بوحديبة: إحياء ثقافة الجنسانية والعطر في الإسلام
منذ 32 دقيقة
حجم الخط
فقدت تونس أخيرا بعضا من خيرة أبنائها وبناتها من أمثال المطربة الراقية السيدة نعمة والمناضل الشريف جلبار نقاش. كما رزئت، في شبه دفعة واحدة، في ثلاثة من أبرز أعلامها في علم الاجتماع: الأساتذة عبد الوهاب بوحديبة، ومنصف وناس ومنصر الرويسي. ومعروف أن لتونس تجربة معتبرة في البحوث الاجتماعية منذ زمن الجامعيين الروّاد من أمثال الأساتذة نور الدين صريّب، ورضا بوكراع، وفرج سطمبولي وخليل الزميطي. على أن المشهود به أن الأستاذ بوحديبة هو المجلّي والمؤصّل. معرفيا: عبر نشر عشرات الدراسات الشاملة لطيف واسع من المباحث. وإداريا: عبر قيادة مؤسسات مثل قسم علم الاجتماع في كلية 9 أبريل، ومركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية (سراس) ومجمع «بيت الحكمة».لم يكتب الأستاذ بوحديبة سيرته الذاتية، ولكنك واجد أهم الإنارات المتعلقة بالمؤثرات التكوينية في شخصيته الفكرية في كتاب المحاورات التي أجرتها معه «على شاطىء البحر» الباحثة الإيطالية ليديا تارانتيني، تماما كما أن كلود لفي-ستروس لم يكتب سيرته الذاتية ولكنه بث تفاصيل دالّة بشأنها في كتاب المحاورات التي أجراها معه الصحافي ديدييه أريبون. كان بوحديبة متنسّكا للعلم منقطعا للبحث، حيث ظلت دراساته تصدر بوتيرة لافتة على مدى العقود، بلوغا إلى كتابات السنوات الأخيرة، مثل: «المخيال المغاربي» و«الإنسان في الإسلام» و«على خطى ابن خلدون» و«الإسلام: انفتاح وتجاوز» و«ثقافة العطر في الإسلام» الذي أعدّه شخصيا مسك الختام في عمره الفكري لأنه رائعة من روائع البحث الأنثروبولوجي. إلا أن اسمه قد اقترن بكتاب «الجنسانية في الإسلام» الصادر في باريس عام 1975 والمترجم إلى عدة لغات، حيث أنه لا يكاد يعرف لدى الجمهور القارئ عربيا وغربيا إلا به، مع أنه أطروحة جامعية في الأساس. وقد روى ابن القيروان أن المفكر والمحلل النفسي الشهير جاك لاكان، الذي كان في لجنة المناقشة، قال له: لست أنت من كتب «هذا» وإنما الذي كتبه هو مجتمعك بثقافته ومخياله قبل أن يخطّه.. بيمينك!
كان بوحديبة متنسّكا للعلم منقطعا للبحث، حيث ظلت دراساته تصدر بوتيرة لافتة على مدى العقود، بلوغا إلى كتابات السنوات الأخيرة، مثل: «المخيال المغاربي» و«الإنسان في الإسلام» و«على خطى ابن خلدون»
كانت أستاذتي الفاضلة علياء سكيك أول من وجهني إلى «الجنسانية في الإسلام» فأثمرت قراءته فتحا على أفق جديد. ذلك أنه قد سبق لي أن أعجبت ببوحديبة، فكرا وأسلوبا، منذ أن قرأت له نص تحليل أنثروبولوجي لظاهرة السياحة، باعتبارها «إحدى سلوكيات مجتمعات التبذير داخل مجتمعات الحرمان» وعددا من النصوص التي كان يفتتح بها ندوات «سراس» الفكرية التي كانت مداخلاتها تجمع في كتب، مثل «الشخصية القومية العربية بين الوحدة والتنوع» (1979) و«العرب أمام مصيرهم» (1980). وكلها نماذج في التركيز والنفاذ إلى الجوهر، مثل قوله في تلخيص الوضع العربي آنذاك: «الضمير غير مطمئن والشباب متنكر والعدو ساخر بنا» (فماذا عساه يقول اليوم وقد انطفأت دنيا العرب إلا من الظلم والظلام؟). ولكم سررت لمّا عثرت قبل سنتين على كتاب يضم أعمال ندوة في بيت الحكمة بعنوان «أضواء على الثقافة الصينية» (2009) صدّر فيه بوحديبة لمداخلات المفكرين الصينيين بنص موجز أكد فيه حرصه على وجوب الحوار المباشر بين حضارتينا دون وساطة «الخبراء» الغربيين.كانت أبحاث بوحديبة الأولى تتعلق بالجريمة والتغيرات الاجتماعية (1965) ومقومات التصنيع (1968) في تونس. إلا أني قد وجدت له نصا غير معروف نشره ضمن الملف الذي أفردته شهرية «لوموند دبلوماتيك» لدولة تونس الفتيّة في أيار/مايو 1969 (وكان جميع الكتّاب فيه من الفرنسيين، باستثناء ثلاثة: بوحديبة، ونور الدين صريّب، وحبيب بورقيبة الابن) بعنوان «التديّن يتعرض لتحولات عميقة في تونس». أهمية هذا النص بالنسبة لي هو أني كنت أظن أن هشام جعيّط هو أول من انتبه، في كتابه «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» (1974) إلى نجاح المدّ التحديثي التسلّطي، الذي فرضته دولة الاستقلال على المجتمع فرضا، في إلغاء سلوكيات التدين من حياة المواطن التونسي، بلوغا في بعض الحالات إلى زعزعة الوازع الإيماني أصلا. وهذه مسألة لاحظت في محادثاتي مع بعض الباحثين المهتمين بإشكالات العلمنة، في مواجهة «الأسلمة» الاجتماعية، أنها لا تكاد تدخل في حسبانهم. إلا أن الحقيقة أن الأستاذ بوحديبة هو الذي بكّر بتناول الظاهرة منذ دراسته الموسومة بـ«محاولة لنمذجة الإسلام المغاربي» (1967) كما أنه عاد لمعالجتها بمنظور عالمي في «رسالة الأديان في العصر الحديث» (1974).وبعد، فالأستاذ بوحديبة ليس باحثا عميق المعرفة فحسب، بل إنه كاتب ذو أسلوب جميل صقيل. تقرأه طلبا لجودة الفكر فتدمنه رغبة في لذة النص. تغمده الله بواسع رحمته.
كاتب تونسي