- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

- الإعلانات -

تونس والسؤال الخارج عن المألوف

جذبت تونس اهتمام المراقبين الغربيين بعد قرار رئيسها قيس سعيّد إقالة رئيس الوزراء هشام المشيمشي ووزيري الدفاع والعدل إضافة إلى تعليق عمل البرلمان لثلاثين يوماً. ثمة شبه إجماع غربيّ حول أنّ تونس شكلت استثناء لموجات “الربيع العربي” بالنظر إلى أنّ ثورتها لم تنتج حرباً أهلية أو صراعاً مريراً بين ثنائية عسكر/إسلاميين. لكنّ ذلك لم يعنِ أنّ الثورة نجحت في تأسيس حكم مستقرّ أو ازدهار اقتصادي مستدام. أعادت خطوة سعيّد الأخيرة فتح النقاش حول مدى تخطّي تونس فعلاً ثنائية عسكر/إسلاميين، أو أوتوقراطية/إسلاموية، بما أنّ الصراع بات على أشدّه بين سعيّد ومؤيّديه من جهة، والإسلاميين بقيادة حزب “النهضة” من جهة أخرى. وصف رئيس الحزب راشد الغنوشي قرار سعيّد بأنه “انقلاب”. حتى مجلّة “تايم” كتبت أنّ سعيّد شنّ “ما يبدو أنّه انقلاب”. انصبّ تركيز قسم كبير من المحلّلين على دعوة واشنطن إلى الدفاع عن الديموقراطية في تونس بوجه ما يرونه محاولة سعيّد لجمع المزيد من الصلاحيات بين يديه وتحويل النظام من برلماني إلى شبه رئاسيّ. الرئيس التونسيّ، وهو أستاذ سابق في القانون، بنى خطوته السياسية استناداً إلى المادة 80 من دستور البلاد. تثير هذه المادة إشكاليات عدّة، إذ يقول معارضو قرار الرئيس أنْ لا وجود لحالة “الخطر الداهم” الذي يستوجب خطوته، مشيرين إلى أنّ على المجلس البقاء “في حالة انعقاد دائم” طيلة الفترة.  لكنّ آخرين يردّون بأنّ التجميد لا يتعارض مع “حالة الانعقاد”. وفشل التونسيون في تأسيس المحكمة الدستورية التي على الرئيس إعلامها بخطوته والتي تعلن بعد فترة الشهر جواز استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه.سؤال غير سائدثمّة مقاربة غير تقليديّة طرحها مؤخّراً الباحث في “مجلس العلاقات الخارجية” ستيفن كوك في مجلة “فورين بوليسي”، يمكن أن تساهم في إعادة تصويب النقاش، كما يمكن أن تُبنى على السؤال التالي: “هل يريد عموم التونسيين الديموقراطية فعلاً؟”السؤال صادم إلى حدّ بعيد. لكنّه ككلّ فكرة قابل للنقاش. يؤكّد كوك أنّه لا يطرح تحليله من زاوية أنّ العرب غير مؤهّلين للحكم الديموقراطيّ، ولا يشير إلى أنّ هذا المطلب يعبّر عن رأي المحللين والصحافيين والناشطين الحقوقيين الذين يميل الغرب إلى التواصل معهم. ينطلق الكاتب من إرادة التونسيين الحالية بناء على الظروف التي تشهدها بلادهم، وخصوصاً تلك الإرادة التي عبّر عنها المواطنون الذين خرجوا إلى الشوارع تأييداً لقرار سعيّد. لا يستبعد كوك أن يكون قسم كبير من التونسيين، وبعدما تمتّع بعقد من الحريات من دون الاستفادة على صعيد الأمنين الاجتماعي والاقتصادي، راغباً بالقبول بنسخة من نسخ الأوتوقراطية وإعطائها محاولة جديدة بشرط زيادة عدد الوظائف وتأمين الرعاية الاجتماعية وغيرها من المتطلبات المعيشية.في تلك الفكرة العديد من الشواهد الحديثة خلال الثورات العربية: يصل تيّار الإخوان المسلمين إلى السلطة لكونه الأكثر تنظيماً في أيّ حراك والأكثر محاكاة للتطلّعات الدينية للقسم الأكبر من المنتفضين خصوصاً، والشعب عموماً. بعدها يظهر هذا التيّار عجزاً كبيراً عن الحكم فيهمّش فئات واسعة من المجتمع قبل أن ينتهي الأمر بانتفاضة مضادّة ضده. لكنّ هذه الظاهرة لا تتعلّق بالعالم العربي وحده. لطالما وجدت المجتمعات البشرية، بما فيها تلك الغربية، نفسها أمام ثنائية كهذه. لذلك، كانت تتخلى عن جزء من حرياتها مقابل كبح الأزمات، أكانت سياسيّة أو طبيعية. يمكن قياس ذلك حتى بالعودة إلى أواسط القرن التاسع عشر. المجاعة الكبرىسنة 1845، حدثت مجاعة كبيرة عُرفت باسم “المجاعة الكبرى” بسبب مرض أصاب محصول البطاطا الإيرلندية. كسدت المحاصيل وتفشت الأوبئة وانهارت الأسواق المالية. توفي على إثر ذلك حوالي مليون شخص. نتج عن تلك الأحداث عجز تجاري كبير وارتفاع أسعار الفائدة مما فاقم أزمة التصنيع وارتفاع ثمن السلع الغذائية. استمرت الأزمة طوال سبعة أعوام. أدى الأمر إلى مطالب شعبية بحكومات أكثر فاعلية خصوصاً مع شعور الأوروبيين بأنّ الأزمة ناتجة عن سوء إدارة أكثر مما هي تعبير عن مشكلة طبيعية. توسعت الدول الأوروبية في ممارسة صلاحياتها كما حصل في بريطانيا لكن المثل الأبرز كان وصول لويس نابوليون إلى الحكم في فرنسا وتنصيب نفسه إمبراطوراً باسم “نابوليون الثالث”. أراد الإمبراطور إظهار أن الحكم الأوتوقراطيّ أكثر فاعلية بالمقارنة مع الأنظمة الليبيرالية المنقسمة على نفسها، فأطلق سلسلة مشاريع رسميّة ضخمة مثل توسيع السكك الحديدية وإعادة إعمار باريس، كما توصل إلى اتّفاق جمركي مع بريطانيا. وحذت دول أوروبية أخرى حذو فرنسا في خطط مشابهة. ويمكن سوق مثل مشابه بشكل أو بآخر عمّا حلّ بأوروبا بعد الحرب العالمية الأولى وتفضيل مجتمعات عدّة فيها للأنظمة الاستبدادية على الديموقراطية بغية انتشالها من أزماتها. حتى من دون العودة كثيراً إلى الوراء كما إلى الأمثلة المتطرّفة، يمكن تلمّس التنافس المباشر الذي حصل بين الدول الديموقراطية وغير الديموقراطية حول فاعلية كل من أنظمتها في مواجهة وباء “كورونا”. للمفارقة، كان الإخفاق في مواجهة الوباء المتفاقم في تونس أحد أبرز الأسباب لإطلاق التظاهرات التي دفعت سعيّد إلى الإقدام على خطوته. لقد حرم الوباء تونس من مداخيل السياحة التي تحتاج إليها وأرهق نظامها الصحي، حتى بلغت وفيات التونسيين في الأسابيع القليلة الماضية الوتيرة الأعلى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هل يريد معظم الشعب التونسيّ استبدال الديموقراطية، أو التخفيف من أطرها القانونية، لصالح حكم أوتوقراطيّ أكثر فاعلية؟ لا شكّ في أنّ هؤلاء، كغيرهم من الشعوب، يبحثون عن الفاعلية في الحوكمة. حتى كوك ليس متأكّداً من الجواب لكنّه يطرحه كفرضيّة ذات احتمال مرتفع. كيفية موازنة التونسيين بين السياسات المنتجة والديموقراطية أمر يصعب سبره راهناً. هو تحدّ مفروض على غالبية الشعوب التي تواجه أزمات مفصليّة. على أي حال، ليست تلك المعادلة صفريّة النتائج. في نهاية المطاف، لا ينتمي سعيّد إلى الجيش كي يكون هنالك تخوّف من “عسكرة” النظام. وخلفيّته كأستاذ قانون تخفّف من تلك المخاوف، على الرغم من أنّها قد لا تلغيها بشكل نهائيّ. علاوة على ذلك، هو لا يزال يتمتّع بتأييد 87% من الشعب التونسي بحسب أحد استطلاعات الرأي الحديثة التي نقلتها مجلّة “تايم”. وإذا كانت المجلة قد وصفت أحداث الأحد وما تلاها بأنّها شبيهة بالانقلاب، فإنّها في الوقت نفسه لم تعلن وفاة الديموقراطية في البلاد. لقد عانت تونس كثيراً في تأسيس بناها الديموقراطية طوال العقد الماضي. قد تكون هذه المعاناة سبباً لعدم تبديد التونسيين مجهودهم سلفاً. لكنّ الأولوية الآن للهمّ المعيشيّ. فعلاً تسير تونس على حبل مشدود.

- الإعلانات -

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد