جريدة المغرب | ملف المياه والسياسات العمومية في تونس: عقل الدولة «الكسول» لا يعالج أزماتنا الهيكلية
فرض رئيس الجمهورية قيس سيعد في لقائه مع وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري محمد إلياس حمزة
موضوع ازمة المياه على الطاولة وقدم تعليمات لمعالجتها وفق مقاربة جوهرها «انساني» كما يشير الرئيس .
لكن هذه المقاربة للأسف لا تحول دون استمرار الخلل الذي عانت منه البلاد منذ سنة 2000 في علاقة برسم السياسات العمومية والتي تفاقمت منذ 2011. اذ بات العقل الناظم لشؤون الحكم في تونس عاجزا عن ان يستوعب معطيات اساسية هي التي تحدد نجاعة السياسات العمومية التي تتبع.
وأول المعطيات التي يقع اهمالها بشكل متعمد او دونه هي ندرة موارد الدولة التونسية وثانيا فشل منظومات الحوكمة المتبعة في ادارة الشؤون العامة ايا كان الملف الممسوك فان السياسة المتبعة فيه تقوم على عدم ملائمتها لحقيقة ندرة مواردنا.
و المفارقة القائمة هي ان السياسات العمومية المتبعة في ادارة الموارد والثروات الباطنية الشحيحة والنادرة بطبعها تقوم على الإسراف وسوء التصرف الذي يضاف اليه اهدار لجزء كبير من الموارد الطبيعية الشحيحة نتيجة ان جل المنظومات المشغلة والمستغلة لهذه الموارد تعاني من «ازمات هيكلية» عميقة.
«مكينة» الدولة التونسية اصابها داء قاتل حينما اصاب عقلها الناظم لشؤونها والراسم لسياساتها العمومية منذ 2000 كسل حال دون استيعاب ان جل ازمات البلاد ليست ظرفية او نتيجة لفساد بل هي ازمات هيكلية نجمت عن تقاطع جملة عوامل موضوعية وتعثر السياسات العمومية في استباق الازمات من ذلك ازمة المياه التي تعود مع كل صائفة إلى الواجهة لتثير الجدل وتصبح موضوعا للنقاش العام قبل ان تتوارى مع حلول فصل الشتاء وتنتظر الى ان تتزامن موجات الحر الشديد مع انقطاع في التزويد بالمياه الذي يصيب عدة مناطق تونسية لتعود لواجهة الاحداث من جديد.
ازمة المياه قد تكون مثالا جيدا عن تعثر السياسات العمومية في ادارة الشأن العام وحسن استباق الأزمات فتونس ومنذ سنة 1995 باتت تصنف من الدول التي تعاني من ضغط المياه وذلك نتيجة التغيرات المناخية وايضا عدم توازن استهلاكها السنوي من المياه سواء الجوفية او من السدود مع نسب التجديد. اذ يتجاوز الاستهلاك بكثير الكميات التي يقع تجديدها اي يقع تعبئتها في موسم الامطار. وهذا الخطر تفاقم في ظل تأخر رسم سياسات عمومية تعالج الازمة وليس تابعاتها في محاولة لتقليص اثرها لنصل اليوم الى مرحلة الفقر المائي بان يكون نصيب الفرد دون 500 متر مكعب من المياه سنويا اذ ان نصيب التونسي اليوم هو في حدود 420 متر مكعب ومرشح ان يتراجع ليكون في حدود 350 متر مكعب سنويا.
هذا هو الواقع التونسي الذي نحن امامه واستمرار مسار تأزمه هو نتيجة للسياسات العمومية المنتهجة خلال السنوات الـ27 الفارطة والتي لم تعد رسم سياسة عمومية تحسن ادارة ملف المياه في مختلف تفاصيله، من تجميع الى تخزين وتوزيع واستغلال.
ففي كل مرحلة من هذه المراحل الاربع يتضح ان السياسات العمومية لم تعد فقط غير ملائمة بل ومعيقة لحسن ادارة الثروة المائية في دولة تصنف على انها مهددة بالجفاف ومع ذلك فأنها متاخرة في انجاز مشاريع بناء سدود جديدة ظلت متعثرة منذ 2015 كما ان السياسات العمومية لم تتغير بهدف حسن تعبئة الموارد المائية بطريقة ناجعة تحول دون اهدار موسم الامطار اضافة الى ان وضعية جل السدود الـ37 تستوجب تدخلا اما لتوقف الاستغلال لعدم الصلاحية او للصيانة لارتفاع منسوب الرواسب والتبخر.
لكن ليس هذا فقط ما يعبر عن تعثر السياسات العمومية بل حينما نلج الى مرحلة التوزيع والربط بالشبكة نسجل اهدار لـ30 % من المياه الموزعة جراء تقادم شبكة التوزيع وبلوغها مرحلة التآكل فباتت تهدر جزء هاما من المياه المنقولة من خلالها. وهذا الامر معلوم للسلطات التونسية وتعلنه هي في خطابها الرسمي.
وملف المياه وأزمته الهيكلية ليس إلا عينة عن ازمة اعمق واشمل اصابت الدولة التونسية وطالت جل منظوماتها الخدماتية او الانتاجية والسبب ان السياسات العمومية اليوم لم تعد سياسات استباقية تتوقع الازمة وتستبقها بحلول وسياسات ناجعة بل غرقت منذ سنوات عشر في المعالجة اليومية اي في ادارة البلاد من منطلق «كل يوم بيومه» دون رؤية اشمل او مخطط يتجاوز اليومي والطارئ ويؤسس لسياسات عمومية فعلية.
فادارة الشان العام لا تستقيم دون سياسات عمومية ولا سياسات عمومية دون استباق واستشراف لا فقط للازمات بل للفرص والأفاق. وهذا ما غاب عن تونس خلال سنواتها الاخيرة لا فقط في ملف المياه بل في جل الملفات، وهي كثيرة.
اليوم لا يختلف عاقلان في ان طبيعة الازمة الهيكلية التي تعيشها الدولة التونسية في جل منظوماتها الانتاجية والخدماتية جزء منها بالأساس نتيجة فشل سياساتها العمومية وغياب الحوكمة عنها وهذا الخلل لا يعالج بخطاب سياسي يقتصر فقط على النظر الى جزء من الصورة ويغفل عن كاملها.
ملف المياه وخلله الاساسي في تونس لا يمكن اختزاله في عنصر وحيد البحث فيه عن كبش فداء لامتصاص الغضب، بل هو ملف نموذجي عن سوء التصرف في موارد محدودة ومعالجته تنطلق اولا باستيعاب حقيقته وهي اننا دولة «فقيرة» اذا تعلق الامر بالثروة المائية وعليه فان سياساتنا العمومية يجب ان ترسم وفق هذه الحقيقة وليس وفق تصورتنا او امنياتنا.
#جريدة #المغرب #ملف #المياه #والسياسات #العمومية #في #تونس #عقل #الدولة #الكسول #لا #يعالج #أزماتنا #الهيكلية
تابعوا Tunisactus على Google News