تونس وخطر تكرار السيناريو اللّبناني
دانا حوراني
تشهد الأسواق التونسية نقصًا حادًا في الزيت والسكر والزبد والدقيق والبنّ وحتى المياه المعدنية. وليس ذلك البلد المتأزم ماديًا هو وحده الذي يعاني من نقص الغذاء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع ذلك لا تزال الحكومة غير مستجيبة دون أي تقدّم يذكر.
كان صيف تونس حافلًا بالأحداث. ففي الخامس والعشرين من يوليو الماضي، صوّت التونسيون بالموافقة على دستور الرئيس قيس سعيّد الجديد، الذي زاد من سلطاته وأحكم قبضته على السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وكان هدف قيس سعيّد التالي هو نظام الانتخابات الذي أُقرّ في عام 2011، والذي يعارضه سعيّد بشدة. كان واضحًا من البداية أن الرئيس التونسي حرص على تغيير نظام الحكومة في الوقت الذي أهمل فيه الوضع الاقتصادي المتدهور، والذي فوّض مسؤوليته للوزراء ثم ألقى اللّوم عليهم.
في الوقت ذاته، يستمر اختفاء السلع الأساسية من الأسواق والمتاجر، وتنتشر الطوابير أمام محطات الوقود في مختلف أنحاء تونس.
ويرى الخبراء أنه يمكن تخفيف حدة الموقف إذا ما مضت الحكومة في خطة الإنقاذ التي قدّمها صندوق النقد الدولي، والتي تأمل تونس في إنجازها بحلول أكتوبر المقبل. بينما يشكّ البعض في قدرة تونس على الالتزام بشروط الصّندوق، ويحذّرون من تفاقم الاضطراب السياسي خلال الأشهر القادمة.
انتظار طويل
أرهقت التحديات الاقتصادية كاهل المجتمع التونسي منذ فترة طويلة، إذ خرج التونسيون إلى الشوارع عام 2011 مطالبين بإصلاحات واسعة في عهد الحكم الاستبدادي للرئيس زين العابدين بسبب الأوضاع الاقتصادية.
ورغم أن ما حدث أشعل انتفاضة الرّبيع العربي في كثير من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فشلت تلك الاحتجاجات التونسية في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية المرغوبة وخاب أمل كثير من الناس. وقد نتج عن ذلك خروج المستثمرين من الأسواق، وتعطلت عجلة التنمية الاقتصادية، وارتفاع الدين القومي إلى مستويات جديدة.
وقالت انتصار فقير، الزميل الأول ومدير برنامج شمال إفريقيا والساحل في معهد الشرق الأوسط في واشنطن لفنك: “تدور السلطات التونسية في حلقة مفرغة من الاقتراض لسداد القروض السابقة وهو ما يؤدي إلى تراكم الديون. وسوف يؤدي ذلك إلى كارثة وشيكة”.
وأضافت فقير: “كان الجميع منشغلًا بالتحول السياسي أثناء الثورة، لذا لم يكن الاقتصاد محط تركيزٍ. وبالتالي، قدمت الدولة حلولًا مؤقتة لتحقيق الإستقرار في تونس، وأهملت في الوقت عينه متطلبات واحتياجات الشعب على المدى البعيد”.
الإغلاق والحرب
وقد زادت جائحة كورونا الطين بلة، إذ أجبرت أصحاب الأعمال التي تستلزم تواصلًا مباشرًا بالعملاء على إغلاق أعمالهم. وأظهر تقرير البنك الدولي أن أكثر القطاعات تأثرًا بالجائحة كانت قطاعيّ السياحة والتجارة الدولية. وبالتالي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 9.9% في عام 2020 بعد نمو قصير بنسبة 0.9% في عام 2019.
في محاولة سريعةٍ للحد من الأضرار، قامت الحكومة بعدة إجراءات نذكر منها دعم القطاعات المتضررة، وحماية الوظائف وتعليق الضرائب المستحقة على الشركات، مع تقديم المساعدة المالية للشركات والعاملين.
لكن تلك الإجراءات لم تحدّ من مستويات البطالة التي ظلت مرتفعة مقارنةً بما كانت عليه قبل عام 2011. كما تباطأ نمو الصادرات، بحسب تقرير البنك الدولي عن تبعات الجائحة العالمية، وانخفضت صادرات الميكانيكية والكهربائية بنسبة 2.4%، وتقلصت صادرات المنسوجات بنسبة 6%، وتراجعت الصادرات الغذائية بنسبة 13% في عام 2019.
ثم جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا ودفعت بالتضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وتسببت في عجز بمخزن الطاقة والحبوب في دول مختلفة تعاني من اقتصاد ضعيفة مثل تونس.
سيناريو لبنان
واجه لبنان نقصًا مماثلًا في بداية انهياره الاقتصادي في 2019، مما خلق بعض أوجه التشابه بين تونس ولبنان.
إذ يعتمد اقتصاد الدولتين على الاستيراد، مما يجعله عرضة للصّدمات الخارجية. لكنهما تختلفان في أسباب انعدام الاستقرار السياسي. إذ إن حل الأزمة الاقتصادية في لبنان مثلًا يعوقه عجز النخبة السياسية التي يفرّقها التحزب والطائفية ويمنعها من تشكيل حكومة. وقد تسبب ذلك الوضع في منع مساعدات من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار.
وقد ناقش المشرّعون في لبنان ميزانية الدولة السّنوية لعام 2022 في جلسة برلمانية مثيرة للجدل في السادس عشر من سبتمبر الجاري. إذ خرجت بعض المزاعم التي تكشف غياب رؤية اقتصادية واجتماعية في مشروع الميزانية. كما اعتبر نواب المعارضة أن مسودة المشروع فاشلة ولا تصلح للبلاد. أمّا في تونس، فقد تمكنت الحكومة والاتحاد العام التونسي العمل للتوصل إلى اتفاق يرفع أجور موظفي الدولة بنسبة 5%.
وتعاني الدولتان من الاحتكار، إذ تتركز الثروة والأصول في أيدي حفنة من الأثرياء الذين يسيطرون على شركات الطيران الوطنية والبنوك المركزية والواردات الغذائية. في ظل هذا السيناريو، تخضع أسعار السلع والخدمات لأهواء الأسواق السوداء والتكتلات الاحتكارية، فضلًا عن تأثير الفساد المنظم.
ومن جانبه، ذكر كورت ديفيس جونيور، وهو مستثمر مصرفي وعضو مجلس العلاقات الخارجية، في مقالة له أن انهيار لبنان الاقتصادي أشد خطورة، وأن المستقبل سيكشف لنا إذا ما كانت تونس ستتخذ مسارًا مشابهًا. ولكن ثمة بعض التشابهات والأنماط المماثلة في البلدين. فقد أضاف ديفيس: “تعامل الدول مع الوضع في تونس واستمرار تدفق الأموال إليها من المجتمع الدولي يدل على أن تونس ما تزال في مأمن. ولكن الوضع في لبنان كان مشابهًا ثم تغيّر في وقت لاحق”.
اختلافات الصّندوق
وتُعد مفاوضات صندوق النقد الدولي من الفروق الرئيسة بين وضع البلدين. إذ توصل لبنان إلى نوع من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض بقيمة 3 مليارات دولار في شهر أبريل الماضي. ولكن لبنان تلكأ في تنفيذ الإجراءات اللازمة لإتمام الصفقة، فسيطر التشاؤم والقلق على المشرّعين.
من ناحية أخرى، بدأت تونس بالفعل في إجراء الإصلاحات المطلوبة للحصول على قرض بقيمة مليار دولار من صندوق النقد الدولي.
ومع ذلك، يُرجح أن يفرض الصندوق شروطًا قاسية قد تشمل خفض الدعم الحكومي والعمالة في القطاع العام، وربما تطرق إلى وضع الشركات المملوكة للدولة، وهو ما قد يؤدي إلى معارضة قوية من الاتحاد العام التونسي للعمل.
وترى فقير أن البلاد في أمسّ الحاجة إلى الدعم والتمويل، لكن قد تكون الشروط المطلوبة قاسية على الشعب في المدى القريب والمتوسط.
تونس والمستقبل
وقال أيمن بالصالح، وهو زميل غير مقيم بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، لفنك إن نقص المواد الغذائية يختلف من مدينة لأخرى، إذ تختفي بعض السلع ثم تظهر مجددًا. في حين يعمل البائعون على ترشيد عرض مخزونهم من المنتجات. ومع ذلك، فإن الطوابير على محطات البنزين ليست ظاهرة متكررة.
وأضاف بالصالح: “يعلّق المسؤولون مشكلة نقص المواد الغذائية على الأوضاع العالمية التي صاحبها هلع من المستهلكين فأقبلوا على الشراء بكثافة. كما تشير البيانات الرسميّة إلى أن التجار يخزنون البضائع لرفع أسعارها وهم بذلك يخلقون حالة من النقص المؤقت”.
وذكر بالصالح أن “الشائعات تشير إلى أن انخفاض تصنيف السندات التونسية يدفع الموردين الدوليين إلى طلب مدفوعات مقدمًا وهو ما يؤدي إلى نقص كبير”.
ويرى الخبراء أن دول الاتحاد الأوروبي التي تواصل تقديم الدعم المادي إلى تونس ترغب في معالجة تلك الأزمة حتى تتجنب تدفق المهاجرين غير الشرعيين. إذ وصل نحو 13,500 مهاجر تونسي إلى إيطاليا عبر قوارب النجاة منذ بداية هذا العام.
وبحسب فقير، فإن معدل التضخم يواصل ارتفاعه في ظل افتقار قيس سعيّد إلى رؤية اقتصادية وعدم قدرته على مواجهة الأزمات الاقتصادية. كما أنها لا تثق في قدرة مستشاريه على التأثير في قراراته.
وقالت فقير: “لم يسع سعيّد إلى مواجهة الأزمة بشكلٍ مباشرٍ، بل ذهب إلى مهاجمة المضاربين والضغط على الموردين لخفض الأسعار. أرى أنه يتلاعب بالمشاعر الشّعبوية فحسب، فهو يتجنب معالجة المشكلات معالجة حقيقية”.
ويشكك بالصالح في جدوى الاتفاق مع الصّندوق. إذ يمكن استعمال الأموال لرفع تصنيف تونس إلى مستوى الأسواق الدولية، ومع ذلك لن يكون لدى الحكومة ما يكفيها لسد عجز الميزانية.
واختتم بالصالح حديثه محذّرًا من “اضطراب الأوضاع وانتشار الاحتجاجات، فإذا لم يحدث ذلك الآن سنراه في شهر يناير بمجرد البدء في تطبيق الميزانية السّنوية. ستشهد تونس بعد ذلك ارتفاعًا إضافيًا في الأسعار مرة أخرى، وتخفيضات محتملة في الدعم والأجور، وهو ما يُمثل خطًا أحمر عند التونسيين”.
#تونس #وخطر #تكرار #السيناريو #اللبناني
تابعوا Tunisactus على Google News