- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

الملامح البارانوية للسلطة التونسية – رصيف 22

- الإعلانات -

يُنظَر إلى الفائض اللغوي المفرط للرئيس التونسي قيس سعيّد على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في بعض وسائل الإعلام الجماهيرية، على أنه آلية يستعملها عن قصد لتقمص حالة معيّنة في سبيل كسب الأنصار أو تقديم صورة محددة عن شخصيته السياسية، إلا أن هذا التفسير يبدو قاصراً إلى حد ما.

فمن ناحية تاريخية كانت تلك دائماً هيئة سعيّد في الكلام: بعربية فصحى ذات نبرة خاصة وولع باستخدام كلمات معيّنة، مثل الشعب والتاريخ والعصر الجديد وغيرها من الألفاظ والتراكيب الدالة على حالات شعورية وعاطفية قصووية. وهي هيئة يعرفها عنه طلبته في كلية الحقوق منذ عقود، وكان معروفاً بها في إطلالاته على وسائل الإعلام قبل صعوده إلى الرئاسة، عندما كان يُقدَّم بوصفه خبيراً دستورياً.

ومن ناحية سياسية، فإن سعيّد شديد القناعة بالنسق اللغوي الذي يتبنّاه بتكرار كبير دون كلل، وصادق مع نفسه بقوة تبدو في ملامحه حين يتكلم، وذلك لجهة الجوهر الخلاصي الذي يحمله نهجه الشعبوي في السلطة.

لا يتعلق الأمر بمجرد سياسي يحاول استعمال خطاب شعبوي، وتسويق خطاب لغته مفرطة كي يستميل بها الشعب إلى صفه، بقدر ما يتعلق برجل مؤمن برساليته وقدرته الذاتية على حلّ جميع المشكلات وبامتلاك تصور للوجود والعالم قادر على حلّ مشاكل البلاد والقارة الإفريقية والإنسانية. فالرئيس يعيش ضمن متخيل مثالي خارج الواقع الموضوعي، وهي حالة ليست نادرة في تاريخ السياسة، بل لها أشباه ونظائر وأدوات تحليل لا تنتمي في جذرها إلى العلوم الاجتماعية والسياسية، بل هي أقرب إلى علم النفس.

قبل حوالي ستة عقود، حاول المؤرخ الأمريكي ريتشارد هوفستايدر أن يضع هذه الحالة تحت مجهر البحث وخرج بمقالة مرجعية رائدة حولها سمّاها “أسلوب البارانويا في السياسة الأمريكية”، تحولت لاحقاً إلى كتاب “أسلوب البارانويا: نظريات المؤامرة واليمين الراديكالي في أمريكا”.

كان هوفستايدر مشغولاً بتحليل السلوك النفسي لقيادات اليمين الأمريكي المتطرف في سياق المكارثية، أي الحملة التي طالت كثيرين في الولايات المتحدة بذريعة مناصرتهم للشيوعية، لكن النتائج التي توصل إليها يمكن أن تشكل أدوات مهمة في مقاربة أوسع لعدد من القادة السياسيين في جميع أنحاء العالم: مجموعة واسعة من الرجال يعتقدون في أنفسهم معتقداً مبالغاً من الثقة والقدرة، ويحركهم خيال تآمري لا يعرف حدوداً، ويسلكون نهجاً سياسياً يقوم على حالة غير منقطعة من الهذاء، باعتباره خطاباً تحريضياً دائماً، ليس مرتبطاً بحالة عابرة كالانتخابات أو الأزمات أو الحرب، ولكنه جوهر الخطاب السياسي اليومي.

يوضح هوفستايدر أنه في استخدامه مصطلح ”البارانويا (جنون الارتياب)” لا يتحدث عن معناه السريري، لكنه يستعير مصطلحاً طبياً لاستعماله كأداة تحليل. ويشير إلى أنه لن يكون لمصطلح “أسلوب البارانويا” أية قوة تحليلية معاصرة أو قيمة تاريخية إذا طُبّق فقط على الرجال ذوي العقول المضطربة، ولكن استخدامه في تحليل السلوك السياسي لأشخاص عاديين هو ما يجعل منه مصطلحاً مهماً.

يذهب هوفستايدر إلى أن العقلية التي تميل إلى رؤية العالم بهذه الطريقة قد تكون ظاهرة نفسية مستمرة، تؤثر بشكل أو بآخر باستمرار على أقلية متواضعة من الناس، لكنها تصبح خطيرة عندما يصعد أحد هؤلاء إلى قمة السلطة.

وبرأيه، قد تؤدي بعض التقاليد الدينية وبعض الهياكل الاجتماعية والمواريث القومية وبعض الكوارث التاريخية أو الإحباطات إلى إطلاق مثل هذه الطاقات النفسية، ودمجها بسهولة في الحركات الجماهيرية أو الأحزاب السياسية.

من الواضح أن الصراع العرقي والديني في التجربة الأمريكية كان هو المحرك الأساسي لهذه الظاهرة، لكن الصراعات الطبقية في بعض الدول الأخرى يمكنها أيضاً تعبئة مثل هذه الطاقات. ربما يكون الحكم المركزي الذي يؤدي إلى انتشار النزعة المذعورة هو مواجهة مصالح متعارضة (أو يُعتقد أنها كذلك) لا يمكن التوفيق بينها تماماً، وبالتالي فهي بطبيعتها غير قابلة للتأثر بالعمليات السياسية العادية للمساومة والتسوية.

لا يبدو ريتشارد هوفستايدر في تحليله بعيداً جداً عن نموذج السلطة اليوم في تونس، نموذج يقوم على شخصنة السلطة وحصرها في يد رئيس يسعى إلى إنتاج حالة من الولاء مستنداً إلى خطاب، ميزته المبالَغة اللغوية، وجوهره الحالة البارانوية.

قبل يومين من عقد ندوة طوكيو الدولية للتنمية في إفريقيا، في العاصمة التونسية، قال سعيد خلال لقاء مع وزير خارجيته إنه “أسدى تعليماته بخصوص عدد من القضايا المطروحة في إفريقيا والعالم كلّه، فضلاً عن المقاربة التونسية المتعلّقة بمعالجة هذه القضايا حتى تخرج القارة الإفريقية والإنسانية من الوضع الذي مرّت به ولا يزال مستمراً حتى وإنْ تغيّرت الوسائل وتغيّر التاريخ”.

“الرئيس التونسي قيس سعيد مؤمن برساليته وقدرته الذاتية على حلّ جميع المشكلات وبامتلاك تصور للوجود والعالم قادر على حلّ مشاكل البلاد والقارة الإفريقية والإنسانية”

خلّف هذا البيان الرئاسي موجة سخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه كشف عن عمق هوس سعيّد وقناعته الراسخة بأنه يملك “الحل النهائي والحاسم” ليس لمشاكل القارة الإفريقية فحسب، بل لكل الإنسانية. وبينما كان الرئيس يقدّم هذه التعليمات لوزيره كان عدد كبير من التونسيين في الشوارع يقفون في طوابير طويلة أمام محطات الوقود بعدما شارف مخزون عدد من المواد الأساسية على النفاذ.

الملمح الأول البارانويي لنموذج السلطة في تونس هو مفارقة الرئيس للواقع. يبدو سعيّد منفصلاً تماماً عن الواقع، ليس لحيلة يريد بها إدامة السيطرة، وإنما لقناعة شخصية عميقة بأنه لا ينتمي إلى هذا الواقع. إنه يعيش في كوكب آخر، كما وصف نفسه في أحد خطاباته. لكنه في الوقت نفسه ذو يقين شديد بأنه قادر على تغيير هذا الواقع. لذلك هو دائم الحديث عن أن البلاد “دخلت مرحلة جديدة من التاريخ”.

ولم ينسَ أن يذكر قادة الدول الإفريقية بذلك، في القمة اليابانية الإفريقية، مشيراً إلى أننا “دخلنا مرحلة جديدة في التاريخ مختلفة عن سابقاتها وكأن القرن 21 بدأ سنة 2022”.

ويبدو هذا البعد الأسطوري للتاريخ حاضراً بقوة في توطئة الدستور الجديد الذي كتبه بنفسه، إذ يشير في مواضع متكررة إلى أن الشعب “حقق صعوداً شاهقاً غير مسبوق في التاريخ”، ويصف انقلابه في 25 تموز/ يوليو 2021 بأنه ينطلق من “موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثورة، بل ومن تصحيح مسار التاريخ”، في نوع من المبالغة غير العقلانية في تقدير الأنا مع كبرياء وغرور مفرطين.

أما الملمح الثاني فهو إدراك الصراع السياسي، من منظور المؤامرة، وبوصفه صراعاً وجودياً بين خير مطلق وشر مطلق، في حالة من حالات وقوف الأنا على حافة قصوى من الخطر. وبصفته قائداً، يرى سعيّد أنه القادر على إدراك المؤامرة قبل أن تتضح تماماً للجمهور غير المهتم. لا يرى الصراع الاجتماعي على أنه شيء يمكن التوسط فيه والتسوية، على طريقة السياسي العادي، بل ينطلق من طبيعة أخلاقية للصراع غير قابلة لأي نوع من التفاوض أو أنصاف الحلول.

وهذه الطبيعة الأخلاقية المتخيلة للصراع تجعل من الخصم عدواً، يجب التخلص منه تماماً. وهنا يدخل الزعيم البارانويي في حقل اللاعقلانية، كما يفسر هوفستايدر، فمن خلال طرح فكرة الانتصار الكامل والنهائي على الخصوم يندفع نحو صياغة أهداف غير واقعية، وبما أن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها، يزيد الفشل باستمرار من الإحساس بجنون الارتياب والإحباط.

وحتى النجاح الجزئي يترك له نفس الشعور بالعجز، وهذا بدوره يعزز توهمه لنوعية هائلة ومرعبة من الأعداء الذين يعارضونه. وكلما زاد منسوب الشعور بالفشل زادت حالة البارانويا تفاقماً على نحو طردي، فلأنه من المستحيل نفسياً على “أنا” القائد أن تعترف بالفشل تتجه نحو الخيال التآمري لتفسير ذلك الفشل.

“بصفته قائداً، يرى الرئيس التونسي قيس سعيّد أنه القادر على إدراك المؤامرة قبل أن تتضح تماماً للجمهور غير المهتم. لا يرى الصراع الاجتماعي على أنه شيء يمكن التوسط فيه والتسوية، بل ينطلق من طبيعة أخلاقية للصراع غير قابلة لأي نوع من أنصاف الحلول”

وهذا الملمح يبدو شديد الوضوح في الحالة التونسية، إذ يبدو واضحاً، حتى لأشد أنصار الرئيس تعصباً، أن حالة الفشل في إدارة الحياة اليومية للسكان تتفاقم يوماً بعد آخر، وتتجلى في نقص تصاعدي في المواد الأساسية والمحروقات واستفحال ظاهرة الهجرة غير النظامية وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى وتضخم غير مسبوق.

ويقابل كل هذا الفشل فائض لغوي شديد التشنج يصدره الرئيس دورياً ويدور حول مؤامرة غير مفهومة تقودها أطراف مجهولة هدفها رفع الأسعار والاحتكار وتجويع الشعب، وقوامه إطلاق الأحكام واللجوء إلى الاستنتاجات شبه المنطقية التي لا يمكن لأي سبب أن يصححها.

هذه الإطلاقية واللامنطقية تكشف أيضاً عن ملمح آخر من ملامح البارانوية في نموذج السلطة التونسية وهو العناد والمكابرة الباديان بوضوح في شخصية الرئيس التونسي التي تتسم بحالة تشنج نفسي دائم يظهر في ملامح وجهه عند الحديث عن الخصوم والمشاكل، وأحياناً في تلعثم طفيف في نسق الكلام الجامد كالصخرة.

والعناد وتمادي سعيّد في مواقف أو حتى تصريحات، ثبت لاحقاً أنها غير صحيحة أو غير موفقة، له شواهد كثيرة، ولكنه يقفز دائماً على الواقع والحقيقة مواصلاً التشبث بما قاله، دون أي تراجع. ورغم أن هذه الصلابة هي نتاج هشاشة داخلية، إلا أنها تبدو مفيدة لسعيّد في عمليات إنتاج الولاء الشعبي، إذ تراها الجموع بمعاني “الثبات والقوة”، وتعتقد أن الرئيس لا يساوم في نهجه السياسي مع خصومه، حتى وإنْ كان مخطئاً. كما تعزز مشاعر الأبوية الآخذة في الشيوع بين سعيّد وأنصاره.

تعطي أبوية سعيّد الصاعدة هامشاً واسعاً من ربط صلات مباشرة مع الشعب بعيداً عن حاجز النخبة، كما يفرضه النموذج الشعبوي للصراع. لكن سعيّد في الوقت نفسه لا يكتفي بنموذج أبوي، بل يسعى إلى نموذج عائلي، تكون فيه الدولة أماً للمجتمع والرئيس أباً له، في محاولة لإعادة إنتاج شكل التنظيم السياسي والاجتماعي الذي كان سائداً في عصر دولة الحزب الواحد مع الحبيب بورقيبة.

فالدولة في هذا النموذج هي الأم الكبيرة، ومعها يطور “المواطنون” علاقة معقدة من التبعية، يمكن مقارنتها بالعلاقة التي يحتفظ بها الأطفال مع أمهم في مرحلة معيّنة من نموهم، علاقة تتكون من طلبات دائمة للاعتراف والحب والحماية والتعويض، كما يصورها المحلل النفسي الفرنسي ميشال شنايدر، في كتابه “الأم الكبيرة: علم النفس المرضي للحياة السياسية”.

لكن شنايدر نفسه يشير إلى قصور نتائج هذا النموذج، لأنه تاريخياً كان دائماً مرتبطاً بسلطة الفرد وقد يؤدي غياب ذلك الفرد إلى حالة من عنف الاقتلاع من الأمومة المؤدية إلى عنف مادي ورمزي داخل المجتمع.

وكذلك، فإن هذا النموذج قاصر كوسيلة للسيطرة على الشعب، إذ يتأسس على حالة إنكار يقوم بها الحاكم لإخفاء المسافة الضرورية عن المحكومين. ويحاول توسيع مجال تدخله إلى ما وراء الحدود العقلانية لتدخل الدولة في شؤون السكان والمجال، لكنه يفشل في النهاية في تلبية جميع متطلبات هؤلاء، وعند ذلك تسقط فكرة مقايضة السلطة بتحقيق إرادة الناس، كما يفترضها شعار “الشعب يريد” الذي يرفعه قيس سعيّد، وفي هذه الحالة يفقد الناس مجالهم الخاص دون تحقيق مقابل لهذا الفقدّ. في حين أن تحقيق الديمقراطية، كما تشير حنة أرندت، يتم بفصل المجال الخاص عن المجال العام.

#الملامح #البارانوية #للسلطة #التونسية #رصيف

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد