المفكر هشام جعيط: المثقفون العرب كسالى لا يُتقنون سوى المهاترات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في أول من شهر حزيران-يونيو2021، رحل عن الدنيا المفكر التونسي الكبير هشام جعيط عن سنّ تُناهز 87 عاما تاركا للمكتبة العربية مجموعة من المؤلفات القيمة يمكن أن نذكر من بينها :”الشخصية العربية الإسلامية” و”أوروبا والإسلام”. كما أصدر هشام جعيط مؤلفا مُهمّا عن تاريخ الكوفة، وعن “الفتنة الكبرى” في الإسلام. وفي السنوات الأخيرة من حياته انكب على تأليف كتاب عن حياة الرسول محمد وكان بعنوان :”الوحي والنبوة”.
وجميع هذه المؤلفات خوّلت لصاحبها أن يكون من أبرز المفكرين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.
مفكرون
وكان المفكر ا هشام جعيط قد جاء في أول صيف عام2000 إلى فيينا لإلقاء محاضرة في جامعتها. وعندما علمتُ بذلك، ركبت القطار من ميونيخ حيث كنت أقيم آنذاك لأمضي معه ومع السيدة زوجته الفرنسية التي كانت تتمتع بثقافة عالية، ثلاثة أيام بديعة تخللتها جولات بين مقاهي فيينا العريقة التي كان يرتادها كبار المثقفين والفلاسفة والروائيين والفنانين في زمن الإمبراطورية الغابرة. كما تخللتها نقاشات حامية حول قضايا مختلفة.
وكان هشام جعيط المعروف بحبه للحياة، ولملذاتها، سعيدا بوجوده في فيينا للمرةِ الأولى قائلا : “في هذه المدينة ولدت ونشأت عقول كبيرة في جميع مجالات الابداع والفن والفكر… لذا فإن الحضارة الغربية مدينة لها بالكثير”.
قلت لهشام جعيط: من هو المفكر الذي كنت تتمنى الالتقاء به في فيينا لو كان لا يزال على قيد الحياة؟
فكر قليلا، ثم أجاب: فرويد بطبيعة الحال لأنه أتى بعلمٍ جديد غير مسبوق…وكنت أتمنى أيضا أن ألتقي بكارل بوبر صاحب الكتاب الشهير :”المجتمع المفتوح وأعداؤه” والذي كان يقول :”النقد هو دماء الحياة لكل تفكير عقلاني”…وأظن أن العرب لا يعرفون كارل بوبر الذي حارب بسلاح النقد الأيديولوجيات السائدة في عصره، خصوصا الماركسية بحسب تطبيقها في ما كان يُسمّى بـ”المعسكر الاشتراكي…
هنا تدخّلت السيدة زوجته، وقالت:” أما أنا فكنت أتمنى أن ألتقي بكارل كراوس الذي لا مثيل له في الكتابة الساخرة واللاذعة، وبروبرت موزيل الذي أعدتّ قراءة رائعته “رجل بلا خصال” أكثر من مرة من دون أن أتمكن من سبر أغوارها…كما كنت أتمنى أن ألتقي بالكاتب توماس بارنهارد الذي توفي عام 1989، والذي كان ينتقد النمساويين نقداً لاذعا…قرأت جلّ رواياته المترجمة إلى الفرنسية… و أنا اعتبره من أفضل كتاب أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين…
العائلة والمدرسة
وعن عائلته العريقة وتأثيرها عليه، قال “جعيط”: “من المؤكد أن الوسط العائلي يلعب دورا مهما في تكوين الانسان خصوصا في بداياته. إلاّ أنني أعتقد أن الفرد ينْحتُ نفسه بنفسه في ما بعد، بل قد ينفصل انفصالا كليا عن الوسط الأهلي إن لم يقمْ بردة فعل عنيفه ضده رافضا ثقافته وأسلوبه في الحياة وفي التفكير. ولا أعتقد أن هناك مثقفا يكون صورة طبق الأصل عن المحيط إلاّ في ما ندر. والأمثلة كثيرة خصوصا في الغرب…
سألته: هل ثرت أنت على الوسط العائلي؟
أجاب قائلا: “طبعا … فعلت ذلك… لكن ليس في البداية…وأنا لم أثرْ فقط ضد الوسط العائلي، بل ضدّ الوسط التربوي عموما…ولا بد أن أشير إلى أن الوسط العائلي لم يكن وحده الذي أثر في تكويني الفكري والثقافي في البداية، وإنما أيضا “المدرسة الصادقية” التي أنتجت أجيالا من النخب الفكرية والسياسية والأدبية في تونس…ففي هذه المدرسة المفتوحة على حضارة العصر، وكان ذلك بموافقة من والدي وعائلتي، تعلمت اللغة الفرنسية، والعلوم الحديثة والفلسفة والتاريخ. وهذا ما لم أكن قادرا على الحصول عليه في الوسط العائلي الذي كان تقليديا، ومحافظا… ولا بد أن أعترف أنني كنت محظوظا إذ أن عددا كبيرا من أبناء عائلتي لم يقع توجيههم إلى المدارس العصرية مثلما كان الحال بالنسبة لي. وقد تبيّن لي في ما بعد أن تكوينهم كان ضحلا. والسبب في توجيهي إلى “المدرسة الصادقية” هو والدي الذي كان من شيوخ جامع الزيتونة، إلاّ أنه أدرك أنه لن يكون لي مستقبل إذا ما أنا حُرمت من التعليم العصري.ويعني هذا أنه كان يمتلك نظرة ثاقبة للمستقبل، وأنه كان عالما أن التعليم القديم لم يعد صالحا. ولم يكن والدي يهتم فقط بالمسائل الفقهية، بل كان مُحيطا بالجوانب الهامة من الحياة المعاصرة. وكان مُتفتحا على المستوى الثقافي، مُلتهما كل ما كان يأتي من مصر من مجلات، ومن كتب. وبفضله قرأت طه حسين، وأحمد أمين، والزيات، والعقاد، وغيرهم.
.
ويواصل “جعيط “حديثه، قائلا: في تلك الفترة، لم تكن كتب التراث تستهويني. وأذكر أني قررت ذات مرة أن أقرأ “العقد الفريد” غير أني سرعان ما تركته لأنني لم أجد فيه ما يمكن أن يثير اهتمامي، وأن يغذي فضولي المعرفي. أما طه حسين فقد أعجبني كثيرا، وفتح ذهني على الكثير من القضايا الهامة في الأدب، وفي الفكر، وفي التاريخ. لكني لم أستسغ العقاد كثيرا. وكان والدي يُحفّزُني على قراءة مجلة “الرسالة”. كما أنني كنت أقرأ المجلات والجرائد القادمة من مصر، ومن خلالها تعرفت على الحياة السياسية، والثقافية، والفكرية في بلاد الشرق. ومن بين الأشياء التي كانت تعجبني هي أن والدي كان يتكلم العربية الفصحى في البيت خصوصا حين يكون الأمر متعلقا بمسائل ثقافية، ودينية. وطبعا لم يكن يفعل ذلك مع الخدم(يضحك)، بل مع الشيوخ والضيوف الأفاضل…
سألته: وماذا عن تأثيرات “المدرسة الصادقية”؟
أجاب قائلا: كان تأثير “المدرسة الصادقية” عليّ أكثر من التأثيرات السابقة. فخلال سنوات الدراسة، اكتشفتُ الفلسفة والعلوم الحديثة والأدب الفرنسي. كما أنني درَسْتُ تاريخ أوروبا، خصوصا تاريخ الثورة الفرنسية. وكان التعليم في هذه المدرسة على النمط الفرنسي الأصيل والمعمق. لذا قبل أن أنهي التعليم الثانوي، كنت على معرفة جيدة بالأدب الفرنسي، وبفلسفة الأنوار. كما أن أساتذتي في اللغة العربية أطلعوني على الجديد في الأدب العربي، شعرا ونثرا.
في فرنسا
وعن فترة دراسته في فرنسا في الخمسينات، قال: التكوين المعرفي الصلب الذي حصلت عليه في تونس ساعدني على أن أدخل باريس وأنا شديد الثقة بنفسي. ومن حسن حظي أني انتسبت إلى مدرسة المعلمين العليا التي منها تخرج فلاسفة ومفكرون كبار أمثال رايمون أرون، وجان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وميشال فوكو وغيرهم. وكان الدخول إلى هذه المدرسة يتطلب معرفة عميقة بالأدب الفرنسي، وباللغة اللاتينية التي كنت قد تعلمتها في “المدرسة الصادقية”. كما كان يتطلب حذق اللغة الإنجليزية والالمام بالتاريخ، وبالفلسفة. ويمكن أن أقول أن سنوات الدراسة في مدرسة المعلمين العليا أشعرتني أنني في قلب الثقافة الغربية. وكان والدي يحثّني على مواصلة التعليم رغم ادراكه أنني اخترت طريقا غير طريقه. وظني أنه كان يفعل ذلك، لا حبا في العلم والمعرفة فقط، وإنما لأنه كان يعتقد بحسب انتمائه إلى الطبقة البورجوازية المحافظة، أن العلم قد يكون وسيلة ناجعة للحفاظ على المرتبة الاجتماعية، وعلى النفوذ الطبقي. وما هو مهم هو أنني قمت في تلك الفترة بتعميق ثقافتي في جميع المجالات إذ قرأت الأدب الروسي، والأدب الأميركي. وكنت مُعجبا بسارتر الذي كان آنذاك في أوج شهرته، وأيضا بألبير كامو. كما قرأت مؤلفات فلاسفة كبار مثل كانط وشوبنهاور ونيتشه. وفي ذات الوقت انصب اهتمامي على العلوم. وكان لذلك تأثير كبير على توجهاتي الفكرية في ما بعد. وفي العطل الصيفية، كنت أخوض نقاشات مع والدي حول قضايا دينية. ولم تكن أفكاري تزعجه. بل أعتقد أنه كان يرتاح إليها أحيانا. وذات مرة أطلعته على مبادئ علمية تتناقض مع معتقداته، فإذا به يصرخ في وجهي بحدة لم أعرفها من قبل:” لعنة الله على العلم الذي أدى بك إلى هذه الترهات”.
العودة إلى تونس
وعن عودته إلى تونس، قال: كنت قد شعرت بالضيق لدى عودتي إلى تونس. وكان ذلك عام1967. وكنت أعتقد أن الأوضاع تحسنت غير أن ذلك كان مجرد وهم إذ أني اصطدمت حال وصولي إلى العاصمة، بالديماغوجية في أبشع مظاهرها. وهكذا وجدت نفسي أمام واقع لا يلائمني لا فكريا ولا مزاجيا ولا سياسيا. فقد كان الحزب الواحد يُحْكمُ قبضته على البلاد. وكان الناس يعيشون تحت وطأة الخوف. أما الرأي المخالف فمنعدم تماما. مع ذلك خيّرتُ ألاّ أكون معارضا سياسيا مقررا الاحتفاظ بأفكاري لنفسي. وفي مجلة “الفكر” التي كان يرأس تحريرها محمد مزالي، وهو أحد رموز النظام، كتبت سلسلة من المقالات حول مواضيع ثقافية وفكرية مختلفة. كما تحدثت في الإذاعة الوطنية حول قضايا فكرية. وقد استمع الرئيس بورقيبة إلى تلك الأحاديث، وأعجب بها. لذلك أوصى لجان الحزب المكلفة بالثقافة بدعوتي للمساهمة في الملتقيات التي تنظمها.
قلت له: يُشاع أنك كتبت مقالا أغضب بورقيبة…
ردّ هشام جعيط على ذلك قائلا: هذا صحيح…وكان المقال ضد البيروقراطية في بلدان العالم الثالث. وكان بعنوان :”الوصولية والتخلف”. إلاّ أن بشير بن يحمد رئيس تحرير مجلة “جون أفريك” التي تصدر في باريس، اختار له عنوانا آخر :”الانتهازيون وصلوا”…ولم يكن ذلك المقال فكريا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل كان مقالا صحافيا انفعاليا فيه انتقدت الأنظمة الوطنية بعد الاستقلال، تلك التي أهملت مصالح الشعب، وأغرقت البلدان التي تحكمها في البيروقراطية، وفي الانتهازية. وأظن أن المقال أغضب بورقيبة. غير أني لم أتبلّغْ بشيء يشي بذلك. ومرة طلبت مقابلته فلم يُمانع… استقبلني في مكتبه الخاص، وبدأ يتحدث حول تاريخ الحركة الوطنية. وفجأة قال لي:”أعلم أنك كتبت مقالا سيئا”، فأجبته :”سيدي الرئيس…المقال ليس عن تونس” فقال لي:” لكنك ذكرت المغرب العربي… وتونس جزء منه” فقلت له:” لا أعني تونس…وأنت لست معنيّا بالأمر سيدي الرئيس”. عندئذ ضحك، وقال :”أتعني أن الآخرين سيئون إلاّ أنا”. بعدها هدأ. وإثر تلك المقابلة، بلغني أنه تحدث عني في مجلس الوزراء، قائلا:” عندنا شاب جديد…دعوه يكتب”. في تلك الفترة كان محمود المسعدي وزيرا للتربية والتعليم، ولم يكن يحبني لسبب لا أدريه. وكان محمد عبد السلام، عميد الجامعة يكرهني أيضا…لذا ظلت الأبواب مغلقة أمامي…
سألته: وماذا حدث بعدئذ؟
أجاب: في عام1969، شنّ النظام حملة قمعية واسعة ضد الطلبة والمثقفين المناهضين له. وكان من بين هؤلاء أساتذة جامعيون. وكان الطاهر بلخوجه مدير الأمن آنذاك من المتصلبين. وفي كتابه :” العقود الثلاثة لبورقيبة” هو يعترف بوقوع تجاوزات كثيرة تتصل بالحريات العامة. والذين تمّ اعتقالهم عُذبوا، وتعرضوا إلى إهانات شنيعة. وأذكر أني قلت للرئيس بورقيبة عندما قابلته بإنه من الضروري أن تكون للنظام علاقة طيبة مع المثقفين. إلاّ أن بورقيبة لم يُعجبْ بما قلت لأنه لا يتحمل النقد الموضوعي على الاطلاق. كما أنه كان يرفض أن يتدخل المثقف في السياسة، وكان دائما يقول: “هذه من مسؤوليات الدولة”.
وعندما بدأت الحملة القمعية، تحركت مع زميل لي يدعى محمد الشريف مُنادييْن بضرورة احترام الرأي المُخالف، وحقوق الانسان. وقد اتصلنا بالدكتور محمد الطالبي الذي كان رئيسا للجامعة آنذاك. غير أنه قال بإنه من الصعب أن يفعل شيئا إذ أن السلطات العليا في الدولة أبلغته رسميا أن أيّ كلمة، أو أيّ تحرك لفائدة المسجونين يُعتبر مسّا من الأمن العام. ولم يكن الطاهر بلخوجه مسؤولا وحده عن ذلك الوضع المُشين. بل كان الرئيس بورقيبة نفسه ضالعا في ذلك. فمنذ عام1956، أي منذ حصول البلاد على استقلالها، وحتى عام1968، لم يواجه بورقيبة سوى الفتنة اليوسفية(نسبة إلى صالح بن يوسف الذي اغتيل في فرانكفورت في صيف1961 ) التي قمعها بشدة، وواجهها بقوة السلاح رغم أن صالح بن يوسف لم يقم بثورة بل عارض بورقيبة في وجهة نظره بشأن الاستقلال. وكان من الممكن تجنب ذلك لو أن بورقيبة كان يتمتع برحابة الصدر. وبعد القضاء على الفتنة اليوسفية، ظنّ بورقيبة أن الأمن استتبّ في البلاد، وأن الأصوات المعارضة له ولنظامه، قد سكتت إلى الأبد. وعندما علمت أن الطاهر بلخوجه يريد ايذائي أنا أيضا بسبب التحركات التي كنت أقوم بها، فضّلتُ العودة إلى فرنسا وكان ذلك عام1969. وكان هدفي انجاز مشاريعي الفكرية بعيدا عن ذلك الجو الحانق الذي أصبح لا يطاق…
سألته: أية مشاريع فكرية كنت تريد إنجازها؟
أجاب قائلا: تأليف كتاب حول قضايا كانت تشغل بالي في تلك الفترة. وأول كتاب قمت بتأليفه كان حول “الشخصية العربية الإسلامية”…كما ألفت كتابا عن أوروبا والإسلام. وجميع الأفكار الواردة في الكتابين لم يكونا ايديولوجيين، وإنما كانا فكريين، وفيهما استشراف للمستقبل…
الأصوليات المتطرفة
سألته: ماذا تعني باستشراف المستقبل؟
أجاب: كنت من الأوائل الذين حذّروا من ظهور الأصوليات المتطرفة، ومن تآكل الدولة الوطنية. وهو أمر حدث في الجزائر بسبب البيروقراطية، والاختيارات العشوائية في السياسة وفي الاقتصاد. وقد أشرت في كتابي :”الشخصية العربية الإسلامية” إلى أن القومية لا يمكن أن تقوم إلاّ بالالتحام مع الإسلام بصفة أو بأخرى إذ لا يمكنها الاكتفاء بالاعتماد على ذاتها، كما هو الحال لدى الناصريين والبعثيين.
سألته: وما هي المصادر الأخرى التي اعتمدت عليها في كتابك عن الشخصية العربية الإسلامية؟
أجاب: اعتمدت على مصادر كثيرة…وكان لديّ الوقت الكافي للاطلاع عليها لأنني كنت أتمتع بالحرية التي كنت محروما منها في تونس. وقد اطلعت على رؤية الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وعلى كتابات ميشال عفلق، لكي أجيب في كتابي المذكور على العديد من الأسئلة التي كانت مطروحة آنذاك في المشرق، وفي المغرب. وقد فضّلتُ أن أكتب :”الشخصية العربية الإسلامية” بالفرنسية لكي يطّلع الفرنسيون على ما كان يحدث في العالم العربي -الإسلامي. ولا بدّ أن أشير أيضا إلى أني حصلت في باريس على جميع الوثائق التي كنت أحتاج إليها، والتي كان من الصعب عليّ العثور عليها في تونس بسبب القطيعة التي حدثت مع بلدان المشرق العربي بعد خطاب بورقيبة في أريحا سنة 1965، والذي طالب فيه بقبول حل التقسيم. وبسبب تلك القطيعة التي استمرت سنوات طويلة، أصيبت النخب التونسية بضيق الأفق على المستوى المعرفي والنظري. لذا لم تكن قادرة على انتاج ما يمكن أن يكون جديا على المستوى الفكري.
قلت له: الغريب في الأمر أنك لم تتأثر بالماركسية رغم أن جل المثقفين في تلك الفترة كانوا مُنجذبين إليها…
أجاب: هذا صحيح…وربما يعود ذلك إلى التكوين الصلب الذي حصلت عليه سواء في تونس، أم في فرنسا. وقد أنقذني ذلك التكوين من الأيديولوجيات، ومن السقوط في التحاليل السهلة والمبسّطَة التي لا تفضي في النهاية إلاّ إلى الخواء. وعندما صدر كتابي الآخر :”أوروبا والإسلام” الذي أعجب به المفكر الكبير رايمون أرون، اعتبره الفرنسيون مُضرا بالعرب…
سألته :من أية ناحية؟
أجاب قائلا: لقد دعوت فيه إلى ضرورة تحرر العالم العربي-الإسلامي من سطوة الغرب، ومن نفوذه السياسي والاقتصادي. بعدها بدأت اهتم بالفترة الإسلامية الأولى. وهنا اصطدمت بالمستشرقين لأنهم كانوا يعتبرون أن هذا المجال خاص بهم وحدهم. لذا لا يجوز لأيّ أحد آخر أن ينشغل به. فإن ألححت، يقولون لك: عدْ إلى بلادك…وهناك يمكنك أن تفعل ما تشاء …
عهد بورقيبة
قلت له: وهكذا عدتّ إلى بلادك …
واصل حديثه قائلا: عرفت أن العودة صعبة…لذا قمت بجولة طويلة في جميع أنحاء العالم…بعدها عدت إلى تونس بدعوة من الهادي نويرة، الوزير الأول آنذاك. وعند عودتي اصطدمت من جديد بالواقع التونسي البائس على المستوى الثقافي والفكري. وكان بورقيبة قد هرم… وكانت الصراعات على خلافته على أشدها…أما الجامعة فقد بدت لي مُتخلفة أكثر من اللزوم…وعندما استقبلني الهادي نويرة، قلت له: أظن أن عودتي كانت خطأ كبيرا … إلاّ أنه شجعني على البقاء قائلا بأن البلاد في حاجة إليّ… وفي النهاية، اهتديتُ إلى أن أفضل شيء أقوم به لحماية نفسي هو العمل، ومواصلة الكتابة، والابتعاد عن المواجهات السياسية غير المجدية. وهكذا شرعت في تأليف كتابي عن تاريخ الكوفة الذي أصبح مرجعا علميا وتاريخيا…
سألته: باختصار شديد: كيف ترى إلى عهد بورقيبة؟
أجاب قائلا: أعتقد أن بورقيبة قام بأعمال جليلة حال حصول البلاد على استقلالها. وظل نافعا لها حتى السبعينات. وأفضل شيء قام به بعد فشل تجربة “التعاضد الاشتراكية” هو أنه عيّّن الهادي نويرة وزيرا أول .وكان الهادي نويرة يتمتع بخبرة كبيرة في المجال الاقتصادي. لذلك بعث للوجود مؤسسات قوية ساهمت في تغيير وجه البلاد.
وفي بلاد لم يعرف شعبها مفهوم الدولة مثل تونس، أعطى بورقيبة مهابة للدولة إلاّ أنني أرى أنه كان مُتصلبا في آرائه، وفي توجهاته. ولعل أكبر خطأ ارتكبه هو أنه تشبث بالسلطة خصوصا بعد أن مرض في نهاية الستينات. لذا أخذ يتصرف كما لو أنه يحبّ نفسه أكثر مما يحب بلاده. وعليّ أن أضيف أيضا أن هناك شخصيات قدّمت مصالحها الخاصة على مصلحة البلاد مثل أحمد بن صالح، وأحمد المستيري، ومحمد المصمودي… وعوض أن يتوحّد هؤلاء من أجل مصلحة البلاد، انصرفوا إلى الدسائس والمؤامرات بهدف الحفاظ على السلطة، أو خلافة بورقيبة…
مسؤولية النُخَب
قلت له: نعود إلى المجال الفكري…هناك من يقول أن السبب الأساسي في تردي الأوضاع في العالم العربي لم يكن فقط بسبب فساد أنظمة الحكم، وإنما أيضا بسبب استقالة النخب، وعدم قيامها بواجبها في التوعية، وفي النقد الجذري بحسب مفهوم كانط وماركس …
أحاب قائلا: أكيد أن النخب مسؤولة هي أيضا عن هذا التردي، وعن هذا البؤس الذي فيه يتخبط العالم العربي-الإسلامي…لكن علينا ألاّ ننسى أن الرقعة العربية الإسلامية ظلت على مدى خمسة قرون، أي منذ ابن خلدون، تعاني من التبعية. فقد احتلتها الإمبراطورية العثمانية، ثم هيمنت عليها كل من بريطانيا وفرنسا. لذلك ظلت بقعة خالية من الحياة في معناها التاريخي. وعلى المستوى الثقافي والفكري كانت صحراء قاحلة.
وعندما شرع العالم العربي-الإسلامي يستيقظ من نومه الطويل، كانت الهوة بينه وبين الحضارة الغربية الجديدة قد اتسعت بشكلٍ مخيف. والاطلالة على تلك الهوة يُسبب الغثيان والدوار. وعوض أن يعمل العرب على ردْم تلك الهوة، انصرفوا إلى أشياء أخرى. ولا أخفيك القول أنني أصبحتُ شبه مُتيقن أن العرب اليوم ليسوا أذكياء، وليسوا طموحين، لذا هم دائما منهزمون بحيث لم يربحوا معركة واحدة في كل الحروب التي خاضوها ضد اسرائيل. والأمر لا يتعلق فقط بالنخب السياسية، بل أيضا بالنخب الثقافية والفكرية التي تميل إلى الكسل والتقليد والجدل الفارغ وتهرب من التفكير الجدي، ومن الأعمال الصعبة. وزاد في الأمر سوءا أن معظم الحكام يكرهون الثقافة والفكر. لذا غالبا ما يكون مصير المثقفين والمفكرين السجن والابعاد والنفي والاقصاء …
قلت له: سمعتك ذات مرة تقول بإن طه حسين ضعيف من الناحية النظرية…
أجاب قائلا: نعم هو ضعيف بحسب مفهوم اليوم…أما بالنسبة للمرحلة التي عاش فيها، فإنه يمكن القول أنه لا بأس به. وقد تأثر طه حسين بالغرب، ولعب دورا مُهما ككاتب، وكرجل فكر. وكان جريئا. وهذا جانب مهم. وهناك شيء لابد من قوله هنا وهو أنه من النادر أن نلتقي بمثقف عربيّ يعرف أصول القافة الغربية معرفة جيدة. فعندما نلتقي بأحد هؤلاء، يشرع فورا في الحديث عن الأوضاع السياسية في بلاده، ولا يخرج عن ذلك أبدا. وهذا دليل على أنه غير قادر على ابتكار الأفكار، لذا هو يلجأ إلى الثرثرة لكي يخفي جهله. كما أضيف أن المثقفين العرب لا يهتمون بالمعرفة في معناها الحقيقي والعميق… فهم لا يعرفون السينما، ولا المسرح، ولا الموسيقى…حتى تاريخهم يجهلونه…
قلت له: أنت غالبا ما تبدي قسوة معينة في تقويمك للمفكرين العرب …ما رأيك في عبد الله العروي مثلا؟
أجاب قائلا: العروي مفكر مهم جدا…وهو أهم من كل المفكرين الآخرين…وأنا أقدّرُ ما كتبه، وأرى أنه من الصعب على العرب فهمه لأنهم كسالى…
-سألته: وما رأيك في محمد عابد الجابري؟
أجاب: أنا مثل العروي الذي يقول بإن من لا يملك ثقافة غربية عميقة، ولا ثقافة عربية عميقة، لا يمكن أن يكون مفكرا حقيقيا، ولا يمكن الوثوق به. والجابري مدرسي وتلقيني…وهو يتحدث في كل شيء، وحتى في الأشياء التي لا دراية له بها…
سألته: وما رأيك بأركون؟
أجاب قائلا: محمد أركون صديق…وله ثقافة لا بأس بها…إلاّ أني لا أعتبره مفكرا لأن تكوينه ضعيف إذ أنه تكوّن عند المستشرقين الغربيين، والفرنسيين تحديدا. وهو لا يعرف العربية جيدا. كما أنه لا يمتلك معرفة عميقة بالفلسفة وبالتاريخ…وهذا ما يجعله عاجزا عن الكتابة في المسائل المعرفية الدقيقة. وباستثناء أطروحته، لم يكتب محمد أركون كتابا مُقنعا من الناحية النظرية والفكرية. ومثل شعراء المناسبات، هو يكتب بحسب الطلب، ويتنقل من بلد إلى آخر لإلقاء محاضرات ترضي الجميع. وبعد ذلك يجمعها في كتاب. ثم هو يتقلب بين النظريات. فمرة هو بنيوي، ومرة هو يقترب من الماركسية…ومرة يُغازل فلسفة جاك دريدا…
قلت له: معنى ما تقول أن كل ما يُنتجُ من فكر في العالم العربي ليست له قيمة معرفية هامة…
ردّ قائلا: ما يُنتج يدعو إلى الفكر ، إلاّ أن أصحابه لا يفكرون. وتلك هي مُعضلة الفكر العربي في الفترة الراهنة. وأضيف بأن العرب يعطون قيمة كبيرة لأركون وأمثاله لأن هؤلاء يعيشون في الغرب. ولو قرأوهم جيدا لما وجدوا في كتاباتهم ما يمكن أن يُغني العقل والمعرفة…
#المفكر #هشام #جعيط #المثقفون #العرب #كسالى #لا #يتقنون #سوى #المهاترات
تابعوا Tunisactus على Google News