تونس على حافة الكاريبي | أسامة رمضاني
قد ينزعج البعض من الزائرين العرب، خاصة منهم القادمون من بلدان المشرق العربي، عند سماعهم للعامية التونسية الهجينة التي يتكلمها الكثير من التونسيين، الشباب منهم خاصة.
لكنّ هؤلاء المنزعجين قد لا يدرون أن أعدادا غير قليلة من التونسيين أنفسهم لا يشعرون بالراحة تجاه الحالة اللغوية السائدة في البلاد.
يكفي أن تتابع الاستجوابات العفوية للمواطنين في الشارع، مثل تلك التي تبث على بعض قنوات التلفزيون أو يوتيوب، كي تفهم المشكلة. يبدأ المتحدث جملته بالعامية ثم يرشها بألفاظ مستحدثة لا تعرف إن كانت عربية أو فرنسية، قبل أن يلجأ إلى عبارات لا يفقهها إلا رواد فيسبوك. ويوشح البعض حديثه بعبارات دينية حتى ولو كان الحديث عن كرة القدم.
ويبقى المستمع غير التونسي في حيرة من أمره لا يدري كيف يصنف اللغة التي استمع إليها.
بقيت اللغة العربية الفصحى، رغم كل شيء، المكون الأساسي للهجة العامية التونسية، ولكن اللهجة العامية تطورت في اتجاه إقحام الكثير من المفردات غير العربية ضمن قاموسها وفي اتجاه ليّ ذراع الكثير من الألفاظ غير العربية بإضفاء هوية صوتية تشبه العربية عليها.
هذا كله جعل الكثيرين ممن ينتمون إلى الأجيال القديمة يحنون إلى العامية التي كان يستعملها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة والإذاعي والحكواتي الشهير عبدالعزيز العروي، وغيرهما ممن أعطوا للهجة العامية معجمها وأسلوبها ونبرتها المميزة.
تداعى مستوى إتقان اللغة الفرنسية بين التونسيين، ولم يصعد نجم الإنجليزية عند عامة الناس، مثلما كان البعض يتوقع، وذلك رغم توسع استعمالات هذه اللغة في المعاملات المصرفية والميادين العلمية والتكنولوجية
صحيح أن اللهجة العامية في تونس لم تكن على مدى التاريخ بمنأى عن تأثير الأمازيغ، السكان الأصليين للبلاد، أو عن التلاقح مع موجات لغوية وافدة مع الغزوات الخارجية المتلاحقة والعلاقات التجارية في البحر الأبيض المتوسط، بدءا بالرومان وصولا إلى الوجود الإسباني والعثماني والاحتلال الفرنسي. كل ذلك جعل العامية التونسية تحتوي على شتات من الألفاظ الفرنسية والإيطالية والإسبانية، التحقت بها بعد ذلك الإنجليزية.
منذ ثمانينات القرن الماضي توسّعت العامية التونسية، بشكل سريع نسبيا، في إدراج المفردات والعبارات الأجنبية، إلى حد أثار فيه مخاوف البعض من أن تتحول العامية إلى ما يشبه اللغات الهجينة أو المختلطة المعروفة بلغات “الكريول” في الكاريبي وغرب أفريقيا. وهي لغات نشأت نتيجة تمازج بين اللغات الأوروبية وعدد من اللغات واللهجات المحلية في القارات الأميركية والأفريقية والآسيوية، نتيجة احتكاك شعوبها بالحملات التجارية الأوروبية انطلاقا من القرن السادس عشر.
تطور وضع العامية التونسية إلى حد أن الجدل التقليدي حول العلاقة بين العربية الفصحى والعامية ترك مكانه للانشغال حول مصير اللغة العربية واللهجة العامية على حد السواء.
ففي حين تتميز الفصحى بكونها اللغة الأساسية للدولة والسياسة وإحدى اللغتين الرئيسيتين في المناهج التعليمية، تجد العامية نفسها في مهب الريح دون أيّ حصانة باستثناء بعض المحاولات لجعلها لغة كتابة أدبية أو لغة ترجمة. وبالفعل لاقت بعض الروايات المكتوبة بالعامية مثل روايات فاتن الفازع رواجا واسعا، كما تمت ترجمة بعض المراجع السياسية والأعمال الفلسفية إلى العامية، من بينها كتابات الفيلسوف الماركسي غرامشي. ولكن هذه المحاولات لا تغير شيئا من الواقع الغريب للعامية المنطوقة في البيت والشارع.
يبقى الضمان الوحيد للعامية هو أنها أول ما يتعلمه الطفل في البيت ثم تأتي بعدها العربية الفصحى وتليها الفرنسية في المدرسة.
أما العربية الفصحى فتبقى اللغة الرئيسة للإصدارات الصحافية والأدبية والمراسلات الإدارية والقضائية. وهي وسيلة تعبير النخبة السياسية سواء في نقاشاتها أو مداولاتها أو بياناتها.
كما أنها لغة خطب الرئيس والوزراء والنشرات الإخبارية الإذاعية والتلفزيونية ومعظم البرامج الحوارية، ماعدا برامج القناة الدولية للإذاعة الحكومية، تبث اليوم برامجها بالعربية الفصحى وفي حالات قليلة بالعامية التونسية.
في المقابل، تداعى مستوى إتقان اللغة الفرنسية بين التونسيين، ولم يصعد نجم الإنجليزية عند عامة الناس، مثلما كان البعض يتوقع، وذلك رغم توسع استعمالات هذه اللغة في المعاملات المصرفية والميادين العلمية والتكنولوجية.
جانب من الخلل في إتقان اللغات الأجنبية، وهذا موضوع آخر، يعود إلى السياسة التعليمية التي لم تحرص على إكساب الطلبة المهارات اللغوية بشكل واسع مما جعل ذلك امتيازا للقليل بين النخبة فقط.
لذا يشتكي خبراء التربية والتعليم في تونس من أن الإتقان الجيد للغات الأجنبية، سواء حديثا أو كتابة، يبقى استثناء، بالرغم من أن البلاد تحتاج إلى مستوى أفضل للدراية باللغات الأجنبية، خاصة لدى خريجي الجامعات القادمين إلى سوق العمل.
ليس هناك اليوم من يمكنه أن يتكهن بشكل الهوية الثقافية واللغوية التي ستستقر عليها البلاد. ولكن الموضوع قد يستحق اهتماما أكبر في تونس قبل فوات الأوان
ولهذا الخلل على المدى البعيد كلفته الاقتصادية. فاللغات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية، من العوامل الجاذبة الأساسية للسياحة والاستثمار وميدان الأعمال.
وفي الوقت الحالي أصبح الاستعمال الأنيق للغات الأجنبية على كافة المستويات عملة نادرة. ويفسر في الكثير من الأحيان بالتميز الأكاديمي لبعض الأفراد المتفوقين، أو لظروف استثنائية اعترضت شرائح مجتمعية كانت تربت في المهجر أو نشأت ضمن عائلات مزدوجة الجنسية، وليست نتاجا طبيعيا للمنظومة التعليمية القائمة.
وقد يكون لهذا الوضع اللغوي اللافت علاقة بنشوء النمط الهجين من العامية المنطوقة في تونس. فالمنظومة التعليمية التونسية التي لم تسمح بتكوين أعداد كافية من الخريجين يتقنون اللغات الأجنبية لم تنشئ في العموم أجيالا تتكلم اللغة العربية بطلاقة كافية تجنبها اللجوء إلى مفردات من قواميس لغوية أخرى.
ولذلك فإن الاستنجاد العشوائي بالفرنسية، على سبيل المثال، أثناء الحديث باللهجة العامية ليس ترفعا عن العربية أو ازدراء للناطقين بها بقدر ما هو، في الكثير من الحالات، نتيجة عدم الإتقان الكافي للعربية الفصحى.
ومما زاد في الفوضى اللغوية خلال الأعوام الأخيرة الاستعمال المتزايد للحروف اللاتينية في الإرساليات القصيرة وعلى المنصات الإلكترونية. وهذا وضع انتشر في بلاد عربية أخرى.
وساهمت ممارسات قطاع الإعلانات في تعميق الفوضى اللغوية باستعمالها لشعارات تجمع بين العامية واللغات الأجنبية، في ظل صمت مطبق من السلطات الثقافية والهيئات المشرفة على القطاع السمعي والبصري.
العزاء الوحيد هو أن المشهد اللغوي المشوش لا ينعكس بأيّ شكل من الأشكال على شعور التونسي بالانتماء العربي والتزامه العفوي بالقضايا العربية.
ولكن هذا لا يكفي ليطمئن من يتساءل عمّا إذا كانت موجة الكريول سوف تتمدد إلى تونس وتشكّل مستقبل العامية في البلاد.
ولا يكفي ذلك ليطمئن من يرى في الأمر مؤامرة “لوأد اللغة العربية والعامية القريبة منها” في نفس الوقت، من أجل تنصيب الفرنسية أو الإنجليزية لغة وسيطة يخاطب بها التونسيون العالم الخارجي، وربما أيضا مواطنيهم في الداخل، نتيجة للعزلة التي قد تتردى فيها العامية في نهاية المطاف إن هي واصلت الابتعاد عن أصولها اللغوية التاريخية وتحولت العربية الفصحى إلى لغة تتقنها النخبة المهتمة بالحياة العامة فقط.
لا أحد يعرف إلى أين سينتهي المسار اللغوي. فالمجتمع التونسي مجتمع متحرك. وليس هناك اليوم من يمكنه أن يتكهن بشكل الهوية الثقافية واللغوية التي ستستقر عليها البلاد. ولكن الموضوع قد يستحق اهتماما أكبر في تونس قبل فوات الأوان.
فإن كان الكاريبي بعيدا جدا عن تونس، من الناحية الجغرافية، فإن مالطة قد تمثل، جغرافيا ولغويا، نموذجا ليس بالبعيد.
#تونس #على #حافة #الكاريبي #أسامة #رمضاني
تابعوا Tunisactus على Google News