بعد بريكست تحديات انتقال بريطانيا من شريك ثانوي إلى رئيسي لمنطقة المغرب العربي
لندن- “القدس العربي”: خرجت بريطانيا رسميا من الاتحاد الأوروبي يوم فاتح كانون الثاني/يناير 2021 بعدما كانت قد انضمت إليه يوم فاتح كانون الثاني/يناير 1973. ويركز المحللون وتتوجه الأنظار إلى نوعية العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لكن لندن لديها مشروع أوسع نحو العالم بحكم قوة اقتصادها والفيتو الذي تتمتع به في مجلس الأمن وتاريخها الذي جعل منها الدولة الأكثر صنعا للقرار العالمي خلال الثلاثة قرون الأخيرة. ومن ضمن المناطق التي يهتم بها البريطانيون وتثير توجس بعض الدول الأوروبية هي منطقة المغرب العربي-الأمازيغي وخاصة المغرب والجزائر.
وتعتبر علاقة بريطانيا بشمال أفريقيا ومنها المغرب غريبة من الناحية التاريخية، إذ اعتادت الدول الكبرى عند عملية التوسع السيطرة على الدول والمناطق المجاورة، حيث تنتهز فترات الضعف التاريخي وتستعمر جيرانها الأقربين أو تفرض عليهم شروطا. وعندما بدأت بريطانيا بالتفكير في التجارة العالمية، قامت بإنشاء أول شركة دولية لها باسم “باربري كومباني” سنة 1585 إبان حكم إليزابيث الأولى للتبادل التجاري مع المغرب، وقامت الملكة بتعيين وزيرها روبير مقيما في المغرب وقتها، لتطوير العلاقات الثنائية.
ولم تتطور تلك العلاقات رغم الخطوة البريطانية ويعود هذا إلى عوامل تاريخية، ومنها انشغال بريطانيا أكثر بمستعمراتها الجديدة في القارة الأمريكية الغنية بالموارد وبدون مقاومة. ثم تركيز المغرب على التوسع نحو الجنوب والتوجس من القوى الأوروبية التي بدأت وقتها في استعمار عدد من نقاط شاطئية مغربية من طرف اسبانيا والبرتغال. وسبقت هذا التاريخ، تأسيس “باربري كومباني” محاولات بريطانيا لاستمالة المغرب لسياستها، ولو حدث وقبل المغرب بعروض لندن لكان جزءا من التاريخ الأوروبي قد تغير نسبيا. ومن ضمن هذه المحاولات، كان ملك بريطانيا جون قد طلب سنة 1212 من السلطان المغربي محمد ناصر من السلالة الموحدية، المساعدة العسكرية لمواجهة ومحاصرة فرنسا، كما طلب ملوك بريطانيون المساعدة المغربية لمحاصرة إسبانيا في القرنين 14 و15. وتريث السلاطين المغاربة في الانفتاح على البريطانيين وقتها خوفا من انعكاسات سلبية لأي عملية تحالف مثل الانتقام الإسباني، خاصة وأن اسبانيا كانت وقتها ضمن قوة عالمية.
أول شركة بريطانية للتجارة الخارجية في تاريخ بريطانيا كانت للتبادل مع المغرب ولم تتطور العلاقات
ويمكن استخلاص من معطيات التاريخ أن بريطانيا حرصت حرصا شديدا على عدم سقوط المغرب مبكرا في الاستعمار الأوروبي بحكم أهمية مضيق جبل طارق كممر بحري لاسيما بعدما سيطرت على صخرة جبل طارق. ولولا مصادقة بريطانيا على استعمار فرنسا للمغرب لما سقط المغرب تحت الاستعمار، وكان من ضمن شروط لندن تسليم شمال المغرب لإسبانيا حتى لا تتحكم باريس في مضيق جبل طارق.
فشل بعد استقلال الدول المغاربية
كان الاعتقاد يسود بعد تحرر الدول التي خضعت للاستعمار من هيمنة القوى الاستعمارية، وفي هذه الحالة المغرب والجزائر وتونس ولاحقا موريتانيا تطويرها العلاقات مع دول أوروبية لم تستعمرها مثل ألمانيا وبريطانيا بدل فرنسا. ولم يحدث هذا التطور، ورغم مشاعر العداء وبروز الجفاء بين الحين والآخر، بقيت دول شمال أفريقيا مرتبطة أشد الارتباط بفرنسا باستثناء ليبيا التي لم تخضع للاستعمار الفرنسي بل الإيطالي وحاول رئيسها معمر القذافي بناء علاقات دولية مع المعسكر الاشتراكي. هذا الارتباط التاريخي للمغرب العربي بالقوة الاستعمارية السابقة، جعل لندن تعتقد دائما في ضرورة احترام منطقة نفوذ فرنسا. وكانت القوى الكبرى تحترم هذه القاعدة التي تدخل بشكل غير مباشر ضمن تصورات “قمة يالطا” نهاية الحرب العالمية الثانية.
من العولمة إلى بريكست
وبعد العولمة، ساد الاعتقاد مرة ثانية باحتمال توجه دول المغربي العربي إلى تنويع شركائها الاقتصاديين، وبقيت الغلبة لفرنسا مع بدء مزاحمة دول أخرى لها مثل اسبانيا وإيطاليا والصين ولم تكن منهم بريطانيا التي بقيت تحتل مركزا ثانويا كشريك دون الانتقال إلى شريك رئيسي.
والآن، تمر بريطانيا من مرحلة جديدة في تاريخها: الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ولعل التعريف الأقرب إلى الواقع لبريكست هو “تحرر بريطانيا في صنع قرارها الوطني والدولي من القيود الأوروبية”. ويترجم هذا عمليا في حالة الدبلوماسية نهج سياسة خارجية متحررة من الاتفاقيات التي يوقعها الاتحاد الأوروبي مع هذه الدول. في هذا الصدد، تفيد الاستراتيجية الدبلوماسية البريطانية باهتمام كبير بتقوية العلاقات مع دول الكومنولث، وصياغة علاقات جديدة مع الشركاء الأوروبيين، وتطوير العلاقات مع دول رئيسية بقيت العلاقات معها طيلة عقود غير مقنعة.
وفي هذا الصنف الأخير تدخل منطقة المغرب العربي، وتفتقد بريطانيا لثلاثة عناصر أساسية لتحقيق انفتاح حقيقي على جيرانها غير الأوروبيين الواقعين في الجنوب وهي: العنصر البشري وضعف لغة التواصل بما فيه الثقافي ثم ضعف العلاقات السياسية. ويلعب العنصر البشري دورا رئيسيا في تطور العلاقات الثنائية، فقد تصدرت فرنسا المبادلات التجارية والاستثمارية مع دول المغرب العربي بفضل تبادل بشري قوي منذ عقود يتجلى في الهجرة بمعنى الإقامة وبعثات الطلبة ثم السياحة. وتعد بريطانيا على رأس الدول الأوروبية الكبرى التي بها جالية مغاربية ضعيفة العدد بأقل من عشر مرات مقارنة مع فرنسا وإيطاليا واسبانيا وألمانيا بل وحتى دول ذات كثافة سكانية محدودة مثل هولندا وبلجيكا. ولعل المثير هو أن ارتفاع الجالية المغاربية في بريطانيا خلال العشر سنوات الأخيرة مرده هجرة المغاربيين الذين يحملون جنسية أوروبية إلى بريطانيا.
ويتجلى العنصر الثاني في ضعف التبادل الثقافي وعلى رأسه الطلابي. إذ لا يعقل أن دولة ذات قوة ثقافية كبيرة مثل بريطانيا والشهيرة بجامعاتها لا تستقطب الطلاب المغاربيين، إذ لا تتوفر بعض الجامعات البريطانية الكبرى والمتوسطة على أي طالب من هذه المنطقة، وأغلبية الطلبة المغاربيين في الجامعات الأوروبية هم من أبناء مهاجري أوروبا القادمين من فرنسا وإيطاليا واسبانيا ومؤخرا من المغاربيين الذين يقيمون في دول الخليج. ويعود هذا إلى ضعف اللغة الإنكليزية في منطقة المغرب العربي رغم مساعي دول المنطقة في الرفع منها لتصبح منافسة للفرنسية، وعدم انفتاح الجامعة البريطانية على هذه المنطقة.
بينما العنصر الثالث هو ضعف العلاقات الدبلوماسية والاستثمارات البريطانية. ومن المفارقات أنه خلال عشرين سنة الأخيرة، لم يقم أي رئيس حكومة بريطانية بزيارة إلى المغرب رغم القرب الجغرافي ونظام البلدين الذي هو ملكية. وقام رئيس حكومة واحد بزيارة الجزائر طيلة الستين سنة الأخيرة وكان هو ديفيد كاميرون سنة 2013 ثم زيارة واحدة لتونس بسبب العملية الإرهابية التي استهدفت البريطانيين منذ سنوات. وتعد الجزائر الدولة المغاربية التي راهنت كثيرا على بريطانيا منذ سنة 2000 ومنها زيارة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى لندن سنة 2006 وتعمل على تحويل الإنكليزية إلى لغة رئيسية إلى جانب الفرنسية.
ويوجد عنصر هام لصالح بريطانيا في تطوير علاقاتها مع المنطقة وهو عدم وجود حزازات تاريخية بينهما وبين المغرب المعربي لأنها لم تكن قوة استعمارية باستثناء استعمارها لمدينة طنجة لفترة محددة في القرن السابع عشر، عكس العلاقات المتوترة بين الجزائر والمغرب مع فرنسا واسبانيا.
هل بريكست المنعطف؟
بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، أعلنت بريطانيا الاهتمام بمنطقة المغرب العربي وبدء تنفيذ خطوات منها تعزيز الغرف التجارية في دول المنطقة وفتح مدارس حكومية تابعة لها مثل حالة المغرب، وتحسيس المستثمرين البريطانيين بأهمية هذه المنطقة، باستثناء أوروبا، الأقرب إلى بريطانيا ولكن الأبعد ثقافيا واقتصاديا. وقد يترجم هذا المجهود خلال السنوات المقبلة إلى نتائج ملموسة. وبدأت فرنسا واسبانيا تراقب الاهتمام البريطاني بالمنطقة، إذ تدرك باريس أن اهتمامها بأفريقيا الأنكلوسكسونية سيقابله اهتمام لندن بأفريقيا الفرنكفونية وعلى رأسها المغرب العربي.
وكل المؤشرات تدل على حاجة لندن إلى ثلاثة عقود على الأقل لتطوير علاقات قوية مع المغرب العربي لكي تنتقل من شريك ثانوي إلى شريك رئيسي. وكل هذا شريطة الاهتمام بالعنصر البشري مثل الرفع من نسبة المهاجرين والطلبة، إذ أظهرت التجارب التاريخية أن العنصر البشري هو ركيزة كل علاقة استراتيجية. والنجاح سيترجم في قيمة المبادلات التجارية والاستثمارات والزيارات الدبلوماسية ونسبة الطلبة المغاربيين المتخرجين من الجامعات البريطانية.
صرح رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2012 في حي المال والأعمال أنه توجد دول وأسواق لم تحظ بعد باهتمامنا الكبير ويجب الانفتاح والاهتمام بها منها المغرب والجزائر وتونس. وبعد ذلك الخطاب منذ ثمان سنوات لم تتجاوز المبادلات مع كل دولة ملياري يورو بحوالي خمس التبادل مع دول أخرى مثل اسبانيا وفرنسا، لأن لندن لم تقم بخطوات تستحق الذكر والتنويه. فهل يا ترى ستكون بعد بريكست جادة في تطوير العلاقات مع المنطقة؟