جريدة المغرب | تعميم الفقر ومأسسة الجهل …
في الوقت الذي ينغمس فيه أغلب التونسيين/ات في استهلاك ما توفّره وسائل الإعلام المرئية من وجبات «تنويمية»، والتفاعل النشط
مع قضايا تتصل ب’الزواج العرفي، تعدّد الزوجات … تنشر الهيئات والمنظمات التقارير الخاصّة بتدهور المقدرة الشرائية وارتفاع نسب الفقر في تونس واتساع «جغرافيته» ، وتعداد الفقراء والفئات التي ستكون أكثر عرضة للفقر والهشاشة ، وما سيترتب عن هذا الوضع من نتائج على مستوى الحرمان من الحقوق الطبيعية كالغذاء والسكن والمياه النقية والتعليم والصحة وغيرها.
غير أنّ مختلف وسائل الإعلام السمعية تتجنّب أو لا ترى أهميّة لفتح نقاش معمّق حول ظاهرة الفقر يشارك فيه أهل الاقتصاد، وأهل التاريخ وأهل القانون والمختصون/ت في العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع ، والأنتروبولوجيا والجندر وغيرهم/ن فنحن في شهر رمضان الذي اقترن في المخيال الجماعي، بالكسل والخمول والاتكالية والاستهلاك والعراك… وفي المقابل تكتفي بعض البرامج التلفزيونية بوصف نمط عيش من يقبعون في المنازل المتداعية للسقوط استدرارا لعطف المشاهدين فربّما تلين قلوبهم فيدفعون أو يتصدقون بما يملأ ”القفّة” .ولا حرج في هذه المواقف من انتهاك «حرمات البيوت» إذ لا كرامة لمن لا سقف له… ولا مانع من استباحة خصوصية القوم ومن تجاهل أخلاقيات الصورة La déontologie de l’imageفالفقير في نظر عند الإعلامي ،هو مجرد أداة لتحقيق ارتفاع نسب المشاهدة ومن ثمّة «نجاح» البرنامج.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى مختلف مكونات المجتمع إذ صمتت «القيادات السياسية» التي نفد رصيدها لأنّها لم تكن يوما في خدمة الفقراء أو المفقّرين بل شكّل هؤلاء «ماعون صنعة» في الحملات الانتخابية، وعجز أصحاب العمائم بدورهم، عن التأثير في الجمهور حتى تبرز آيات التضامن والأخوّة والمؤازرة في زمن الشدائد. واكتفت أغلب الجمعيات ببعض الأنشطة ولم يشكّل الفقر أولوية عندها لاسيما بعد ان قلّت الموارد وعمّ الاحباط أو فُقد الحماس… ولا نحسب أنّ أغلب الجامعيين في العلوم الاجتماعية والإنسانيات قد اعتبروا دراسة ظاهرة الفقر وثقافة الفقر… مواضيع ذات أولويّة وحريّة بأن تكون في صدارة مشاريع البحث المعمّق.
ولكن إلى متّى سيستمر الهروب من مواجهة الواقع المرير؟
لاشكّ أنّ ظاهرة الفقر هيكلية ومتعددة الأبعاد ومعقّدة وهي تتقاطع مع عدّة ظواهر أخرى كالأميّة والإقصاء والبطالة والهجرة اللانظامية والانحراف والعنف وغيرها.ولكن ما يسترعي الانتباه هو أنّنا أضحينا نعاني من العوز والفقر العاطفي والخواء الفكري في آن واحد ذلك. فالفقر فقران : فقر ناجم عن وضع اقتصادي متأزم جعل الجموع عاجزة عن سدّ الرمق وخلق فجوة بين الجنسين وبين الطبقات … وفقر إنساني مترتب عن مأسسة الجهل وانهيار منظومة القيم.
وبما أنّ المختصين في دراسات الفقر اتفقوا على توسيع دلالات المصطلح ليشمل علاوة على الحرمان من الحاجات الأساسية الحرمان من تقدير الذات واحترام الآخرين، والحرمان أيضا من الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والحرمان من الثقافة والإبداع فإنّنا نقدّر أنّ جميع التونسيين/ت يفتقرون إلى ما يحقّق لهم الإشباع العاطفي والنفسي والمادي والمعنوي… ويضمن لهم درجة من الأنسنة.
وإذا كان «الرئيس» قد حدّد «أولاوياته» المتمثلة في إعادة بناء نظام الحكم والمشهد السياسي والتاريخي الديني والاجتماعي والثقافي على هواه، ووفق قناعاته الخاصّة، وكان بذلك غير مكترث بـ«الضجيج» الذي يثار من حوله فإنّنا نقدّر أنّ أصوات المعوزين والمفقّرين والمنسيين والمقموعين ستسمع «من به صمم» وستكشف المستور: انعدام الخطط التنموية، فشل المناويل الاقتصادية، محدودية التصورات وعدم نجاعة السياسات، غياب العدالة الاجتماعية ، وتحيّز سوق العمل ضد النساء واستغلال أرباب العمل لهشاشتهن، وارتفاع منسوب العنف، وتدحرج الطبقة الوسطى، واستشراء الفساد والتهرّب الضربي، وغيرها من العلل …
وكلمّا انشغل الناس بسدّ حاجياتهم والركض وراء المادة وضاقت أمامهم السبل صار التفكير في الشأن العامّ والمشاركة السياسية والانتخابات والاستشارات والاستفتاء … ضربا من الترف الفكري الذي لا يقدر عليه إلاّ أصحاب الامتيازات الذين يسعون إلى تحقيق طموحاتهم أو هواماتهم أو مدينتهم الفاضلة.
#جريدة #المغرب #تعميم #الفقر #ومأسسة #الجهل
تابعوا Tunisactus على Google News