بين تهديد ونسف حرية التعبير والصحافة الجدل يتصاعد في تونس بشأن المرسوم 54
تونس ـ «القدس العربي»: أثار المرسوم الجديد الصادر عن رئيس الجمهورية في تونس تحت عدد 54 لسنة 2022 والمؤرخ في 13 ايلول/سبتمبر 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، انتقادات واسعة من قبل عديد الأطراف خصوصا تلك التي عرفت بنضالها الحقوقي في مختلف العهود. وذلك بالنظر إلى أسباب عديدة من بينها الغموض في الأفعال المجرمة صلبه وكثرة العبارات الفضفاضة التي تفتح الباب على مصراعيه لتجريم أعداد لا تحصى من الأفعال وتجعل يد القضاء وأجهزة الأمن هي الطولى على حساب الحقوق والحريات.
كما بدى للكثيرين أن هذا المرسوم يتعارض بشكل واضح وصريح مع الدستور التونسي الجديد الذي كتب بإشراف رئيس الجمهورية نفسه الذي أصدر هذا المرسوم، وخصوصا الفصول 37 و38 و55. ويتعارض أيضا هذا النص الصادم للكثيرين مع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المصادق عليه من قبل الجمهورية التونسية والملزم لها والذي يعتبر أرفع منزلة من المراسيم في الهرم القانوني.
ولعل من المآخذ على هذا المرسوم المثير للجدل هو تضمنه لعقوبات شديدة وصارمة حتى لأفعال لا تستحق كل تلك الصرامة والتشدد. فمقدار العقوبة يكون بحجم الضرر الذي يسببه الفعل المجرم، وفي التشريع الجديد شملت العقوبة ذاتها أفعالا ضررها شديد، وأفعالا ضررها محدود بدون تمييز بينهما. وتتجلى الصرامة أيضا في إقرار عقوبة سجنية لجرائم لا تستحق هذه العقوبة على غرار جريمة الثلب وأيضا في مضاعفة العقوبة إذا تعلق الأمر بموظف عمومي أو مسؤول حكومي.
ومن المآخذ على هذا المرسوم أيضا أنه استهدف المعطيات الشخصية للأفراد من خلال تمكين الأجهزة الأمنية من حق طلب البيانات المعلوماتية المخزنة بنظام أو حامل معلوماتي أو المتعلّقة بحركة اتصالات أو بمستعمليها أو غيرها من البيانات التي من شأنها أن تساعد على كشف الحقيقة. وبحجز كامل نظام معلومات أو جزء منه أو حامل معلوماتي، بما في ذلك البيانات المخزنة به والتي من شأنها أن تساعد على كشف الحقيقة. وقد ورد ذلك بالفصل 9 من المرسوم المشار إليه والذي يرى طيف واسع أنه يهدد حق الصحافي في التكتم على مصادره والذي نص عليه الفصل 11 من المرسوم عدد 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر والذي يفرض وجود إذن قضائي للإطلاع على مصدر معلومات الصحافي.
انتقادات
لقد أدانت هذا المرسوم عديد المنظمات الحقوقية في تونس على غرار النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتحاد التونسي للإعلام الجمعياتي. وكذلك جمعية أصوات نساء والجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية والجمعية التونسية من أجل الحقوق والحريات والائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام والاتحاد الدولي للصحافيين ومراسلون بلا حدود ومحامون بلا حدود والفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية ومنظمة دعم الإعلام العالمي. واعتبرت هذه المنظمات الحقوقية الموقعة أن هذا المرسوم هو استهداف لحرية التعبير والصحافة، ودعت ساكن قرطاج إلى سحبه فورا ملوحة بعزمها إبلاغ المقرر الخاص المعني بحرية التعبير والرأي بخطورة هذا المرسوم.
واعتبرت المنظمات المشار إليها أن هذا المرسوم تضمن قيودا غير مسبوقة سترهب الصحافيين والمواطنين على حد سواء وتجعلهم لا يبدون مواقف تجاه موظفي الدولة والسياسيين. وبالتالي لا بد، حسب هذه المنظمات، من تنظيم مشاورات مع المجتمع المدني لإعداد تشريعات جديدة تتناول جرائم الإنترنت وتضمن احترام حقوق الإنسان الأساسية والحريات للجميع في تونس. وحسب هذه المنظمات فإن مسار المصادقة على هذا النص القانوني اتسم بالتعتيم والغموض الكبيرين، وحسب ما جاء في بيانها فقد «تم نشر نسخة مسربة من نص مشروع قانون مكافحة الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال لأول مرة في شهر آب/أغسطس من سنة 2015 على موقع إلكتروني دون أن تؤكد أي جهة رسمية تبنيها له، وفي الأول من شهر آيار/مايو من سنة 2018 صادق مجلس الوزراء على مشروع قانون مكافحة الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال دون أي تشريك لمنظمات المجتمع المدني، واستمر التعتيم على هذا الأمر أربع سنوات إلى حدود صدور المرسوم عدد 54 في 13 أيلول/سبتمبر 2022 بعد قرابة ثلاثة أشهر من تاريخ التداول فيه في مجلس الوزراء المنعقد في 27 حزيران/يونيو 2022».
نسف المكتسبات
اعتبرت أميرة محمد نائب رئيس نقابة الصحافيين التونسيين في حديثها لـ«القدس العربي» ان المرسوم عدد 54 الصادر مؤخرا ينسف كل مكتسبات حرية التعبير في تونس ويمثل خطرا حقيقيا وسيفا مسلطا على رقاب الصحافيين. وتشير محمد إلى أن هذا المرسوم إلى جانب كونه ينتهك المعطيات الشخصية للمواطن التونسي بصفة عامة وللصحافيين في مراسلاتهم، هو أيضا يضرب حق عدم الكشف عن المصادر.
وتضيف محدثتنا قائلة: «أن المرسوم كان عاما ولم يقم بأية إحالة أو إشارة للقوانين المنظمّة لمهنة الصحافة كالمرسوم 115 وتعرض لقوانين زجرية أخرى. في حين لم يذكر ولم يستثن الصحافيين، ولم يذكر ان يتم تتبع الصحافيين بناء على القوانين المنظمّة لمهنة الصحافة. وكذلك المرسوم جاءت فيه عبارات فضفاضة يمكن تأويلها كما تريد السلطة، سواء السلطة التنفيذية أو القضائية مثل عبارات المسّ بالأمن العام وبثّ الرعب بين الناس، وهي عبارات استعملها نظام بن علي في السابق للتنكيل بمعارضيه ولإسكات الصحافيين».
أما بالنسبة للأخبار الزائفة توضح محدثتنا قائلة: «بالنسبة لمهنة الصحافة وحسب القوانين المنظمّة لها، هناك حق الرد والتوضيح ولكن هذا المرسوم لا يعطي حتى للصحافيين امكانية تصحيح الخطأ إذا وقعوا فيه، لان لا أحد معصوم من الخطأ. أما بالنسبة لترويج الأخبار الزائفة نجد ان أكبر جهة متسببة في ترويج الأخبار الزائفة هي السلطة في حد ذاتها بسبب المرسوم عدد 19 الذي يضرب حق النفاذ إلى المعلومة بحيث يتم التعتيم على الأخبار ويضع عراقيل أمام حق النفاذ إلى المعلومة». وتؤكد محدثتنا ان «السلطة لا تتفاعل إيجابيا مع الصحافيين حيث لا وجود لناطق رسمي أو مستشار إعلامي في رئاسة الجمهورية وهذا يغذي الأخبار الزائفة ويكرّس انتشارها ولا يمكن للصحافي ان يتثبت من مدى صحة ما هو متداول».
أما بالنسبة لحرية التعبير فقالت محدثتنا بأن هذه الحرية كانت طوال العشر سنوات الماضية مهددة وانها اليوم مهددة أكثر بكثير خاصة من خلال الاعتداءات المتكررة على الصحافيين وملاحقتهم بناء على قوانين لا تنظمّ المهنة مثل قانون مكافحة الإرهاب ومجلة الاتصالات وغيرها. وتضيف: «المنشور عدد 19 هو أحد أهم مؤشرات الانتكاسة ويضرب حق المواطن في المعلومة إضافة إلى السياسة الانتقائية التي تتبعها السلطة حيث تتم دعوة بعض الصحافيين خصوصا من الإعلام العمومي واستثناء صحافيي الإعلام الخاص أو مراسلي القنوات الأجنبية من التغطية».
كذلك هناك تعامل سلبي من قبل الإدارة الجهوية والمركزية مع الصحافيين مع كل طلب للحصول على معلومة. وتضاف إلى ذلك القوانين التي تنزل فجأة من دون أي تشاور والمراسيم التي تهدد حرية التعبير. وتضيف: «إلى حد اليوم ما زلنا لا نعرف ما هو البديل الذي وضعه رئيس الجمهورية عندما ألغى الهايكا من الدستور. فهو لم يفتح نقاشا رغم ان لدينا كنقابة صحافيين اقتراحات ضمن القوانين المنظمة للمهنة ولكن رئاسة الجمهورية لا تتفاعل إيجابيا مع كل الاقتراحات». وتعتبر محدثتنا ان من التهديدات الأخرى لحرية الإعلام هو إطلاق اليد الأمنية في التعامل مع الصحافيين، و«في كل شهر يصدر تقرير يرصد الاعتداءات المتكررة. وتوجد دائما في صدارة المعتدين وزارة الداخلية سواء من خلال الاعتداء بالعنف أو المنع من العمل وهي اعتداءات متكررة يوميا».
غموض كبير
وفي هذا الإطار تعتبر الناشطة الحقوقية التونسية آمنة الشابي في حديثها لـ«القدس العربي» ان هذا المرسوم يتعارض مع المعايير الدولية المتعلقة بحرية التعبير، باعتباره قد جرم عدة أفعال بصورة يشوبها الكثير من الغموض من خلال مصطلحات عامة يمكن أن يؤولها الراغب في قمع الحريات مثلما يشاء وكما يحلو له للانتقام من هذا الطرف أو ذاك. فالنص القانوني في المادة الجزائية، وحسب محدثتنا يجب أن يكون دقيقا يوضح الأفعال المجرمة بالتفصيل ويعرف المصطلحات بدقة حتى لا يتم منح السلطة التقديرية للأجهزة الأمنية والقضائية لملاحقة من تشاء ومن ترغب في تصفية الحسابات معه من المواطنين والصحافيين.
وتضيف الشابي قائلة: «إن الدقة في الصياغة تمكن المواطن أيضا من معرفة ما له وما عليه فيتجنب ارتكاب الأفعال المجرمة المنصوص عليها بدقة، بينما يترك النص غامض الصياغة على غرار هذا المنشور، الباب مفتوحا لكل التأويلات فيحصل التعسف والقمع، وتتم ملاحقة الصحافيين من أجل نشر أخبار صحيحة تبدو للحاكم أنها تمس بالأمن العام في حين أنها لا تمس بالأمن العام في نظر غيره. والجهة الوحيدة المخولة لتعريف هذه المفاهيم المبهمة هي السلطة التشريعية التي هي اليوم بيد ساكن قرطاج بعد حل البرلمان، لكنه أصدر مرسومه بطريقة تفتقد إلى الدقة وبالتالي فمن غير المستغرب أن تشهد الفترة المقبلة ملاحقات بالجملة لصحافيين أو مواطنين أو مدونين لمجرد أنهم نشروا خبرا لا يروق لجهة ما فيتم وضع هذا الفعل تحت واحد من المفاهيم الغامضة التي وردت في هذا المرسوم.
فالأمر أخطر مما يتصور البعض خاصة وأن أجهزة الدولة لم يتم تطهيرها وإعادة بنائها على أسس متينة وسليمة تتناسب مع المعايير الدولية، واستقلالية القضاء ما زالت مطمحا لم يتحقق بعد في تونس وبالتالي فإن حيف مؤسسات الدولة باتجاه قمع حرية التعبير والصحافة استنادا إلى هذا المرسوم هو الأرجح في دولة بات فيها الإيقاف التحفظي للمشتبه فيه هو الأساس والحرية هي الإستثناء في حين أن العكس هو الذي يجب أن يكون. لذلك يستغرب المرء كيف يمكن إصدار مثل هكذا مرسوم في بلد مثل تونس ما زالت مؤسساته لم تتعاف بعد وما زال ميلها إلى قمع الحريات هو الأساس، وتقع في محيط إقليمي سمة دوله الأساسية هي الاستبداد والتعدي على حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة وتصنف دوله باستمرار في ذيل المؤشرات العالمية المتعلقة بحرية التعبير والصحافة.
من الأفضل إذن أن يقوم رئيس الجمهورية بسحب هذا المرسوم أو المطالبة بإلغائه بعد تشكيل المحكمة الدستورية العليا باعتباره يتعارض مع ما جاء في الدستور ثم القيام لاحقا وبعد انتخاب البرلمان الجديد بسن قانون واضح المعالم يعرف المصطلحات بدقة ويتلاءم مع المعايير الدولية، لأنه لا يمكن إنكار أن هناك من يبث أخبارا زائفة ولا يريد الخير لتونس ويسعى إلى تشويهها في الخارج والمس من صورتها سواء من التونسيين أو من مواطني بلدان شقيقة وصديقة مستغلين وسائل الإتصال الحديثة، ولا يمكن السكوت على هؤلاء لكن في إطار القانون وحتى لا يذهب صحافيون وطنيون همهم إبراز الفساد والإصلاح ضحية لمرسوم وضع من أجل ملاحقة غيرهم ممن لا يريدون الخير لهذا الوطن».
#بين #تهديد #ونسف #حرية #التعبير #والصحافة #الجدل #يتصاعد #في #تونس #بشأن #المرسوم
تابعوا Tunisactus على Google News