- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

تونس.. ما هي حظوظ “الجمهورية الثانية” في النجاح؟

- الإعلانات -

بصرف النظر عن القيمة الكونية للفكر السياسي الذي يُبشر به الرئيس التونسي –كما يدعي أنصار “التأسيس الجديد”-، كان واضحا أن إجراءات 25 تموز/ يوليو ستدخل البلاد في زمن سياسي جديد؛ يستمد شرعيته من تأويل غير توافقي للفصل الثمانين من الدستور.

لقد استغل الرئيس التونسي حالة الانسداد السياسي والتأزم الصحي والاحتقان الاجتماعي ليتخذ جملة من القرارات؛ التي اختلف التونسيون في توصيفها. فقد اعتبرها جزء من الشعب والنخب إجراءات “تصحيحية”، واعتبرها غيرهم قرارات “انقلابية” لا علاقة لها بمضمون الفصل الـ80 من الدستور ولا بباقي فصوله.

ونحن لا نعتقد أن الاختلاف بين النخب راجع فقط إلى الموقف من الأساس الدستوري لتفعيل “حالة الاستثناء” منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 2021، بل نعتقد أن مرده إلى ارتباطات سياسية وخلفيات أيديولوجية، وإلى مصالح مادية ورمزية وصراعات إقليمية ودولية، تتجاوز الدستور وفقهه من جهة أولى، وتتجاوز إرادات الفاعلين المحليين وسردياتهم الرسمية من جهة ثانية.

لقد كان نجاح الرئيس في فرض تأويله -ومن ثم فرض منطق القوة وشرعية الأمر الواقع- دليلا قاطعا على فشل “الانتقال الديمقراطي”، والنخب التي أشرفت على إدارته و”مأسسته” منذ هروب المخلوع، ولكن الأخطر من ذلك كله هو أن نجاح الرئيس قد هدم سردية “الاستثناء التونسي”، وما رافقه من تغنّ بنجاح الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي. لقد كانت أغلب النخب السياسية بعد انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية -منذ تشكيل حكومة السيد إلياس الفخفاخ- تصادر على نجاح الانتقال الديمقراطي السياسي، وتطالب بالتوجه نحو الانتقال الاقتصادي، أو ما سُمّي بملف مكافحة الفساد.

نجاح الرئيس قد هدم سردية “الاستثناء التونسي” وما رافقه من تغنّ بنجاح الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي. لقد كانت أغلب النخب السياسية بعد انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية -منذ تشكيل حكومة السيد إلياس الفخفاخ- تصادر على نجاح الانتقال الديمقراطي السياسي، وتطالب بالتوجه نحو الانتقال الاقتصادي، أو ما سُمّي بملف مكافحة الفساد

رغم تعفن المشهد السياسي قبل 25 تموز/ يوليو (سواء من جهة تأزم علاقة الكتل البرلمانية بعضها ببعض لأسباب هوياتية، أو من جهة تأزم علاقة البرلمان برئيس الدولة أو اتحاد الشغل أو المجتمع المدني والإعلام)، كان الخطاب المهيمن هو خطاب الإصلاح الاقتصادي أو مكافحة الفساد. ولكنّ هذا الخطاب لم يكن يفكر في شروطه السياسية والموضوعية، ولذلك كان يحمل مشروعا محكوما عليه بالفشل مسبقا؛ بحكم افتقاده لتسويات/ توافقات سياسية صلبة، ومن ثم غياب أية استراتيجية حقيقية لتفكيك بنية الفساد ومحاربة شبكاته الجهوية والزبونية، بعيدا عن الحسابات السياسية/ الأيديولوجية التي لم تنفصل يوما عن المشاريع الانقلابية الصريحة أو الخفية، منذ أشغال هيئة ابن عاشور وأعمال المجلس التأسيسي.

لم يكن “تصحيح المسار” غريبا عن هذا “المناخ الانقلابي”، ولكنه كان الأقدر على توظيف المشهد العام وتجييره لفائدة “التأسيس الجديد”، أي لفائدة مشروع سياسي يطرح نفسه بمنطق لبديل لا بمنطق الشريك لكل الأجسام الوسيطة ونخبها، بما فيها تلك التي ساندت الرئيس ومهدت لإجراءاته ودعمتها حينا من الدهر، قبل أن تتخذ مسافة نقدية منه.

ومهما كانت نوايا الرئيس ومقاصده من توظيف “أنصار تصحيح المسار” أو التقاطع مع “محور الثورات المضادة” لتمرير خارطة طريقه، فإن انفراده بإدارة حالة الاستثناء وإصراره على أن يكون “سلطة تأسيسية” لا شريك لها؛ قد جعل محطات خارطة الطريق التي وضعها تفتقد الدعم النخبوي والشعبي اللازمين لتأسيس شرعيتها.

ما زال الرئيس مصرّا على إجراء “حوار وطني” تحت سقف مخرجات الاستشارة الوطنية (الفاشلة)، وهو ما يعني أنه ماض في مشروع التأسيس للجمهورية الثانية، مهما كانت العزلة التي يعيشها داخليا وخارجيا

فبعد فشل الاستشارة الوطنية الإلكترونية (شارك في تلك الاستشارة عدد أقل من العدد الذي انتخب الرئيس في الدور الأول من الانتخابات الماضية)، ما زال الرئيس مصرّا على إجراء “حوار وطني” تحت سقف مخرجات الاستشارة الوطنية (الفاشلة)، وهو ما يعني أنه ماض في مشروع التأسيس للجمهورية الثانية، مهما كانت العزلة التي يعيشها داخليا وخارجيا. ولكن من أين يستمد الرئيس قوته رغم تعدد الخصوم؟ وهل هو فعلا يعاني من عزلة محلية وخارجية حقيقية؟ ولماذا يتحدث عن تأسيس جمهورية “ثانية” لا جمهورية “ثالثة”؟ وما دلالة ذلك؟

إن قوة الرئيس في تقديرنا لا تعود إلى قوة مشروعه أو شعبيته المرتبطة بمشروعية الإنجاز (فكل الأرقام والمعطيات لا تشفع له، وتنسف وعوده باسترجاع الأموال المنهوبة ومحاربة شبكات الفساد)، ولا تعود قوته إلى قدرته على تشتيت خصومه ومنع توحدهم في جبهة معارضة جامعة (فهو يفعل كل شيء لإبعاد حلفائه الموضوعيين وتسفيه أحلامهم، ومن ثم التمهيد لأي تحالف ممكن بينهم وبين خصومه المبدئيين). كما لا تعود قوة الرئيس إلى الدعم الخارجي (فأقرب حلفائه يحرصون على بقاء منظومة الحكم في حالة موت سريري، تمنع خروجها من الأزمة الحالية منتصرة على خصومها).

ولذلك، فإننا نرد قوة الرئيس إلى سببين أساسيين: أولا “سوء سمعة” النظام البرلماني المعدل والبرلمان، وهي حقيقة رسختها أطراف كثيرة، تمهيدا لتغيير النظام نحو نظام رئاسي، ومن ثم تحجيم دور حركة النهضة (ولعل ذلك أهم سبب في ترحيبها بـ25 تموز/ يوليو دون أن تتماهى معه)؛ ثانيا، استحالة توحد المعارضة في جبهة واحدة، وغياب أي إمكانية -على الأقل في المدى المنظور- لتتوافق حول مشروع للحكم، أو على الأقل لتتوافق حول آليات إدارة المرحلة الانتقالية التي تسبق الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة.

أما من جهة العزلة المحلية والخارجية التي يعاني منها الرئيس في الظاهر، فإن الحقيقة أعقد من تلك الملاحظة الاختزالية التي قد تحقق الإشباع النفسي لخصومه، ولكنها لا يمكن أن تفسر سبب بقاء “تصحيح المسار” ونجاحه في تمرير “مراسيمه” إلى حد هذا اليوم. فرغم بيانات “القلق الشديد” والدعوات الدولية المتتالية للعودة إلى الديمقراطية (وآخرها دعوة الرئيس الجزائري من روما)، فإنه لم يوجد قط ضغط حقيقي على حاكم قرطاج للتراجع عن مشروع “التأسيس الجديد”.

وفي المستوى المحلي، فإن الرئيس لا يعاني من عزلة حقيقية، بل هو يمتلك طوابير خامسة بين معارضي الانقلاب. فالكثير من القوى المعارضة لمسار 25 تموز/ يوليو، ترفض العودة إلى ما قبل ذلك التاريخ (أي ترفض عودة البرلمان ولو بصورة مؤقتة وللقيام بمهام مؤقتة)، كما لا تظهر أي ممانعة لإقصاء مكوّنات “الحزام الحكومي” لحكومة السيد هشام المشيشي من أية تسويات قادمة. ولا يبدو أنها قلقة من سياسة التدمير الممنهج للهيئات الدستورية واستراتيجيات تدجين المجتمع المدني والإعلام.

ولا شك في أن سقوط “الانقلاب” لن يكون مرادفا لسقوط المشاريع الانقلابية، كما لن يكون ضمانة لبناء مشترك وطني أو كلمة سواء، تتجاوز الوعي التوافقي الانبطاحي من جهة أولى، والوعي الانقلابي الاستئصالي من جهة ثانية.

حرص الرئيس على تقديم مشروعه بوصفه تأسيسا لجمهورية ثانية، وهو أمر ذو دلالة سياسية خطيرة. فإما أن الرئيس يعتبر “الجمهورية الثانية” التي تأسست بعد الثورة امتدادا للجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية، وهو ما يؤيده حديثه عن الانقلاب على الثورة وتزييف إرادة المواطنين، وإما أنه لا يريد الاعتراف بأن ما حصل بعد الثورة يمثّل جزءا من التراث الجمهوري أصلا

لقد حرص الرئيس على تقديم مشروعه بوصفه تأسيسا لجمهورية ثانية، وهو أمر ذو دلالة سياسية خطيرة. فإما أن الرئيس يعتبر “الجمهورية الثانية” التي تأسست بعد الثورة امتدادا للجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية، وهو ما يؤيده حديثه عن الانقلاب على الثورة وتزييف إرادة المواطنين، وإما أنه لا يريد الاعتراف بأن ما حصل بعد الثورة يمثّل جزءا من التراث الجمهوري أصلا، ولذلك فإنه قد أقصى كل النخب التي حكمته واستبدلها بنخب تنتمي إلى ما قبل الثورة، أو إلى المنظومة القديمة (مثل العميد الصادق بلعيد وغيره من الوزراء وكبار المسؤولين).

ومهما كان ما يقصده الرئيس بـ”الجمهورية الثانية”، فإنها جمهورية تعلن القطيعة بينه وبين أغلب وكلاء الدولة العميقة قبل غيرهم. فالدولة العميقة لا يمكن أن تستغني عن “أحزابها” و”نقابتها” و”مجتمعها المدني”، ولا يمكن أن تقبل بالمشروع السياسي للرئيس، إلا في الحدود التي لا يمس فيها وكلاءها ومصالحها المادية والرمزية.

ولكن، يبدو أن الرئيس مازال مصرا على نسف الديمقراطية التمثيلية ونفي الحاجة إلى أجسامها الوسيطة، وهو خيار سيجعله هذه المرة في مواجهة من كانوا بالأمس حلفاءه قبل “تصحيح المسار” وبعده، إلى حدود صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021.

ونحن نرى أن الرئيس يمتلك ورقة قوة كبيرة في علاقته بالقوى المعارضة، وهي ورقة لم يصنعها الرئيس، ولكنه عرف كيف يستفيد منها منذ وصوله إلى قصر قرطاج: الصراعات الهوياتية، واستحالة التسوية أو التطبيع المبدئي بين القوى العلمانية وحركة النهضة. فحتى لو صعّد الاتحاد وتنسيقية الأحزاب الاجتماعية ومعهم الحزب الدستوري الحر الصراع ضده، فإنهم لن يتحركوا بالتنسيق مع جبهة الخلاص الوطني بحكم وجود حركة النهضة فيها. وهو ما يجعل الرئيس قادرا على البقاء في الحكم -ما لم تتدخل قوى إقليمية ودولية لتغيير المعادلة السياسية- مهما كانت قوة المعارضة بجناحيها.

يبدو أن الجمهورية الثانية -أي جمهورية الديمقراطية المباشرة أو المجالسية- تشق طريقها نحو الاستفتاء والانتخابات التشريعية دون وجود أية تهديدات حقيقية

بحكم غياب أي أفق لمصالحة تاريخية بين مختلف الفرقاء، خاصة بين النخب العلمانية المعارضة لمسار الانقلاب (أي تنسيقية الأحزاب الاجتماعية بعد توسعها لتشمل حزب العمال وحزب القطب في مشروع إفشال الاستفتاء لا إسقاط الانقلاب ومسار 25 تموز/ يوليو، وهي تنسيقية لا يختلف فكرها السياسي عن فكر الرئيس من جهة الاستهداف الممنهج لحركة النهضة دون باقي مكونات المنظومة الحاكمة، ولكنها تعي الخطر الوجودي الذي يتهددها لو نجح الرئيس في “التأسيس الجديد”)، وبين حركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة ثانية (أي النواة الصلبة لجبهة الخلاص الوطني ومشروع إسقاط الانقلاب وما حكمه من مراسيم وقرارات، وهي جبهة تدعو إلى توافقات وإلى حوار وطني قد لا يكون محصوله أفضل من محصول الحوار الوطني سنة 2013، خاصة إذا ما هيمنت عليه المركزية النقابية).

بحكم ما تقدم، يبدو أن الجمهورية الثانية -أي جمهورية الديمقراطية المباشرة أو المجالسية- تشق طريقها نحو الاستفتاء والانتخابات التشريعية دون وجود أية تهديدات حقيقية. وليس تصعيد الرئيس ضد خصومه بتعيين هيئة الانتخابات ورفض حضور مراقبين دوليين للاستفتاء، ومطالبته بطرد أعضاء لجنة البندقية، وعزله 57 قاضيا بتهم الفساد -استنادا إلى المرسوم المنظم لعمل المجلس الأعلى للقضاء- إلا تعبيرا عن قوة الرئيس وقدرته على فرض خياراته مهما كانت اعتراضات خصومه، على الأقل في ظل التوازنات الحالية.

twitter.com/adel_arabi21

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “عربي21”

#تونس #ما #هي #حظوظ #الجمهورية #الثانية #في #النجاح

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد