المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي… علاقة المجتمعات العربية الإسلامية بالحداثة إشكالية – رصيف 22
يعد المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي، أحد أبرز مؤسسي التيار النقدي والتجديدي في الفكر الإسلامي المعاصر، إذ استطاع أن ينقد ويشرح من الداخل العقائد المتكلسة والعاهات المزمنة في الفكر العربي الإسلامي التي شكلت دائماً حجر عثرة أمام كل أشكال التقدم، وطرح محلها أفكاراً وأطروحات وقراءات صحيحة وجريئة محررة للعقول، تقوم على المقاربات أو المناهج الحديثة في البحث العلمي.
وانخرط مبكراً في مشروعات تهدف لإحداث تغيير جذري في بنية الفكر الإسلامي، ومسيرة طويلة وحافلة عمرها بضع عقود من الزمن، أثمرت عدة كتب على غاية في الأهمية والعمق، على غرار “الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع العاشر” (1986)، “الإسلام والحداثة” (1990)، “لبنات” (1994)، “الإسلام بين الرسالة والتاريخ” (2001)، “مرجعيات الإسلام السياسي” (2014) وعدة بحوث.
التقيناه في مكتبه ببيت الحكمة بتونس وحاولنا أن نفتح معه شهية الحديث عن أكثر القضايا التي بحث فيها، وهي الحداثة والفكر الإسلامي، إلى جانب الإسلام السياسي وبعض المحاور الأخرى، فكان الحوار التالي.
حوار مع المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي، أحد أبرز مؤسسي التيار النقدي والتجديدي في الفكر الإسلامي المعاصر، الذي استطاع أن ينقد ويشرح من الداخل العقائد المتكلسة والعاهات المزمنة في الفكر العربي الإسلامي التي شكلت دائماً حجر عثرة أمام كل أشكال التقدم
المفكر عبد المجيد الشرفي اهتم كثيراً بمسألة الحداثة، لهذا أود في البداية أن أسألك ما مفهوم الحداثة بالنسبة للدكتور عبد المجيد الشرفي؟
كتب كثيرون حول الحداثة، وهناك اتفاق على أن الحداثة هي نمط حضاري ظهر في الغرب منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وتحديداً ظهرت مع ما يسمى بعصر النهضة، ثم انتشرت وأصبحت كونية اليوم. ومن يقول نمطاً حضارياً يتحدث بالضرورة عن منجزات مادية ومعنوية.
المادية معروفة منذ عصر النهضة، حيث تم اكتشاف المطبعة، وهذه كانت ثورة كبرى لأنها مكنت لأول مرة في التاريخ عدداً كبيراً من القراء من التعامل مع الكتاب، بعد أن كان قبل ذلك محدود الانتشار لأنه مخطوط وغالي الثمن، ثم تتالت الاكتشافات، سواء اكتشاف العالم الجديد (أمريكا)، ثم تسارعت المنجزات المادية للحداثة بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على غرار اكتشاف البخار وما ترتب عليه، واكتشاف الكهرباء والهاتف، إلى غير ذلك.
أما المنجزات المعنوية فتتمثل أولاً في العقلانية، أي أن كل تنظيم للمجتمع وكل فهم للكون، للإنسان والطبيعة، يعتمد على العقل البشري، ولم يعد يعتمد على الموروث الديني كما هو الشأن في القديم. ثم ترتب عن ذلك مجموعة من القيم الأساسية، أول هذه القيم هي الحرية بمفهومها الجديد الذي تجاوز انحصارها قديماً في معنيين فقط، هما أنها ضد العبودية وحرية الإنسان في خلق أفعاله، لتصبح بمعنى أن تفعل ما تريد ما دام لا يضر بالغير ولا يتعدى على حرية الآخر.
وقيمة الحرية ارتبطت بقيمة أخرى كذلك جديدة في الحداثة، وهي الفردانية، والتي أصبح معها الفرد محوراً للاهتمام، وتم الإقرار بأن الفرد له حقوق لا صلة لها بالضرورة بالجماعة، في حين كانت قبل ذلك الجماعة، سواء كانت الأسرة أو العشيرة أو القبيلة أو الأمة، هي المحور.
القيمة الثانية للحداثة والتي ارتبطت أيضاً بالحرية هي المساواة، فبعد أن كانت المجتمعات القديمة جميعاً قائمة على التراتبية (الأقوياء والضعفاء الأغنياء والفقراء)، أصبح هناك رفض للوصاية المسلطة على الفرد من أي طرف، لا عالم وإمام ولا مفتي ولا زعيم سياسي، وطبعاً من أبرز ما ترتب عن هذه القيمة هي المساواة بين الجنسين، الذي يعد إنجازاً ينسف كل النظم القديمة التي كانت تؤمن بدونية المرأة وتعتبره أمراً طبيعياً.
أما القيمة الرئيسية الثالثة للحداثة فهي العدل، علماً أنه لم يكن منعدماً قديماً، ولكن أصبح له مفهوم جديد لأنه أصبح مرتبطاً بالحرية والمساواة، قيمة العدل بمفهومها الحديث نسفت التراتبية التي كانت معتمدة وعدم المساواة. إنها قيم مرتبطة ببعضها البعض، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون حداثياً وأنت تؤمن بقيمة وتسقط أخرى، مع أن هذا ما نعيشه يومياً.
بعد هذا الحديث عن الحداثة بمفهوميها، برأيك إلى مدى تعيش مجتمعاتنا العربية الإسلامية واقع هذه الحداثة مادياً ومعنوياً؟
سؤال هام لأنه لا بد لنا أن نتبين كيف كانت العلاقة بين المجتمعات العربية الإسلامية والمجتمعات الحديثة. فالمجتمعات العربية الإسلامية لم تشارك في إنتاج هذه الحداثة، بل إنها لم تعرف منها إلا الهيمنة والاستعمار والتسلط والاستغلال. فهذه المجتمعات علاقتها بالحداثة إشكالية، لأنها لم تمارس هذه القيم بقدر ما سلطت عليها انعكاسات المجتمعات الحديثة، السلبية لا الإيجابية. بالإضافة إلى أن المجتمعات العربية والإسلامية تقبل المنجزات المادية للحداثة، ولكنها تحترز أو ترفض المنجزات المعنوية السالف ذكرها، لأنها لم تعرف منها سوى سلبياتها.
لأن المجتمعات الغربية عندما أنجزت هذا النمط الحضاري الذي يقوم على الحرية والمساواة والعدل والديمقراطية، فإنها لم تنقل هذه القيم إلى المجتمعات التي استعمرتها ،بل مارست عكسها تماماً، وهذا ينطبق على أمريكا اللاتينية وإفريقيا والعالم العربي والإسلامي. ولهذا من الطبيعي أن تبدي هذه المجتمعات احترازاً أو رفضاً للحداثة، لأنها لم تعرف منها إلا وجهها السلبي. فعندما نتحدث عن نمط حضاري نشأ في الغرب فلا ينبغي أن نغتر ونقول إن هذه الحداثة تتضمن فقط الإيجابيات.
علاقة المجتمعات العربية الإسلامية بالحداثة إشكالية، لأنهم لم يشاركوا في إنتاجها بل سُلّطت عليهم والغرب لم يحمل إليهم إلا وجهها السيء”
قلت أيضاً سابقاً إن الفكر الإسلامي لم يستطع التجاوب الكفء مع الحداثة في وجوهها جميعاً، ولم يخضع لمقتضياتها النوعية، فهل يمكن اعتبار هذا أيضاً ضمن عوامل رفض واحتراز المجتمع العربي الإسلامي من الحداثة، خاصة في قيمها المعنوية؟
الفكر الإسلامي والفكر الديني عموماً، بما في ذلك المسيحي واليهودي وحتى الأديان غير التوحيدية، وجدت صعوبة في التأقلم مع هذا النمط الحضاري الجديد. لأن هذه الأديان نشأت في ظل ظروف تختلف عما تعيشه المجتمعات منذ القرن الخامس عشر.
وبما أن هذه الأديان ظهرت في فترة تاريخية قبل حديثة، وكل أدبياتها متأثرة بذلك الوضع التاريخي القديم، فإنها تجد صعوبة في التأقلم مع القيم الجديدة. وليس للفكر الإسلامي صعوبة خاصة في استيعاب الحداثة، وإذا كان يبدو أن أنه يجد صعوبة أكثر من الفكر المسيحي، فإن ذلك راجع إلى عوامل سياسية واجتماعية وثقافية لا دينية.
هذا الكلام يدفعني لاستحضار قولك سابقاً إن هاجس الدولة الحديثة، في الغرب، هو التخلص من هيمنة المؤسسة الدينية، أما العالم الإسلامي فإن السلطة السياسية قد نجحت إلى حد بعيد، في تدجين المؤسسة الدينية، هل يمكن اعتبار هذا الواقع هو السبب الرئيسي لعدم تأقلم الفكر الإسلامي مع الحداثة؟
هذا مظهر من مظاهر الاختلاف بين الوضع الإسلامي والوضع المسيحي، في الغرب كانت الكنيسة مهيمنة على السلطة السياسية، بينما في تاريخنا نحن السياسي هو المهيمن على الجانب الديني. وما حصل هو أن الغرب استطاع تحرير السياسي من الديني، بينما لدينا كمجتمعات عربية إسلامية هناك محاولات لتخلص الديني من هيمنة السياسي.
ولكن المؤسسة الدينية، إسلامياً وعربياً، لا تحاول التخلص من هيمنة السياسة من أجل الانخراط في الحداثة، بل للعودة إلى ما كان يتمثل على أنه الوضع الأمثل، رغم أنه لم يكن عصراً ذهبياً.
ولماذا لم تنجح المؤسسة الدينية عربياً وإسلامياً بالتخلص من هيمنة السياسة وظلت في موقع التابع؟
هناك أسباب تاريخية، فممثلو المؤسسات الدينية كانوا يتقاسمون المسؤوليات مع رجال السياسة. حيث توكل المهام المتعلقة بالحياة السياسية العسكرية وفض النزاعات الكبرى في المجتمع لرجال السياسة، في حين يستأثر رجال المؤسسة الدينية بتنظيم الحياة الاجتماعية، أي تقاسم أدوار تضفي بمقتضاه المؤسسة الدينية شرعية على ممارسات رجال السياسة، وفي المقابل رجال الدين يضفون على نفوذهم شرعية.
ولكن عندما تقلص دور المؤسسة الدينية في تنظيم الحياة الاجتماعية، أي عندما أصبحت أغلب القوانين التي تسير المجتمع وضعية لا دينية، وتمردت كل القطاعات تقريباً على المؤسسة الدينية بخضوعها لقوانين تنظمها من خارج إطارها وتخلصت من نفوذها، ولم يبق لها إلا ما بتعلق بأحكام العلاقات في نطاق الأسرة وبدرجات متفاوتة أيضاً، باتت تحاول التخلص من المؤسسة السياسية، ولكن بعد أن فقدت الكثير من نفوذها وسلطتها السابقة.
زرع الكيان الصهيوني بالمنطقة وقضاء بريطانيا على بدايات التصنيع في مصر والأنظمة الاستبدادية أبرز أسباب تخلف العرب والمسلمين
لكن أستاذي أنت تقول إن المؤسسة الدينية فقدت أدوارها وتأثيرها اجتماعياً، لماذا إذن مازالت هذه المجتمعات العربية الإسلامية مقيدة في كثير من الأمور الاجتماعية بالتعاليم الدينية؟
هناك عوامل داخلية وعوامل خارجية، الداخلية مرتبطة بمستوى تطور المجتمع، لأن مجتمعاتنا متأخرة في جميع الميادين لا فقط دينياً. فالمجتمعات المفتقرة للتصنيع، القائمة على الزراعة والحرف الصغيرة وغيرها، ينتشر فيها الفكر التقليدي، في حين المجتمعات المصنعة بمجرد التصنيع تنتج علاقات أخرى وقيماً أخرى. هناك فرق بين الفلاح المرتبط بالحرارة والبرد والدورة شمسية في علاقته مع الزمن، والعامل بالمصنع الذي لا يمكن أن يتأخر دقيقة عن بداية عمله وتوقيته مضبوط وصلته بالزمن تختلف.
كما أن التصنيع أدى لتحرر المرأة، لأن النساء بعملهن في المصانع اكتسبن استقلالاً مالياً كان بدوره أساساً للمساواة النسبية، لأن حتى المجتمعات الغربية مازالت تشهد تفاوتاً في الأجور بين الجنسين، ولكن هناك فرق كبير جداً بين النساء اللاتي يشتغلن في نطاق زراعي أحيانا دون أجر ونساء يعملن في نطاق مجتمعات صناعية.
أما العوامل الخارجية، لنتذكر أن بريطانيا قضت بكل الوسائل في القرن التاسع عشر على بدايات التصنيع في مصر حتى قبل أن تستعمرها سنة 1882، إلى جانب السياسيات الاستعمارية عموماً التي قامت على الاستغلال والتقسيم. وهناك أيضاً زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية الذي له تأثير كبير هو الآخر، إذ أدى لتشجيع كل الحركات الانفصالية القائمة على أساس ديني أو إثني أو مذهبي، لأنه لا مستقبل لهذا الكيان القائم على إيديولوجيا دينية إلا إذا كانت المنطقة التي زرع بها مثله، أي لن يستطيع أن يستمر إلا إذا كان محاطاً بدول محكومة بنفس الأسس التي قامت عليها.
أيضاً عندما نتساءل هذا السؤال علينا أن ننتبه إلى عامل آخر وهو أثر الاستبداد على مجتمعاتنا، وعدم انخراطنا في الثورات الصناعية خاصة في القرن التاسع عشر. فنحن متخلفون، وبالتالي فكرنا الديني سيكون بالضرورة مرتبطاً بهذه الأوضاع فهو ليس معلقاً بين السماء والأرض.
في سياق الحداثة مجدداً، لماذا تعتبر مكتسبات الحداثة هشة عربياً وإسلامياً وربما نأخذ نموذج تونس نظراً للاعتقاد السائد بأنها البلد الأكثر حداثة في محيطها العربي؟
عندما كانت المؤسسات تشرعن عن طريق الدين والغيب فإنها كانت ثابتة ومستقرة وتتسم في الضمير العام بالبداهة، ولكن عندما أصبحت تستند إلى الإنسان لا إلى الدين، فقدت هذه المؤسسات بداهتها، وكأي منجز بشري فهو نسبي وليس نهائياً، سواء مؤسسات أو قوانين أو أخلاق، ما دامت بشرية فهي هشة، ويمكن أن يصيبها ما يصيب كل المنجزات البشرية من ركود أو رجوع إلى الوراء أو قفزة إلى الأمام، وهذا ينطبق على الحداثة باعتبارها قيمة ومنجزاً بشرياً.
وأما بالنسبة للحالة التونسية فإن ما هو مسقط من السلطة السياسية فقط غير مستقر، لأن ما تقرره هذه السلطة يمكن أن يدفع إلى الأمام ويمكن أيضا أن يجذب إلى الوراء، وهذا ما حدث في التاريخ الحديث. ففي بداية الاستقلال دفعت السلطة السياسية المجتمع إلى الأمام، في حين عندما صعدت حركة النهضة إلى الحكم شدت المجتمع إلى الخلف.
ولهذا للسلطة السياسية تأثير ولكنه ليس إلا تأثيراً سطحياً، لأن ما هو أساسي ويبقى هي الحركية الاجتماعية، فمثلاً عندما قررت المرأة أن تخرج إلى الفضاء العام وتكون شريكاً فاعلاً، هنا لو صعدت النهضة أو غيرها فإن المرأة لن تقبل أن تكون محبوسة بين جدران البيت. أي أن رجل السياسة مهما كانت إيديولوجيته، لن يستطيع إلا أن يؤخر منجزات الحداثة، لكن لا يمكن أن يقضي عليها. وهذا كله مجدداً مرده عوامل داخلية وخارجية، لأن هذه الإيديولوجيا التي يمثلها الإخوان المسلمون والوهابية لا ينبغي أن ننسى أنها وجدت بتشجيع من الغرب.
هناك تأثير قوي للغرب في بلداننا لأننا ضعفاء اقتصادياً وثقافياً أيضاً. هنا قد أطرح مقارنة بين سلوك اليهود وعرب الجزيرة، أجد أن اليهود عندما قرروا استيطان فلسطين أول ما بدأوا به هو انشاء الجامعة العبرية، لا أن يبددوا ثرواتهم في تمويل كراسي في الجامعات الغربية، كما تفعل قطر والسعودية وغيرها، ولم يسعوا لبث إيديولوجيا دينية بقدر ما سعوا إلى بنية سياسية واقتصادية وعلمية حديثة.
بما أننا تحدثنا عن تونس، أريد أن أتوقف عند قولك إن ثورة تونس هي ثورة حداثية في عدد كبير من تجلياتها، كيف لثورة حداثية كما وصفت أن يتمخض عنها منظومة سياسية تقف على النقيض مع فكر الحداثة، وأقصد هنا صعود الإسلاميين الذين كانوا التيار المسيطر على مدار العشرية الماضية؟
أنا اعتبر أن ما جد في تونس في أواخر سنة 2010 وبداية 2011 ثورة وإن أنكر البعض ذلك، ولأنني عشت هذه الأحداث وشاهدت مئات الآلاف من التونسيين ينزلون إلى الشارع للمطالبة بوضع حد لنظام سياسي مستبد، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ الدول العربية. لكن ما حصل بعد ذلك هو صعود ثورة مضادة، وهذا معروف في كل الثورات: من يشعلون شرارة الثورات ويقودونها لا يستفيدون منها.
وهنا أيضاً تتضافر عوامل داخلية وخارجية، فحركة النهضة تم تمويلها بسخاء من القوى التي لا مصلحة لها في نجاح الثورة التونسية، سواء كان الغرب، وخاصة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية حينها، أو قوى ما يمكن أن نسميه إسلام البترول، التي ليس من مصلحتها نشوء ونجاح نظام ديمقراطي في المنطقة وتخشى العدوى، بمعنى أن الثورة قامت وكانت حداثية ولكن معادي الثورة هم من غيروا وجهتها.
في سياق الحديث عن الإسلاميين، تقول إن الإسلاميين هم ضحايا التحديث وأعداؤه في الآن ذاته، كيف يمكن أن يستقيم هذا الوضع المتناقض تقريباً؟
لأن التحديث الذي حصل منذ الاستقلال بتونس لم يشمل المجال السياسي إلا شكلياً، ولم يستفد منه من لم ينتم للحزب الحاكم، هؤلاء عادوا الحزب وكل ممارساته التحديثية. كذلك التحديث لم يشمل كامل الفئات الوطنية بنفس الدرجات، وهناك دراسات توضح كيف أن الساحل كان هو أكبر مستفيد من حركة التحديث في مستواه الاقتصادي، لأن الدولة استثمرت في هذه الجهة أكثر بكثير من جهات أخرى، وأبناء هذه المناطق التي استثناها الاستثمار سيعتبرون نفسهم مظلومين، سيكونون أعداء لهذا التحديث.
فمثلما أقصوا من الناحية السياسية أقصوا من الناحية الاقتصادية، أضف إلى ذلك أن الفكر الذي نشره الأخوان المسلمون والوهابيون حينها كان له تأثير على الكثير من هؤلاء الذين كانوا على هاش التحديث ولم يستفيدوا منه. وهذه بعض العوامل التي تفسر العداوة لهذا التحديث فهم ضحايا لتحديث ناقص.
كيف أثر الإسلام السياسي في تونس بعد عشرية من الحكم؟
الإسلام السياسي ليس ظاهرة دينية فكرية وسياسية فقط، هو أيضاً ظاهرة إعلامية، فاهتمام الإسلاميين بالإعلام خاصة عن طريق الوسائل الحديثة يوهم بأن وزنهم ثقيل، لكن الحقيقة هذا غير صحيح. هم يمثلون أقلية في المجتمع التونسي، ولكنها أقلية فاعلة ومؤثرة. ولهذا لا نستطيع أن نعتبر أن الإسلام السياسي يمثل قوة مجتمعية سياسية في المستقبل، سيحافظ على تمثيله لفئة محافظة في المجتمع ولكنها لن تكون حركة دينية تعبر عن تدين المجتمع ككل.
وحتى سياسياً، هناك مؤشرات خارجية خاصة تفيد أن الغرب قد تخلى نسبياً عن مؤازرة الإسلام السياسي، بعد أن اكتوى بنيران هذه الجماعة وانقلب السحر على الساحر. فبعد أن شجعوا هذا التيار للصعود كيلا تتطور المجتمعات الإسلامية إلى مستوى ينافسهم على النفوذ العالمي، فإذا به ينقلب عليهم وهذا ما دفعهم للتخلي نسبيا عن الإسلام السياسي.
بعد الهزيمة المدوية في المغرب للعدالة والتنمية وخروجهم من مصر وما حدث في تونس منذ 25 يوليو وانطفاء حركة النهضة، هل يمكن اعتبار هذه المحطات مؤشراً على انحسار الحركات الإسلامية سياسياً؟
لا شك أن الإسلام السياسي في نزول لا في صعود، ولا بد أن لا ننسى أن هذا التيار قد خيب ظن قواعده التي كانت تعول عليه كي يتحسن وضعها المعيشي، فإذا بها تسوء معهم وتفاقمت مشاكلهم بدل حلها.
وبالتالي فإن تخلي القواعد يجعل الإسلام السياسي منحصراً في مجموعة ضيقة مازالت متأثرة بهذا الفكر لا غير، وحتى على مستوى التمويل، ضاقت عليهم السبل لأن هناك ضغطاً كبيراً على مصادره كي تكف عن ضخ أموالها.
كيف تفسرون الانخراط الحماسي للشباب التونسي في التنظيمات الإرهابية؟ وهل تراجع أنظمة التعليم في تونس لها دور في ذلك، خاصة أنك قد قلت إن التوجه النقدي والتحرري الذي كان موجوداً في النظام التعليمي الذي أرسي بعيد الاستقلال قد تم التراجع عنه في سبعينيات القرن الماضي، ووصفت واقع التعليم في أحد المرات بقولك “إنتاج الجهل في عصر العلم”؟
الأكيد أن النظام التعليمي له مسؤولية كبرى في عدم تحصين الشباب كيلا ينساق إلى الدعاية مهما كان مأتاها، لأن هؤلاء الشباب مغرر بهم، قيل لهم إنهم سيذهبون للجهاد في سبيل الله وهم في الحقيقة يطبقون سياسة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. لكن أيضا لا يمكن أن نغفل الإغراءات المادية التي كانت توزع بسخاء على هؤلاء الذين يذهبون لما يسمى بالجهاد في الشرق، بسوريا والعراق وليبيا، هناك ملايين الدولارات تدفع لهم وعائلاتهم.
ومكّن النظام السياسي للدعاية الإخوانية من أن تنتشر، حتى أن الخيمات الدعوية كانت منتشرة علناً في كل مدن تونس دون أي تضييقات تذكر. ولهذا انخرطت أعداد كبيرة من الشباب التونسي للأسباب السالف ذكرها، إلى جانب أن معظمهم قد فقدوا المعنى الإيجابي لحياتهم، ولم يوفر لهم المجتمع التونسي هذا المعنى، لهذا تجدهم إما يتوجهون “للحرقة” (الهجرة غير الشرعية) أو للجهاد، لأن الدولة تخلت عن دورها في تأطير الشباب، وانخرطت في ليبرالية جديدة ليس لها قيم سوى المال فقط.
#المفكر #التونسي #عبد #المجيد #الشرفي #علاقة #المجتمعات #العربية #الإسلامية #بالحداثة #إشكالية #رصيف
تابعوا Tunisactus على Google News