تونس: فرصة الغرب الضائعة
لطالما تغنى الغرب بأن تونس هي قصة النجاح الوحيدة في منطقة ما برحت تتخبط في نزاعات مسلحة خاصة بعد تسونامي 2011، الذي أودى بأنظمة دكتاتورية من دون استحضار بدائل مبنية على المشاركة والحقوق والازدهار.
منذ 25 يوليو، تكاثرت الأسئلة عن مصير ثورة الياسمين، وسادت شكوك وتكهنات عن فشل تجربة انتقال تونس من نظام متسلط إلى نظام ديمقراطي. لا شك أن تونس شكلت حالة خاصة بعد 2011 كان يمكن البناء عليها لو تعاطى المجتمع الدولي بشكل مركز وهادف مع تحديات الانتقال الديمقراطي، ولو تم التعرف على توقعات التونسيات والتونسيين بشكل جدي وموضوعي، بدل البناء على افتراضات واهية. ثلاث هفوات غابت عن صانعي القرار في الدول الكبرى المؤثرة في تونس، أدت الى الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد: تغليب منطق “الاستقرار” على على أولوية “الحراك الاجتماعي” الذي يتوق له ملايين من أهل تونس “، وإغفال أهمية “المقاربة الشاملة” في برامج التعاون، وعدم الأخذ في الاعتبار الموروث الثقافي-السياسي في تونس بعد عقود من الاستبداد.
إقدام، محمد البوعزيزي، على إضرام النار بنفسه، في ديسمبر 2010، لم يكن لأنه شعر بتضييق سياسي أو أمني، أو لأنه لم يستطع نشر مقال في صحيفة. دوافع البوعزيزي اقتصادية – اجتماعية بامتياز، ويأسه يجسد واقع حال يعاني منه ملايين المواطنين والمواطنات في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وهو فقدان القدرة على “الحراك الاجتماعي”.
تعرف الموسوعة السياسية “الحراك الاجتماعي” بأنه “إمكانية تحرك الأفراد أو الجماعات إلى أعلى أو إلى أسفل في الطبقة أو المكانة الاجتماعية”. قبل 2011، ركزت الأنظمة السلطوية في المنطقة– على تنوعها – على إيهام الرأي العام أن التنازل عن حقوقهم المدنية والسياسية سيوفر لهم “الاستقرار”. وانطلت الحيلة على كثيرين، ومن بينهم مفكرون وأكاديميون ورجال دين، وغيرهم من النخبة الاجتماعية. لكن الجيل الصاعد لم يكن يحلم بالاستقرار بقدر ما كان يحلم بالحراك الاجتماعي. بعد 2011، جاء المجتمع الدولي ليركز – في حالة تونس مثلا- على مؤشرات الاقتصاد الكلي، وعلى إرساء الاستقرار المالي والنقدي والحماية الاجتماعية، بينما توق الشباب هو للحراك الاجتماعي.
لا شك أن المجتمع الدولي كان – و لا يزال – سخيا جدا مع تونس، ولقد استفاد البلد من مبالغ ضخمة (مقارنة بحجم اقتصاده)، ومساعدات عينية جمة. لم تكن يوما المشكلة بكمية المساعدات، ولا بمدى الاهتمام الغربي بإنجاح تجربة تونس في الانتقال الديمقراطي، بل بالمقاربة العامة حيث تم التركيز على جوانب محددة كتقنيات إعادة صياغة الدستور، وإجراء انتخابات ودعم الأجهزة الأمنية والقوى العسكرية وبعض المساعدات الاقتصادية. لم ترتق المجهودات الدولية – وخاصة الأوروبية- في مساعدة تونس إلى المستوى والشكل الذي شهدناه في بلدان أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، حيث هرول الغرب حينها لتوفير مظلة شاملة ومتعددة الطبقات – سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية- لتلك البلدان تجنبا لسقوطها في نزاعات مسلحة. ولولا هذه المقاربة الشاملة، لكانت بعض تلك البلدان لا تزال تعاني من تداعيات تغيير الأنظمة.
من جانب أخر، كان – وعن حق- حجم الاستثمار في برامج إرساء اللامركزية كبيرا. لكن الخطأ كان بتركيز الجهد على الجانب المؤسساتي في بلد تؤله فيه مركزية القرار. فتم بناء آليات مؤسساتية ونظم لا مركزية، وطلب من مواطن تلقن لعقود أن السلطة لا تأتي إلا من مرجعية “مركزية وقوية”، أن يندمج في نظام حوكمة غريب عنه. كما وتم التقليل من الأثر السلبي لغياب الثقة بين المواطن و “الدولة”، إذ لم يحظ هذا الجانب بالاهتمام والموارد الكافيين، فصرفت، على سبيل المثال، أموال على تجهيز وتدريب القوى الأمنية والعسكرية تفوق بأضعاف ما صرف على مبادرات الإصلاح وتطوير المساءلة التي من شأنها توطيد الثقة بين المواطن والأجهزة الأمنية.
بالإضافة إلى هفوات المجتمع الدولي، لا بد من الاعتراف أيضا بمسؤولية القوى الاقتصادية والاجتماعية التونسية فيما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد. إذ إن مشكلة تونس تسببت بها أو ساهمت بتعميقها مصالح بعض متنفذي القطاع الخاص الضيقة، معطوفة على خوف الحركة النقابية من خسارة مكتسبات جعلت منها شريكا في الحكم، بدل أن تركز على دورها النقابي. فاختلت التوازنات وجاءت مقاومة القطاعين الخاص والنقابي لأي عملية إصلاح للنموذج الاقتصادي والاجتماعي على حساب الرفاه والازدهار الذي توقعه التونسيون والتونسيات نتيجة تغيير النظام السياسي عام 2011.
لا عجب أن يكون المواطنة التونسية حائراة و “معلقاة بحبال الهواء” يلهث وراء أي فرصة لتغيير الواقع المرير الذي أرخى بظلاله منذ عام 2011. لكن الحقيقة أن جذور هذا الإحباط الشعبي قديمة العهد، أظهرته وعممته أخطاء وإخفاقات ما بعد 2011، مما أدى إلى تراكم خيبات الأمل على مدى السنوات الأخيرة، لدرجة قبول التونسيين والتونسيات بإجراءات استثنائية اتخذها هذا الصيف رئيس الجمهورية، تعتبر، في أي بلد أخر، مناقضة للعملية الديمقراطية. وذلك رغم تاريخ المجتمع المدني التونسي في الدفاع عن حقوق الانسان، حتى في أحلك الظروف في زمن الاستبداد.
إن لب المشكلة ليس حزبا أو حزبين، ولا شكل النظام السياسي ولا شخصية زيد أو أخلاق عمرو، وحتما ليس “الاستعمار” أو “الاستكبار الغربي”، كم يحلو لبعض منظري المؤامرات تصويره. تكمن المشكلة بشكل ومقاربة برامج التعاون الدولي، كما وتكمن بمقاومة قطاعات حيوية تونسية لأي عملية اصلاح.
يواجه الرئيس التونسي، قيس سعيد، والحكومة الجديدة العهد، تحديا لا يقل شأنا عن تحدي ما بعد 2011. ففي حال لم تؤد الإجراءات والتغييرات التي يجريها إلى تيسير حراك اجتماعي حقيقي تستفيد منه معظم شرائح الشعب التونسي، سيطيح مستوى الإحباط بأي مشروع سياسي يمكن أن يطرح على المواطنة التونسية.
كما ويقف المجتمع الدولي أيضا على مفترق طرق يفرض عليه تغيير الوجهة تماما فيما يتعلق بمساعدة تونس، للخروج من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المركبة، حيث يتم تغليب أولوية “الحراك” على فكرة “الاستقرار” واعتماد مقاربة شاملة متعددة الجوانب.
لا تكمن أهمية تونس بغزارة مواردها النفطية ولا بحجم اقتصادها، بل هي الفرصة الوحيدة تقريبا (بالإضافة إلى لبنان الذي يتقهقر حاليا) التي من شأنها دحض نظرية مناصري الديكتاتورية (من العراق إلى سوريا ولبنان وليبيا وغيرها) أن شعوب المنطقة لن تعيش بسلام ألا في ظل أنظمة استبدادية. كانت تونس على قاب قوسين من إثبات أن قيم الكرامة والحرية ليست حكرا على الغرب، ولا هي متناقضة بالمطلق مع منطلقات المنطقة الثقافية، إلا بقدر ما تقوم به بعض القوى الظلامية الدينية والمجتمعية والسياسية من تظهير لهذا التناقض.
الحفاظ على مكتسبات ما بعد 2011 في المجال السياسي، وسوق تونس باتجاه إنجاح تجربتها من خلال رؤية شاملة تغلب الحراك على الاستقرار، فيه مصلحة للشعب التونسي كما وفيه مصلحة سياسية مباشرة للمجتمع الدولي، وخسارة لكل قوى التطرف والتخلف. فرصة نجاح تونس لا تزال قائمة وتعتمد على أهلها بالدرجة الأولى وعلى أصدقائها في المجتمع الدولي.
#تونس #فرصة #الغرب #الضائعة
تابعوا Tunisactus على Google News