا أميركية لكتائب الإطفاء
قبل عقد من الزمن، جاء وصول العدالة والتنمية إلى الحكومة إثر انتفاضة حركة 20 فبراير سنة 2011، كضرورة أملتها التحولات الجيوستراتيجية والظرفية الدولية على الحاكمين في المغرب. وفعلا، قام الإسلاميون المعتدلون بمهمة كتيبة الإطفاء. هكذا استطاع المغرب الإفلات من مصير دول مجاورة أنهكتها ثورات “الربيع العربي” وأدخلتها في أنفاق مظلمة لم تفلح في الخروج من حلكة عتمتها القاسية حتى اليوم.
بالمناسبة، نستحضر حماسة الإدارة الأميركية ودعمها لثورات الربيع العربي وما أسفرت عنه من تحولات دراماتيكية متباينة. فقد بارك الأميركيون الإسلام الإخواني، ونظروا إليه كتعبير سياسي مستنير واجتماعي ذي شعبية، وكبديل عن إسلام إرهابي تتبناه الحركات الجهادية المتطرفة والمسلحة.
صفق الأميركيون لهيمنة إسلاميي العدالة والتنمية على مقاعد البرلمان المغربي ورئاستهم للحكومة. يكفي هنا ذكر تصريحات سابقة للسيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الحين، حين أعلنت استعداد واشنطن للتعاون مع الإسلاميين، وسمت حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي في تونس، وأيدت “حزب العدالة والتنمية” في المغرب، لما توقعت فوز حزب عبد الإله بنكيران بنسبة عالية قبل إجراء الانتخابات. موضحة أن “الإسلاميين ليسوا جميعهم سواسية”. وأن “الفكرة بأن الإسلام السياسي لا يمكنه العيش في ظل نظام ديمقراطي هي فكرة خاطئة”. ورسمت المسؤولة الأميركية السابقة خارطة الطريق التي يجب على الإسلاميين سلوكها، بدءا بـ”رفض العنف واحترام الحريات واحترام حقوق النساء والأقليات والانضمام الى دولة القانون”.
لكن السيدة كلينتون أيضا في معرض وصاياها قدمت نصيحة “القبول بمبدأ الهزيمة الانتخابية ورفض إثارة التوترات الدينية”.
حكومة أهدت عنقها لمذبح “حكومة الظل”
اليوم، ونحن نتابع غضب قياديي العدالة والتنمية وتسرعهم في استقالة جماعية بعد الهزيمة، هل سيسترجعون الوصية الثمينة للسيدة هيلاري كلينتون؟ أم سيستمرون في الوعيد والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، والاحتماء بالشارع، وكأنهم لا يريدون إدراك أن الشارع تخلى عنهم وعاقبهم قبل معاقبة من يتولى شؤون الحل والعقد في البلاد. فعلى مدى عقد كامل ترأسوا فيه الحكومة، كانت السياسة التي رعوا تنفيذها لا تخدم المصالح الشعبية والطبقات التي علقت عليهم آمالا واسعة، مراهنة على “نقائهم”، وصدقت شعاراتهم ووعودهم بمحاربة الفساد. لكن ما جرى هو أن معظم وزراء العدالة والتنمية تورطوا في فضائح، بعضها أخلاقي جنسي، وظهرت آثار النعمة الفاحشة عليهم، وزايدوا على كل الحكومات المغربية التي سبقتهم تاريخيا، بتنفيذ كل ما يملى عليهم من خلف الستار، أي من “حكومة الظل” الممثلة بمستشاري الملك.
ففي عهد حزب العدالة والتنمية تم الإجهاز على صندوق المقاصة، وقمع المعطلون أصحاب الشهادات الجامعية والأساتذة المتعاقدين، وتم التنكيل بالمكفوفين المحتجين. وجرى الاعتداء على حقوق العمال والموظفين بالتراجع عن امتيازات قوانين التقاعد، بعد أن أمّن عبد الإله بنكيران لنفسه تقاعدا استثنائيا خارج القانون، لا وجود لمثله لدى أي رئيس حكومة في العالم. عبد الإله بنكيران الذي كان زمن معارضته يطالب بإلغاء تقاعد الوزراء والبرلمانيين، وكان يستشهد في جلسات البرلمان بحديث ينسب للخليفة عمر بن الخطاب حينما خاطب أمعاءه “غرغري أو لا تغرغري فلن تذوقي سمنا ولا زيتا حتى يشبع فقراء المسلمين”. واتضح للغافلين أن قرونا تفصلهم عن زمن الخلفاء الراشدين.
وفي آخر المطاف جاء أمينهم العام الجديد ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، راكضا من سريره، عندما استدعاه البلاط الملكي على عجل ليوقع وثيقة لم يطلع عليها، ولم يُؤخذ فيها رأيه من قبل كرئيس حكومة، ولا استُفتي فيها البرلمان، وهي وثيقة التطبيع مع إسرائيل. وقد ضبطت الكاميرات العثماني وهو يحاول اختطاف نظرة على ما يحمله بين يديه ووقع عليه قبل ثوانٍ، لما وقف مرتبكا وسط عرّاب التطبيع، صهر ترامب، جاريد كوشنر، ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مئير بن شبات. العثماني “ما غيره” الذي فضحته فيديوهات ومقالات سابقة بقلمه يدعو فيها بالموت لإسرائيل، وأن “التطبيع خيانة عظمى”.
الغنوشي وبنكيران وطالبان
اليوم، أمام ما يجري حاليا بالمنطقة، والتعقيدات التي يواجهها الإسلامي راشد الغنوشي وحركته “النهضة” في تونس، وما سبق حدوثه في مصر بإسقاط الرئيس الإخواني، محمد مرسي، وتراجع الإسلاميين في ليبيا وغيرها، يبدو أن السيناريو الأميركي أخذ منحى آخرا، وأن الولايات المتحدة بعد خروجها من أفغانستان هي الآن بصدد تفعيل سيناريو جديد، يتمثل في تجميع الحركات الجهادية الإسلامية في جهة واحدة من الأرض، في إمارة طالبان التي عادت للحكم بعد عشرين سنة من حرب شرسة ضد الأميركيين وحلفائهم. ولم يكن خروج الأميركيين استسلاما أو في عداد الهزيمة.
لهذا علينا قراءة ما يحدث حاليا ضمن آفاق المتغيرات الاستراتيجية الأميركية التي لا تقطع مع استراتيجيات واشنطن السابقة، بل هي امتداد لها وتطوير لأسسها العميقة، في سياق المواجهة التنافسية الأميركية مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، وفي أفق لعبة الاحتواء والتصعيد مع إيران وداخل الرقعة العربية – الإسلامية، وتعزيزا لتوسيع مكاسب التطبيع مع إسرائيل.
وليس صدفة أن تكون السفارة الأميركية بالرباط هي أول جهة دبلوماسية غربية بادرت بتهنئة المغرب على “نجاح الانتخابات”، مؤكدة أن “التزامنا المشترك بالإجراءات الديمقراطية يعزز شراكتنا لـ200 عام”، كما جاء بالنص.
قسوة غير منتظرة
هزيمة “البيجيدي” إذًا سيناريو لم يكن واردا بهذه القساوة لدى جماعة الإخوان في المغرب، وفي مقدمتهم عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني، الذي تولى في الخمس سنوات الأخيرة مهمة رئاسة الحكومة، ففي أكثر من جهة مغربية ذهب إليها العثماني خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بغاية الترويج لمرشحي حزبه وحث الناس على التصويت على رمز “المصباح”، وجد نفسه أمام جماهير هائجة من المحتجين المطالبين برحيله. لكن العثماني وإخوانه لم يصدقوا ما رأت أمُّ أعينهم. إذ سيصرح الأمين العام لـ”البيجيدي” لمراسل محطة “البي بي سي” في الرباط متبسما أن “هؤلاء مجرد مرتزقة مسخرين أخذوا ثمن ما يقومون به من تهجم وتحرش ضدنا”. ولم يكن يعلم أن عربون فشل حزبه سيكون سقوط رأسه في الدائرة المحيطة بالعاصمة، ولم يكن عبثا أن سميت تلك الدائرة الرباطية بـ”دائرة الموت”.
الذي حصل هو أن “البيجيدي” لم يغادر نشوة الاغترار بفوزه بالرتبة الأولى في انتخابات 2016، حين حصل على 125 مقعدا، مكرّرا إنجازا أفضل مما حققه في انتخابات 2011، ليستمر في قيادة التحالف الحكومي على رأس الحكومة، ناسيا خطورة “المخزن”، إذ لم يقرأ جيدا تجربة الاشتراكيين بزعامة عبد الرحمان اليوسفي، وكيف لفظهم القصر في لحظة مارقة من الزمن السياسي أُطلق عليها في الأدبيات السياسية المغربية “الخروج عن المنهجية الديمقراطية”. وها هم إخوان بنكيران يؤكلون اليوم في النهار الأبيض جهارا وطبقا لـ”المنهجية الديمقراطية”.
نهاية صلاحية “ملكيين أكثر من الملك”
هل كانت هزيمة “البيجيدي” المذلة تصويتا عقابيا؟ أو أنها أتت قبل كل شيء استجابة لإرادة القصر بعد أن انتهت صلاحية الإسلاميين، وأصبح إلغاء استمرارهم في الواجهة الحكومية واجبا ملحا أسبق من الانتصار على جائحة كورونا، وأن على الدولة والمجتمع التخلص منهم قبل القضاء النهائي على “كوفيد 19” ومتحوراته المهددة.
فرغم الظاهر المعتدل لحزب بنكيران، ومبالغته في اعتناق “ملكية أكثر من الملك”، فإن فلول الحزب لا تخلو من المتطرفين، وتعد مشتلا وخزانا سريا لبعض أصحاب التقية من مؤيدي الحركات الجهادية، مثلما كان عليه الحال في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مع الحركة الاتحادية، حين كانت قيادات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تعمل ضمن الشرعية القانونية، فيما أغلب القواعد التنظيمية تؤمن بالنظام الجمهوري والانقلابات، وتحمل أفكار العنف الثوري المسلح، (حركة الاختيار الثوري). بل إن التاريخ سيكشف عن تورط القيادة الاتحادية، ممثلة في الفقيه محمد البصري، في الانقلاب العسكري لسنة 1972 بقيادة الجنرال محمد أوفقير.
باقي النتائج ليست سوى تفاصيل صغيرة لن تغير الشيء الكثير من مشهدية ما حدث يوم الثامن من سبتمبر 2021. فكما توقعنا، دخلت الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، نبيلة منيب، إلى البرلمان لأداء دور مطلوب للتخفيف من رتابة المشهد وأحاديته، فجميع الأحزاب المتصدرة هي أحزاب إدارية من صناعة وخلق النظام أو موالية للقصر، كحزب الاتحاد الاشتراكي الذي انضم إلى كتائب المخزن بعد التنكر لماضيه النضالي الطويل، وترسخت القطيعة أكثر مع تاريخه بعد وصول الكاتب الأول الحالي إدريس لشكر.
أما نسبة التصويت في الانتخابات، فحسب الأرقام الرسمية تخطت 50 بالمئة، و60% في بعض المناطق، فهي أرقام تشكك فيها المعارضة المقاطعة للانتخابات، مثل حزب النهج الديمقراطي (الماركسي) وجماعة العدل والإحسان (الإسلامية، شبه محظورة)، إذ أنها أرقام لم تصدر عن جهة مستقلة تولت الإشراف على الانتخابات، المطلب الذي تم رفضه مسبقا.
لعبة ترهيب القصر
عودٌ على بدء، تبين من خلال الفرحة العارمة التي انتشرت جماهيريا، وعكستها وسائل الإعلام الرسمي والحزبي الموالي، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي والفيسبوك المغربي، والاجتهاد في ابتكار النكت والطرائف والرسوم الكاريكاتورية، والصور الساخرة المعدلة بتقنية “الفوتوشوب”، أو استرجاع مواقف العبث والسياسات اللاشعبية التي كرستها تجربة “البيجيدي” في الحكومة والبرلمان، وفي المجالس المحلية التي سيرها الإسلاميون. ظهر أن حجم العداء والكراهية الذي تضمره فئات شعبية واسعة لإسلاميي العدالة والتنمية، حجم كبير جدا. ومن بين هؤلاء “الأعداء” ناخبون عديدون سبق لهم أن منحوا أصواتهم لرمز “المصباح” في الانتخابات الماضية، لكن سياسة إخوان بنكيران والعثماني خذلتهم حد الصدمة. كما تبين أن “البيجيدي” ليس ذلك الحزب الكبير كما يزعمون، وفق محللين يساريين، “بل هو مجرد جماعة صغيرة تمكنت من اختراق المشهد السياسي واستغلت اندلاع ثورات الربيع وخروج حركة 20 فبراير، لتنقض على الغنيمة الكبرى”. وسعى زعيم “البيجيدي” بنكيران دائما إلى ترهيب القصر والنظام بفزاعة الثورة وبكون حزبه هو ضامن الاستقرار الحقيقي للبلد. لينتهي في الأخير بثُلَّة من النواب معه لا يكفون لتشكيل فريق برلماني.
فهل سيلجأ عبد الإله بنكيران مخرج “فيلم الرعب الفبرايري” (نسبة إلى حركة 20 فبراير) من غمده الآية القرآنية “وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”؟!
#المغرب #هزيمة #العدالة #والتنمية #ووصايا #هيلاري #كلينتون
تابعوا Tunisactus على Google News