تونس بعد قيس سعيد؟
نعم وجب القول إن هناك سياسة بعد الانقلاب وأن تونس باقية بعد قيس سعيد فلقد عزل الرجل نفسه ولم يبق معه في أوهامه إلا مكابر أو طامع في مغنم سريع. إن ملامح تونس القادمة تنكشف للتحليل والتوقع السياسي بعد ستين يوما فقط من الإيهام بمشروع تأسيس سياسي جديد لم يتقدم فيه خطوة واحدة. لقد استهلك الرئيس كل رصيده وكشف عن محدودية في التفكير وقصور في الخيال السياسي ولا أحد من ذوي العقل والحكمة كان يتوقع أن الرجل بهذه الضحالة الفكرية.
كيف تكون تونس بعد الانقلاب الفاشل؟ هناك احتمالان كبيران متناقضان في ضوء الوقائع الجارية منذ الانقلاب وتتداخل أسبابهما مع ما قبله. لكنهما يتفقان رغم ذلك في نية الحفاظ على الدولة.
منظومة بن علي قد تستعيد الدولة؟
هذا الاحتمال الذي نضعه في المقدمة. فلهذه المنظومة أذرع وسيقان وهي تملك المال والقدرة على شراء الذمم وإثارة كل أشكال الفوضى والتخريب من وراء ستر الخطاب الوطني نفسه. ومن علامات قوتها انها أرعبت الرئيس عندما اقترب من منظومات الفساد فصرف جهده الخطابي (وليس له غير ذلك) إلى اختلاق قضايا ومشاريع سياسية لا تمس هذه الطبقة ولا أموالها ولا مواقعها فجعلت من شعارته الطهورية هباء منثورا في أقل مما توقع أو خطط ولكن من علامات قوتها أيضا أنها تحكمت بوسائل مختلفة في منظومة الحكم قبل 25 فأفشلت كل مسعى جدي في بناء دولة جديدة على شعارات ثورة 17-14 السلمية.
هذه المنظومة لا تزال تتحكم في أدق تفاصيل الحياة السياسة حتى أن النقد (العقلاني) لما قبل 25-07 لا يزال نقدا منحرفا عن الصواب فعندما يحصر هذا النقد كل أسباب فشل منظومة الحكم بعد الثورة في وجود حزب النهضة الإسلامي ضمن منظومات الحكم فإنه يقوم بتحريف النظر عن أدواته الحقيقية التي أفشلت كل الحكومات وأهم أدواته النقابة الفاعلة والتي لا يطالها أي نقد أو تلميح.
إننا لم نقرأ أبدا جملة تقييمية لهذه المرحلة مثل القول (هناك أطراف كثيرة ساهمت في الفشل وهذه حقيقة) بل نقرأ جملة واحدة تتخذ صيغا مختلفة هناك فشل متعدد الوجوه سببه فقط مشاركة النهضة في الحكم. ونسجل هذا في قوة منظومة حكم بن علي وإعلامه التي تكيف الرأي العام بقوة لم يمكن حتى الآن كسرها.
ونرى هذه المنظومة تستعد (بل لقد بدأت) لكتابة جملة أخرى في نفس الخط (الخراب الذي أحدثه قيس سعيد سببه مشاركة النهضة في الحكم) وهي الجملة التي سيبنى عليها إقصاء النهضة من مشاركة ولو ضعيفة في ما بعد قيس سعيد. وفي هذا الإقصاء عودة إلى ما قبل الثورة عبر استدامة الصراع الأيديولوجي وتمويله وهو المناخ الذي انتعشت فيه منظومة الفساد وراكمت به القوة والثروة وبه ستتحكم في المستقبل القريب والبعيد.
هل تخرج الأزمات قيادة جديدة لما بعد الانقلاب؟
الجمل السياسية المتفائلة تروج الآن وخاصة بعد تحرك 18 -09 لبروز هذه القيادة مع جمل استدراك كثيرة نعم توجد قيادة لكنها مشتتة بعد أو تغلب عليها الزعامات ويكتب البعض مادام ليس هناك زعامات فسيكون خيرا بينما يشاركهم في تفاؤلهم آخرون يقولون مادامت ليست هناك زعامة فالأمر لن يتقدم بل سيفشل. وهذا التناقض في تصور أهمية القيادة ودورها علامة فشل داخل هذا الاحتمال.
إن الذين يحشدون الآن لما بعد الانقلاب يشتركون مع منظومة الانقلاب نفسها في تصور المستقبل دون إسلاميين. فهم على موقفهم القديم الذي عاشوا به وساهموا به في محاربة مرحلة السنوات العشر من الثورة إلى الانقلاب. وعدم حسم الموقف الفكري والسياسي من الإسلاميين كمكون ديمقراطي سيكون بوابة لفشل ما بعد الانقلاب. بما يقوى الاحتمال الأول أي عودة المنظومة إلى السيطرة عبر خلق الصراعات البينية بين معارضيها.
لقد اجتمعت قيادات حزبية مع النقابة يوم 21 سبتمبر وتحدثت كمالكة حصرية للديمقراطية ونحن كنا نشاهدها جميعها ولمدة شهري الانقلاب تراود الرئيس وتبحث عن موقع بجانبه فلما لم تنل عنده حظوة تراجعت إلى الحديث باسم الديمقراطية. وهذا حديث يذكرنا بخطاب هذه الشخصيات والأحزاب زمن بن علي حيث العمل مع بن علي أفضل من العمل مع الإسلاميين. لذلك لا نستبعد أن حديث الديمقراطية يندرج ضمن مراودة الرئيس من موقع التهديد بالمعارضة.
نعم يوجد شباب يتحرك خارج هذه الأحزاب ولكن ملامحه السياسة غير واضحة. وهو ما يذكر بتحركات مماثلة حدثت قبل 25-07 انكشفت بعد وقت وجيز أنها أذرع سياسة تلبس قمصان الحياد الرمادي عن الأحزاب والانتماء للثورة.
نعم توجد شخصيات فكرية ومثقفين شاركوا في حراك 18 لكنهم شتات نرجسي كان موجودا قبل الانقلاب وفشل فشلا ذريعا في تنسيق موقف سياسي موحد وبقي في منزلة الشعراء الهائمين.
كل هذا العناصر تتجمع لتقدم صورة للوضع المتوقع ما بعد قيس سعيد: منظومة متماسكة تستعد للمرحلة القادمة في مواجهة شتات حالم بالديمقراطية والحرية دون خطة عمل تؤسس مشروعا جديدا ويمكن تخترقه بسهولة زعامات سياسية انتهازية تتستر بخطاب الثورة ولا ترى نفسها إلا في المواقع الأولى.
اللوحة قاتمة؟
نعم هي كذلك. إنها نسخة مما قبل 25 فالانقلاب ليس إلا قوسا سيغلق بعد تعفين الوضع ومضاعفة الحاجة الى الاستعانة على الأزمة الاقتصادية بالمال الفاسد ولا نستبعد هنا أن يكون هذا القوس من صناعة المنظومة نفسها فقد صارت المحاسبة خلف الجميع (ولن تدخل محاربة الفساد في أي خطاب انتخابي بعد الانقلاب) وتضاعفت الحاجة إلى تلك الجمل البريئة التي يتقن الإعلام ترويجها عن ضرورة تشريك رأس المال (الوطني) في إعادة إعمار ما خربه قيس ومن قبل قيس.
إن تونس ما بعد قيس ستكون كتونس ما قبله لكن في درجة اقتصادية أدنى وفي أزمة اجتماعية أعقد ولن يكون بمقدور مثقفين مغرورين وسياسيين نرجسيين يرون العالم من عدسة هواتفهم فقط أن يغيروا معادلة على الأرض تلاعبت بالثورة وبالدولة وحكمت بخطاب الوطنية فيما بعضها يستورد المزابل المسرطنة من إيطاليا ليدفنها بين أهله بمقابل جزيل. وليس بإمكان عاقل أن يختلق جملا متفائلة في هذه المرحلة ليبشر باندحار الانقلاب وعودة السعادة الغامرة. ولعل الجملة الأكثر حكمة الآن هي دع الأزمة تستفحل ليخرج الجياع دفاعا عن وجودهم. فيكون بعث جديد.
#تونس #بعد #قيس #سعيد
تابعوا Tunisactus على Google News