جريدة المغرب | برج بابل: هل نحتاج إلى تنمية أم نحتاج إلى حوكمة؟
تمكنت مقولة التنمية من الاستحواذ على كامل القرن العشرين تقريبا. هي مقولة تحليلية من إحدى مقولات البراديقم الاقتصادي والاجتماعي لتلك المرحلة.
ولكن مقولة التنمية لم تكن معزولة، لقد مثلت مع مقولات أخرى مثل العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي والتفاوت الاقتصادي والتبادل اللامتكافئ وغيرها من المقولات إحدى أهم ما أتت به العلوم الإنسانية والاجتماعية كأدوات لفهم الواقع وتحليله طيلة القرن العشرين.
وكان خطاب التنمية هو الخطاب الأكثر حضورا بعد تحول حركات التحرر الوطني إلى أنظمة حكم عليها مواجهة تحديات جديدة ومتطلبات شعوب تريد العيش في رفاه. لقد كان خطاب التنمية هو الشرعية الثانية لأنظمة حكم بعد شرعية الاستقلال. ولكن التنمية انحصرت في بعدها الأول في تحقيق إقلاع انتاجي اقتصادي يقع قياسه بالنجاح في تحقيق مؤشرات إيجابية في الإنتاج الزراعي وفي الإنتاج الصناعي وكل بلد اختار ما يناسبه، فهناك من الدول من اعتمد على الصناعات الثقيلة وأخرى على الصناعات التحويلية فيما اختارت دول أخرى التركيز على تنمية زراعية بما يحف ذلك من إدخال للتكنولوجيا وتطوير للإنتاج. ولكنها في النهاية اختيارات سياسية وإيديولوجية، وهو ما جعل المنوال التنموي في تونس يتحول من منوال اشتراكي خلال مرحلة التعاضد في ستينات القرن الماضي إلى اقتصاد السوق في سبعينات نفس القرن.
عرفت التنمية ومنوالها وكذلك خطابها أزمات عديدة منها ما يتصل بتوزيع الثروة والعدالة بين الجهات وتداخل مصالح المجتمع مع مصالح الحزب والدولة. وبرزت نتيجة لذلك انتفاضات اجتماعية رافضة لهذا الحيف كانت وراءه حركات نقابية وحركات طلابية وحركات اجتماعية أخرى. ودخلت مقولة التنمية بهذا المضمون في أزمة سياسية وأزمة أخلاقية وفقدت شرعية وجودها بين الناس. ولكن هذه المقولة عرفت كيف تعيد إنعاش خطابها بالتأكيد أن التنمية ليست فقط ازدهارا اقتصاديا بل هي أيضا تنمية للبشر ولقدراتهم وهي أيضا تنمية لتطلعاتهم وخصوصا لتطلعاتهم الفردية. ولهذا شهدنا بروز التنمية الفردية وتنمية الذكاء الفردي وتنمية القدرات العلائقية وتنمية القدرة على التصرف في الأزمات وغيرها.
ولكن تبقى التنمية في بُعدها الاقتصادي هي إحدى تحديات الدولة في عالم مُتجه بسرعة فائقة نحو العولمة منذ بداية القرن الحالي. وعلى الدولة أن تقدم الإجابات الكافية لتوزيع غير عادل للثروة ولبطالة متفاقمة ولجهات محرومة ولمشاريع معطلة. وهنا تتراجع مقولة التنمية تاركة مكانها لمقولة الحوكمة. ومقولة الحوكمة جديدة نسبيا حيث ظهرت للوجود في تسعينات القرن الماضي لتعلن عن شكل جديد لإنتاج الثروة وللمحافظة عليها. إن مقولة الحوكمة مثيرة للجدل ومزعجة لمن تحكم في اقتصاديات دول بأكملها. إذ الحوكمة هي الشكل والمضمون الديموقراطي للتنمية. تعتمد الحوكمة على التشاركية في التصرف في الأشياء وتعتمد أيضا على الشفافية في توزيع المعلومات وأخذ القرارات وهي إلى هذا كله تعطي فرصا لمن وقع إقصاؤهم وتعطي إمكانية أكبر للمحاسبة وللمراقبة.
لقد حققت الحوكمة إغراء كبيرا لكل المتداولين للشأن العام وزاد إغراؤها عندما طورت من أدائها بحلول تطبيقات رقمية ثورية ومنها سلسلة الكتل أو «البلوك شين» التي فتحت إمكانية مراقبة كل شيء تقريبا عبر تفتيت اللامركزية وجعل المعنيين بأي تداول مراقبين لبعضهم البعض ومتابعين بالتوافق وأمام مرأى الجميع لكل ما يتصل بنشاطهم. يمكن لهذا الأسلوب المتطور من الحوكمة أن يُطبق مبدئيا في نشاطات عُرفت بكثير من الفساد ومن السمسرة كمجال الأدوية مثلا وتوزيعها. في هذه الحالة تتيح تطبيقة سلسلة الكتل للجميع مراقبة حركة الأدوية بين المؤسسات الاستشفائية ومصدرها المركزي بحيث يكون الجميع ودون استثناء على بينة من أي تجاوز أو خلل ممكن والأهم من ذلك هو عدم وجود جهة تحتكر لوحدها المعلومة وتتصرف بها.
ونحن في مواجهة تحديات أزمة اقتصادية حادّة هل نحتاج إلى تنمية أم نحتاج إلى حوكمة؟ من المؤكد أننا نحتاج إلى حوكمة أكثر مما نحتاج إلى تنمية. وهذا يعني أننا نحتاج إلى ديموقراطية في مجال الإنتاج وفي إدارة المؤسسات بمختلف أنواعها بما يعطي إمكانية أكبر إلى فعل الإنصات لطلبات الناس وإلى ما يرغبون به وإلى ما يحقق لهم الرفاه. إن الحوكمة هي إذا تلك الصيغة التي تجعل المؤسسات قادرة على فهم التحولات المجتمعية وقادرة في نفس الوقت على تعديل بوصلتها بما يتيح لها الخروج من التهاوي الذي أصابها منذ سنوات وجعلها فاقدة للشرعية.
نحن لا نحتاج إذا إلى منوال تنموي بقدر ما نحتاج إلى من منوال للحوكمة…
المصدر
الصورة من المصدر : ar.lemaghreb.tn
مصدر المقال : ar.lemaghreb.tn