جريدة المغرب | منبــــر: الأبعاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة في الدستور
تعيش تونس مرحلة صعبة في مسارها للانتقال الديمقراطي. هذا المسا ر بطبيعته يعرف المد والجزر وقد يطول حتى يستقر النظام السياسي الجديد بالدستور والمؤسسات
التي تركز دولة القانون. وما من شك أن العثرة التاريخية التي عرفتها البلاد في العشرية الماضية وتداعياتها الأمنية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية الوخيمة قد ساهمت في تردي الاوضاع وفي تصاعد الغضب الشعبي أمام التوجيه المضلل للمسار من طرف الطغمة الحاكمة التي تتصدرها حركة النهضة الممثلة للإسلام السياسي في تونس. ومن هنا جاءت انتفاضة 25 جويلية 2021 وتجاوب قيس سعيد معها.
كنت قد كتبت في الأسبوع الموالي لـ 25 جويلية عن رمزية الحدث التاريخي الذي يتميز في تا ريخ الشعوب بكونه قد يمثل نقطة فريدة مفصلية بين ما قبل ذلك التاريخ وما بعده. واستعملت عبارة «قد» إذ ليست هناك حتميّة في التاريخ وهناك عديد من العوامل التي يجب أن تكون فاعلة حتى تجعل منه لحظة فاصلة. وفي الحقيقة لا بدّ من زمن قد يطول أحيانا حتى نعتبر اللحظة حقيقة فاصلة. وليس لي من الحجج الدامغة التي تمكنني من تقييم انفرادية (singularité) الحدث كما هو الشأن لـ 20 مارس 1956أو 25 جويلية 1957 على سبيل المثال. والأسباب عديدة. فمنذ جويلية الماضي نعيش حلقة انتقالية صلب المسار الانتقالي المتعثر. وفي هاته الحقبة تولى رئيس الجمهورية جمع كل السلط بعد حلّ البرلمان وتعيين رئيسة حكومة مسؤولة أمامه.
هنا، لا اريد التوغل في الجدل العقيم حول الشرعية والمشروعية لان الأشكال الأساسي هو سياسي بالأساس. إنّ ما نعيشه اليوم يطرح عديدة التساؤلات حيث لابدّ أن نقبل أن هناك احساسا بالحيرة والشك (incertitude) والضبابيّة والتخوف المشروع: فإلى أين تذهب تونس؟ هذا، خاصّة وأنّ البلاد تعيش أوضاعا اقتصادية صعبة جدا (اختلال لكل التوازنات الاقتصادية الكليّة حيث تلوّنت أهم المؤشرات بالأحمر: عجز ميزانية الدولة، عجز في ميزان الدفوعات الخارجية الجارية، التضخم، وتفاقم المديونية…). كل هذا ينعكس سلبا على نسق النمو المتدني منذ سنين وعلى سلة المواطن المتدهورة ويتسبب في توترات اجتماعية قوية قد تهدد السلم الاجتماعي والتماسك المجتمعي مع تقلص القدرة الشرائية وتفاقم الفقر والتفاوت الاجتماعي.
فالمسألة الاقتصادية تحتلّ الصدارة عند المواطن، وهذا ما قد يجعله غير مهتم بالرهانات السياسية: أيّ شكل للحكم، أيّ نظام انتخابي…؟ لكن النخب بكل مكوناتها تولي، بالمقابل، كل الاهتمام لهذه المسائل السياسيّة. ولا يمكن أن نبرّر تغيّبهم عن المساهمة الفعلية في نحت مستقبل البلاد السياسي ومن ذلك صياغة نصّ الدستور الجديد. فلا سبيل للتقليل من دور المنظمات الاجتماعية والأحزاب المنخرطة في المسار التصحيحي في الحوارات حول الدستور.
بالنسبة للاتحاد العام التونسي للشغل، مهما كانت او تكن الانتقادات التي يمكن توجيهها لزعاماته، فإنّه يبقى شريكا محوريا ولا يمكن الاستغناء عنه بالنظر إلى ثقله المجتمعي والتاريخي. فيرجى أن يُتدارك القرار ويُصوَّب لما فيه من مصلحة وطنية كبرى. فالسياسة فنّ الممكن ولا حرج في إعادة النظرفي هذا القرار. وحتى المراسيم والقرارات والمواعيد يمكن أن تلغى او تُصحّح طالما يخدم ذلك الصالح العام. فهذا هو المأمول اليوم.
وكما ورد سالفا، إذ تحتل المسألة الاقتصادية الصدارة في الوضع الراهن للبلاد فلابد للدستور الجديد من ايلاء هذه المسالة اهتماما كافيا. فليس من غير المألوف أن تحتوي الدساتير على مواد ذات محتوى اقتصادي أو اجتماعي أو بيئي. ومن الأمثلة على ذلك الدستور الإيطالي لعام 1947 أو أول دستور برتغالي بعد سقوط الديكتاتورية واللذان أسسا للإصلاح الزراعي والحدّ من ملكية الأراضي. وكذاك، يتضمن دستور جمهورية ألمانيا الاتحادية أحكاما دستورية تتعلّق بوضع حدود للعجز في الميزانية.
واليوم وبمناسبة صياغة مشروع دستور جديد فلا بّد من استحضار هذه الأمثلة ومناقشتها. فهذه مسائل اجتماعيّة واقتصاديّة وبيئيّة وحقوقيّة وسياسيّة هامة على حدّ السواء. لذلك، أود أن أقدم، بكل تواضع، بعض الاقتراحات التي قد تكون مفيدة لتكريس الجانب الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في الدستور الجديد.
ومن هذا المنطلق أقدم هذه المقترحات الموجزة التي قد تؤسس لصياغة نصٍّ من قِبل أهل الاختصاص.
ويمكن تلخيصها في جزأين كما يلي:
1. التنصيص على الحقوق الأساسيّة في ضمان العيش الكريم:
لذلك لا بدّ من التنصيص على أنّه «على الدولة ان توفر كل الشروط الضرورية، من سياسات وتدابير وتشريعات، وأن تخصّص الموارد الوطنية، أو المتأتية من المصادر الدولية، اللازمة لتفعيل الحق في مستوى مرضي من العيش الضامن للكرامة، والعمل على تحسينه والحيلولة دون تدهوره وذلك لجميع الأفراد والمجموعات. ومن ذلك الحق في التغذية السليمة والكافية وفي الصحّة الجيّدة وفي الماء ذي الجودة المرضية وفي الشغل اللائق بأجر منصف يحقق العيش الكريم».
2. التنصيص على الحق في تنمية عادلة ومستدامة.
فالعدالة الاجتماعية مطلب اساسي للثورة التونسية. وهي تشمل العدالة في المداخيل والثروة والجباية وفي الشغل والتعليم والصحة وبين الجنسين وبين الجهات. كما أنّ العدالة لا يجب أن تقتصر على الاجيال الحالية بل يتعيّن أن تشمل كذلك العدالة بين الاجيال. فمن واجب الجيل الحاضر ألا يعيش على حساب الاجيال القادمة ويرتهن مستقبلها بالتداين المفرط والاستغلال غير المستدام للموارد الطبيعية خاصة غير المتجدِّدة منها، لا سيما وان تونس تشكو من معضلتين خطيرتين تتمثلان في الشُّحِّ المائي والتصحّر والتي قد تتفاقم في ظلّ تغيّر المناخ.
لذلك يجب تضمين كل ذلك في الدستور الجديد مع التنصيص ايضا على أنّه « على الدولة أن تأخذ كل التدابير لمقاومة انعكاسات التغييرات المناخيه وأن تعمل على المحافظة على الموارد المائية والسمكية وعلى التربة والغطاء النباتي والبذور والسلالات الأصيلة».
3. تضمين مبادئ السّيادة الغذائيّة بالنّصّ الجديد وذلك «للحفاظ على حقوق صغار المنتجين وتجار المواد الزراعية والغذائيّة، والمستهلكين، ووضعها في صدارة أولويّات المنظومات الغذائيّة وفقا للحق في التغذية السليمة الملائمة والمُنْتَجة بطرق بيئيّة ناجعة ومستدامة».
4. إلى جانب التنصيص على ضمان الدستور لحقّ الملكيّة والمبادرة الحرّة يتعيّن التنصيص على الدّور الاجتماعي والتعديلي للدّولة وذلك بالخصوص من خلال التركيز على تحقيق العدالة الاجتماعية والتماسك الاجتماعي والعمل على الحفاظ على علاقات مهنيّة سليمة ومتكافئة مبنية على الحوار الاجتماعي الذي ترعاه.
#جريدة #المغرب #منبــــر #الأبعاد #الاقتصادية #والاجتماعية #والبيئية #في #الدستور
تابعوا Tunisactus على Google News