جريدة المغرب | الشباب والسياسة
يكاد أن يتّفق الجميع على تشخيص واحد للوضع السياسي الذي تمرّ به التجربة الديمقراطية في بلادنا، وبالإمكان، وبكلّ بساطة تلخيص هذا التشخيص في كلمتان خفيفتان
على اللسان ولكنّهما ثقيلتان على الواقع وفي الميدان: “الأحزاب فاشلة”. ولئن كانت هذه الخلاصة جائرة أو ظالمة وتستوجب تدقيقا تارة وتصويبا تارة أخرى، إلاّ أنّ جانبا منها يبقى منطقيّا ومبرّرا خاصة بالنظر للكمّ الهائل من الانحراف والفساد التي مارسته هذه “الطبقة السياسيّة” وفي مقدّمتها الأحزاب والشخصيات التي اعتلت سدّة الحكم ولم تصلح في حال البلاد ولا العباد شيئا إلاّ تنفيرا من السياسة وتدنيسا للشأن العامّ بمختلف ميادينه واهتماماته. في السياسة، العبرة بالنتيجة، والنتيجة بعد 11 سنة من الثورة هي الفشل الذريع.
هذا الفشل على تعدّد سلبيّاته وعلى مرارة وقعه على حياة التونسيّات والتونسيّين، يحمل في عمقه الفكري بعدا إيجابيّا، فهو يعيد طرح موضوع أصليّ وضروريّ وهو: الشباب والسياسة. إنّ مصطلح الشباب أصبح مصطلحا تجاريّا يستعمل لتزويق البرامج الانتخابية وتأثيث الخطابات الدعائيّة، فكلّنا سئمنا الشعارات الجوفاء على شاكلة “شباب الغد” و “فرحة شباب تونس” و “الشباب شريك فاعل في بناء الوطن”، أمّا في الواقع، فقد مرّت سنوات شباب العديد منّا ولم نرى من هذه الشعارات شيئا، حتّى أصبح الشباب والسياسة خطّان متوازيان لا يلتقيان أبدا.
لعّل الأوان آن لكي نطرح موضوع الشباب والشأن العام من زاوية أخرى، من زاوية يتحمّل فيها الشباب مسؤولياته ويتخلّى عن سذاجته الفطريّة ويقطع مع الانتظار نهائيّا ويستخلص الدروس من التجارب السابقة، فالمشاركة في الشأن العام والانخراط في الهياكل الحيّة للمجتمع لا تعني بالضرورة الانخراط السياسيّ والانتماء الحزبيّ، هنالك قوى حيّة مدنيّة كالجمعيّات والمنظّمات والمبادرات، سواء على المستوى الوطني أو المحليّ، لابدّ أيضا من الإشارة إلى أنّ عدم الانخراط وعدم المشاركة في الشأن العام يعتبران فعلا سياسيّا يلقّب في الأنظمة الديمقراطية بالاحتفاظ. وهو ما تدفع تجاهه القوى السياسية الإيديولوجية لأنّ الاحتفاظ يخدم مصالحها حيث أنّ كتلتها الانتخابية (ضخمة كانت أو صغيرة) تمكّنها من الولوج إلى الحكم والسيطرة على مفاصل الدولة ورسم السياسات العامّة والتوجّهات الكبرى للدولة.
ولئن كان هذا العزوف أو “الاحتفاظ” مبرّرا في زمن الدكتاتوريّة باعتبار أنّه كان مفروضا، فقد أصبح بعد 2011 مرفوضا، فالشباب مدعوّ إلى المشاركة بقوّة وتجسيد حماسه وطموحه في الواقع وانتزاع حقّه بالفعل لا بالقول، والمشاركة في السياسة وفق المبادئ التي يؤمن بها، وينخرط في الأحزاب والجمعيات والنقابات التي تعمل وفق ممارسات ديمقراطية وتشرّك المنخرطين في صنع القرار لا في أحزاب تشتري الذمم وتتاجر بمآسي الناس وتستعمل المال الفاسد وتقيم التحالفات الانتهازية. على الشباب أن يستقلّ بذاته وأن يعلنها للجميع: الشباب يفعل.
السياسات التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة تجاه موضوع الشباب ودوره جلّها متشابهة وكلّها عقيمة، وعلى سبيل المثال نذكر السياسة المتّبعة في التشغيل، لم تتمكّن الحكومات من رسم سياسة واضحة في هذا المجال، وحتّى التكوين المهنيّ يعاني من التصحّر منذ سنوات حتّى أنّه أصبح من المسالك التربويّة المهدّدة بالانقراض، في المقابل، تواصل نسب البطالة والتشغيل الهشّ تحطيم كل الأرقام القياسيّة، هذا فضلا عن مئات آلاف الشباب الذي يحلم بالهجرة خارج أرض الوطن، سواء كان من المنقطعين عن الدراسة أو من حاملي الشهائد العليا. فالمنقطع عن الدراسة يبحث عن فرصة للتدارك وبناء المستقبل وحامل الشهادة العليا يبحث عن فضاء أرحب لتوظيف معرفته وتطويرها، وكلاهما يشترك في هدف واحد: شغل يضمن الكرامة.
إنّ منسوب الإحباط عند الشباب يرتفع من سنة إلى أخرى، والعديد منهم ينقطع عن الدراسة بصفة مبكّرة لعدّة أسباب لا سيّما منها الظروف المادية التي تعيشها العائلات خاصة منها القاطنة في مناطق أقلّ حظّا في التنمية. ويجد هذا الشباب نفسه مضطرّا للعمل في ظروف قاسية، إمّا في القطاع الموازي أو في أعمال موسميّة دون تغطية اجتماعية ولا آفاق تذكر. وأمام هذا الواقع المأساويّ، لا تطرح النخبة الوطنيّة أيّ بدائل ولا حلول متماسكة، ليبقى هذا الفراغ المشوب بالسخرية المسببة للشعور بالذنب متواصلا منتظرا سياسة توظيف حقيقية.
الحلّ قد يأتي من جوانب عدّة، إعادة إحياء قيمة التكوين المهنيّ مثلا ليصبح تكوينا متناسقا مع متطلّبات سوق الشغل ومتجاوبا مع متطلّبات العصر من تكنولوجيا وطاقات بديلة واقتصاد أخضر، ينبغي رسم سياسة اقتصادية حديثة وعصريّة تحمل في طيّاتها إرادة صلبة للتغيير، من هنا تنطلق سياسة التشغيل المستدامة، إلاّ أنّه وللأسف الشديد، لازالت الطبقة الحاكمة تقبع تحت قبضة المشاحنات والمزايدات وتعمل وفق سياسة ليبرالية فاشلة تقوم على دفع المبادرة الخاصّة.
إنّ الحكومة التونسية مطالبة الآن وحالا بالدفع نحو توسيع رقعة الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي حتّى يشمل التكوين المهنيّ ومشاركة حاملي الشهاد العليا في برنامج مثل “إيراسموس” والولوج إلى الجامعات الأوروبية المختصّة، كما يجب على الدولة التونسية ان تدعم دور الوكالة الوطنية للاستثمار حتّى تتمكّن هذه الأخيرة من الإحاطة بالتونسيين القاطنين بالخارج والراغبين في بعث مشاريع استثمارية في تونس ومرافقتهم لا سيما عبر لعب دور الوسيط بين باعث المشروع والسلطات الجهويّة والمحلية.
على الرغم من “استيلاء” المنظومة الحزبية على الساحة السياسية، إلاّ أنّ العديد من الشباب نجح في رسم آفاق سياسيّة واقتصادية لا سيّما عبر بوابة القطاعات المهنيّة كالإعلام والصحافة والثقافة، وبات اليوم من الضروري العمل على “تشبيب” هذه المهن لتصبح أكثر نجاعة من الجانب الاقتصادي والاجتماعي. لابدّ من التفكير في مضاعفة ميزانية الثقافة حتّى تشمل الفنّانين والحرفيين على المستوى الوطني والدولي.
إنّ مشاغل الشباب تستحقّ منّا جميعا وقفة تأمّل حقيقيّة وعاجلة، والتجاهل الذي تتعامل به السلط تجاه هذا الموضوع مؤذن بانفجار اجتماعي خطير خاصّة في ظلّ تواصل غياب أيّ دليل أو خطوة تجاه إيجاد الحلول المطلوبة لمشاغل الشباب. كما قد تبيّن بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ مشروع الاستشارة الوطنية الإفتراضيّة التي أطلقها الرئيس قيس سعيّد لا تطرح حلولا لإنتظارات الشباب، وعلينا أن نعي أنّ هذا الشباب لا يجد نفسه في مختلف البرامج السياسيّة المعروضة من قبل الأحزاب والمكونات السياسيّة الفاعلة في تونس، وإن تواصل الحال على ما هو عليه فمن المنتظر أن تشهد الفترات المقبلة وخاصة فترة ما بعد المرحلة الأولى من المشروع السياسي للرئيس الذي لم يلقى اقبالا من المواطنين والشباب المنشغلين بتدهور أوضاعهم المعيشية والاجتماعية، اضطرابات اجتماعية من شأنها أن تغذّي الأزمة الاقتصادية الحالية أكثر فأكثر.
حذاري، إن لم نذهب للقاء الشباب، فالشباب سيأتي للقائنا.
هالة بن يوسف نائبة رئيس حزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات
#جريدة #المغرب #الشباب #والسياسة
تابعوا Tunisactus على Google News