تونس وزمنها الاقتصادي | أسامة رمضاني
منذ مدة لم يعد من المجدي متابعة نتائج استطلاعات الرأي في تونس لمعرفة نصيب الأحزاب السياسية من نوايا تصويت الناخبين لها خلال أي انتخابات تشريعية قادمة.
فأي فائدة من مطالعة نتائج استطلاعات أهم شيء فيها هو عدم قدرة أو رغبة أكثر من 72 في المئة من الناس في تحديد اختيارهم للحزب الذي سوف يعطونه أصواتهم خلال الاقتراع القادم؟
أرقام تقول إن نسبة الذين يعرفون لمن سيصوتون لا تصل إلى 30 في المئة من الأشخاص المستجوبين. ونصف هؤلاء تقريبا يقولون إنهم سوف يصوتون لحزب غير موجود أصلا هو “حزب قيس سعيد” (والنصف الآخر للحزب الدستوري الحر).
خلاصة القول إن أغلبية الجمهور غير مقتنعة بطروحات أي حزب. وفقد الرأي العام الثقة في التشكيلات الحزبية منذ وقت طويل. ولم يبق متمسكا بالأحزاب إلا المنتمون إلى نواتها الصلبة من أتباعها الأوفياء.
تفسير هذا الوضع قد يكون في اختلاف الأولويات بين الأحزاب وعامة الناس.
آخر استطلاع للرأي أصدرته مؤسسة سيغما كونساي أظهر أن الأولويات الخمس الأولى التي يجب على الحكومات الانكباب عليها، حسب الجمهور المستجوب، هي: النهوض بالقطاع الصحي ثم إنعاش الاقتصاد وتحسين المقدرة الشرائية وتطوير قطاع التعليم وخلق مواطن الشغل.
والملفت أن موضوع الإصلاحات السياسية (الذي ما فتئ يشغل الأحزاب ويحرك قياداتها) يأتي ضمن آخر أولويات المواطنين حسب هذا الاستطلاع وغيره.
ليس غريبا أن تكون المسائل الاقتصادية والاجتماعية هي جوهر الموضوع بالنسبة إلى التونسيين. بل الغريب أن تصر المنظومة السياسية على الانقطاع عن شواغل الشارع مدة سنوات طويلة ركزت خلالها بشكل شبه كامل على “الانتقال الديمقراطي”، وتصرفت وكأنما ليس هناك انتقال اقتصادي واجتماعي وثقافي تحتاجه البلاد. تصرفت النخب الحاكمة بالخصوص دون رؤية حقيقية وعلى أساس الوهم بأن “الاستثناء التونسي” على الصعيد السياسي سوف يضمن النجاح ولو أهملت شؤون الاقتصاد.
انشغلت معظم الأحزاب بالمسارات السياسية المتعثرة وتركت الخوض في المسائل الاقتصادية للتكنوقراط والخبراء.
واليوم تجد السلطات نفسها، وهي تسعى إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي وغيره من الأطراف الدولية المانحة، أمام ضرورة البحث عن رؤية موحدة للإصلاح الاقتصادي.
ولكن ليس هناك إجماع أو حتى تقارب في المواقف في هذا المجال بين الأطراف الحكومية والنقابية ولا ضمن الطبقة السياسية ككل. ويبقى التوفيق بين الاحتياجات الاقتصادية، من جهة، والإكراهات الاجتماعية، من جهة أخرى، أمرا صعب المنال في المستقبل المنظور.
والكل يعرف أن غياب مثل هذا الإجماع سوف يشكل عائقا إضافيا أمام نجاح مفاوضات الحكومة مع المانحين الأجانب من أجل الحصول على القروض المالية التي تحتاجها.
ولن يكون من السهل بناء مثل هذا الإجماع ما دام النقابيون والسياسيون يختفون وراء أكمة التصريحات الضبابية… يتسترون بالعموميات الداعية للحفاظ على مصالح الفئات الهشة في المجتمع وعدم التفريط في المؤسسات العمومية أو المس من القدرة الشرائية للمواطن، إلى آخر ذلك من المشاعر النبيلة التي ما زال يعتقد أصحابها أن للدولة إمكانيات تسمح لها بالاختيار. بل هناك من بينهم من لا يزال يرى أن للدولة إمكانية “مراجعة منوال التنمية” بصفة جذرية إن هي أرادت ذلك.
والكثير من الفاعلين السياسيين والنقابيين يحذرون الحديث بالتفصيل عن الصيغ الاقتصادية الملموسة التي يقترحونها فعليا للخروج من الأزمة، ربما لأنهم يعلمون حق العلم أن أي إصلاحات واقعية سوف تكون بالضرورة من صنف التدابير المؤلمة التي لا يمكنهم أن يجنوا من ورائها غنائم سياسية أو يحسّنوا بفضلها مواقعهم في عمليات سبر الآراء أو ضمن قواعدهم الشعبية خاصة إن كانت هناك محطات انتخابية في الطريق.
فالتفاصيل من منظور المؤسسات المالية الدولية ومعظم الخبراء الاقتصاديين التونسيين تتضمن تقليص الإنفاق العمومي من خلال تخفيض حجم رواتب الموظفين الحكوميين وتجميد التشغيل في الوظائف العمومية وتقليص الدعم الحكومي لأسعار بعض المواد الأساسية. كما سوف تعني إعادة النظر في مساعدة الدولة للمؤسسات العمومية التي تعاني عجزا ماليا.
المشكلة هي أن مثل هذه الإجراءات سوف تصادف وضعا اجتماعيا غير مسبوق يعكسه توسع رقعة الفقر إلى حوالي 20 في المئة من السكان وانحسار الطبقة الوسطى من حوالي 70 إلى 50 في المئة من تركيبة المجتمع. الكل يعرف أن الإجراءات الاقتصادية المحتملة لن تلقى ترحيبا لدى أغلبية التونسيين بل إن السلطات تخشى من مطبات اجتماعية قد تنتج عن الإجراءات التقشفية المنتظرة.
سوف تصادف أيضا اقتناعا لم يتزعزع لدى الكثير من الناشطين بأن الاحتجاجات والضغوط سوف تكفي لدفع الدولة نحو اتباع سياسات اقتصادية ذات منحى اجتماعي، بغض النظر عن واقع التوازنات المالية.
لم تتخل العديد من مكونات المنظومة السياسية والنقابية، من منطلقات أيديولوجية، عن قناعتها بأن تحقيق عدالة أكبر بين المواطنين والجهات ما زال يحتم تدخل الدولة في الدورة الاقتصادية، من أجل إعادة توزيع الثروة وليس من أجل تشجيع القطاعات المنتجة وخاصة القطاع الخاص على خلقها.
وحتى التشكيلات ذات المنحى الليبرالي وجدت نفسها تدافع عن الدور الاجتماعي للدولة كضرورة لاحتواء الاضطرابات التي واجهتها البلاد وخاصة منذ احتجاجات الحوض المنجمي سنة 2008. ولكن الجميع، من يمين ويسار، يجدون أنفسهم اليوم أمام إرهاصات لواقع جديد لا يسمح لدولة ليست لها الموارد المالية الكافية بأن تلعب مثل ذلك الدور الاجتماعي أو حتى بتخفيف وطأة الإجراءات القاسية على محدودي الدخل.
لا تخفى مواصفات الواقع الاقتصادي على أحد من الفاعلين السياسيين، خاصة أن المسؤولين الحكوميين لم يدخروا جهدا بالتصريحات والبيانات والتسريبات من أجل تسليط الضوء على التحديات التي تواجهها الدولة. تقول تقاريرهم وأرقامهم إن الرواتب في الإدارات الحكومية قد تضاعفت ثلاث مرات في ظرف 10 سنوات مما يلتهم تقريبا نصف موارد الدولة. وهم في هذا الإطار يلمّحون إلى نية الحكومة تجميد الرواتب وتشجيع الموظفين على التقاعد المبكر أو الالتحاق بالقطاع الخاص.
تقول الأرقام الحكومية كذلك إن ارتفاع أسعار البترول بدولار واحد فقط يعني ارتفاع مصاريف الطاقة بحوالي 140 مليون دينار (حوالي 50 مليون دولار أميركي) في السنة. وتعلم السلطات أن نجاح أي من الإجراءات التقشفية سوف يبقى رهين عدم معارضة النقابات والأحزاب السياسية لها، خاصة أن التضحيات سوف يتحملها الموظفون وبقية أفراد الطبقة الوسطى قبل غيرهم.
#تونس #وزمنها #الاقتصادي #أسامة #رمضاني
تابعوا Tunisactus على Google News