حفريّات في أدب النساء لهاجر حرّاثي: محاولة وصل ما انقطع | القدس العربي
تخصيص بحث في تراث المرأة العربيّة أمر لافت قليل الشيوع، مقارنة بالدراسات النسويّة المعاصرة. واتخاذ هاجر حرّاثي من الحفريات عنواناً لكتابها يوجهها نحو قصديّة يكفلها مصطلح فوكو «الحفريات». وهذا يضعها أمام تحديين؛ الأول: دقة ما تجمعه، والثاني إضافه التوجيه اللازم والتأويل المقنع المرهونين لقضية النساء الكبرى المنغمسة في نسق التهميش والإقصاء، وهو ممارسة ترقى إلى مستوى النسق الثقافيّ عانته المرأة العربيّة أزمنة متعاقبة حسب ما انطلقت منه فكرة الكتاب. ويقتضي الحفر كشف المغطى واستخراجه من غيهب الضياع، وإعادة إبرازه إبرازاً أيقونياً يليق بمكانته ودوره في السياق الانثروبولوجيّ والسيسيولوجيّ المنتظر من المرأة العربيّة، وهو نشاط ذهنيّ وعلميّ يجعل الباحث ينتقل بين العصور والأزمنة من أجل الوصول لفهم الذات البشريّة في مختلف خطاباتها. والحفر في هذا المستوى يتطلب إعادة قراءة ما قُرئ بأدوات بحثيّة جديدة قادرة على اختراق النّصوص وتوجيهها.
صدر كتاب «حفريات في أدب النساء وأخبارهن» للدكتورة هاجر حراثي عام 2022 عن دار زينب في تونس في 285 صفحة ضمّ بابين وتسعة فصول. وهذه الفصول بحوث ومشاركات علمية يوحّدها موضوع المرأة في سياق الإنتاج الثقافي. حمل الباب الأول عنوان حفريات في تاريخ النساء، والثاني حفريات في نماذج من أدب النساء، وقد انشغلت ستة فصول من الدراسة بتراث المرأة العربيّة المستتر وإبرازه للعلن مدروساً وموجهاً، وثلاثة فصول اشتغلت على المرأة العربيّة المعاصرة في سياق الإنتاج الروائيّ الذي برزت فيه.
في مقام المنهج
ينطلق الكتاب من أساس منهجيّ واضح المعالم توزع ما بين الانثروبولوجيا، والسيسيولوجيا، والسيميائيّة، والنقد الثقافيّ، والنظريّة النسويّة، والنظريّة التفاعليّة الرمزيّة، والمنهج النفسيّ. وهذا تنوّع كبير في المنهج فرضه تعدّد الإشكاليّات التي يعالجها الكتاب. وتجمع المعالجة بين وظيفتين هما: وظيفة تاريخ الأدب وما يستلزمه من تقصّ وتحقيق وجمع وتصنيف، ووظيفة النقد الأدبيّ بما يقتضيه من دراسة وتحليل وتأويل وتوجيه، فالحراثي لا تتقدم في تحليلها للظواهر دون أن تتقلد حجة منهجيّة، فضلاً عن وقوفها المطوّل عند جلّ المصطلحات وبعض الأعلام بالتعريف والتوضيح، وهذا يحتاج إلى جهد كبير، وإن ظهر شيء من المبالغة في مسألة التأطير المنهجيّ في بعض الفصول، وكثرة اقتباس من آراء المفكرين والنقاد أحياناً حدّ من حريّة حراثي في التحليق اللازم للنفاذ إلى بعض النصوص واستنطاقها. وقد أنتجت حرّاثي مصطلحات أحسبها جديدة تستحق البحث كـ «الرضا الجسدي» لدى المرأة، و»الاستراتيجيّة المظهرية للنساء» وغيرها من المصطلحات التي تتناسب مع فكرة الحفر في تاريخ المرأة العربيّة.
مقام المدوّنة
والمدونة غاية من غايات هذه الدراسة، طالت ما أنتجته المرأة العربيّة في التراث، وشيئا مما أنتجته في الرواية المعاصرة، بغية إظهار الإسهامات الحقيقية للمرأة العربيّة في الأسانيد المعرفيّة للمدوّنة العربيّة الممتدة أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان. وهذه صعوبة جمّة وغوص مؤلم وشاق، لكنه مثمر ومغدق لمن يحسن التواصل المعرفيّ مع التراث. وقد أفلحت حرّاثي في كشف مظاهر عديدة مما هُمّش في حياة المرأة العربيّة، وعلى لملمة شتات الموضوع من أمهات الكتب، كالأغاني، والبيان والتبيين، والعقد الفريد، وخزانة الأدب، والموشى، والأمالي، وعيون الأخبار.
مقام السؤال
يحاول كتاب «حفريات» إثارة تساؤلات موجهة مفادها: هل المرأة العربيّة قادرة على بناء صورتها بمعزل عن أدوات الهيمنة التي فرضها المجتمع على المرأة بأدوات ذكورية مستحوذة؟ وكيف يمكن لتفاصيل الحياة اليومية للمرأة وممارساتها القوليّة والفعليّة أن تقرأ قراءة ذات جدوى وإنتاج؟ كيف أن هذه الممارسات هي نظم اجتماعيّة توصلنا إلى العلاقات القائمة فيما بينها انثربولوجياً؟ لماذا تهتم المرأة بالتفاصيل؟ وكيف تتجلى خصوصيّتها في ذلك؟
مقام المنطلق
ترفض حرّاثي فكرة مركزيّة الرجل في الثقافة العربيّة، وما يقابله من «دونية المرأة» وتبعيتها المعرفيّة لأدوات الرجل، ورفض الصورة النمطيّة للمرأة العربيّة في سياق الإنتاج الثقافيّ، وصولاً إلى إعادة النظر في المسلمات والبدهيات التي ارتبطت بالنساء عند العرب، بمراجعة ما أنتجنه وما أنتج عنهن وما أنتج لهن؛ لذا تنطلق الدراسة من فرضيّة أن التاريخ المعرفيّ للمرأة العربيّة قد جرى تهميشه قصداً. وهنا أقول إن فعل التدوين هو فعل سلطة. ومن يدوّن يمارس هذه السلطة والسؤال الذي يبرز: لماذا لم تمارس المرأة فعل التدوين وقد وصلت إلى مناصب سياديّة تتيح لها مثل ذلك؟ لماذا كانت تنتظر أن يُقال عنها لا أن تقول؟ هل ارتضت أن تكون نصّاً لا مدوّناً لهذا النص؟. يحاول كتاب «حفريات» الكشف عن دور المرأة الفعليّ في رفد الحياة الاجتماعيّة بالأنشطة والممارسات التي لا يحسنها الرجل، كممارسة الضيافة بوصفها طقساً اجتماعياً يرقى إلى العبور ويعكس القدرة على التواصل.
مقام الوسيط
يتخذ الرجل دور الوسيط في سياق الحديث عن أخبار النساء وحُليهن في المدونة التراثية. وقد استشهدت حراثي باثنين وعشرين شاهداً عن حليّ المرأة وردت على لسان شعراء رجال، فكان الرجل راوياً والمرأة مروية، يظهر فيها الراوي قدرته على الإحساس العالي بالمرأة ووصف حليها، جامعاً بين الحسّيّ والمعنويّ، فتنمو المرأة بين كلمات الشاعر الرجل. لقد اتخذ حُلي المرأة مقام الوسيط في الرمز والإيحاء والتلميح، فالحُلي غدا قاعدة من قواعد التواصل. والحلي وسيط طبقيّ مهم وطقس اجتماعيّ حاسم.
والسؤال الذي يُثار في هذا السياق: كيف تلقّى الشاعر العربيّ حُلي المرأة المحبوبة؟ وما دور الشاعر العربيّ القديم في استظهار قيمة المرأة وتقدير جمالها؟ ألم يكن الوسيط الأمين على ذلك؟ أذكر أن معظم من نقل تاريخ النساء وحمل إلينا تاريخهن هم الرجال وأودعوا أخبارهن أهم كتبهم، فأين المرأة من عالم التدوين؟ وهل قصّرت المرأة المثقفة قديماً في بلوغ هذه الغاية؟
مقام النسق
والبحث في أخبار النساء وأدبهن يخلّف في طريقة المعالجة أنساقاً ثقافية تستحق الدرس، كنسق تجزيء التاريخ. فهل هناك تاريخ للرجال وآخر للنساء أم أنّهما يصنعان التاريخ الجمعي؟ وأرى أنّ الأدب الرسميّ أدب نخبويّ قائم على فعل الانتقاء، وما قدمته أمهات الكتب هو مختار ومقصود لذاته ضمن اشتراطات مؤسساتيّة نقديّة ولغويّة وأدبيّة.
كما أنّ الإصرار على فكرة مصادرة الرجل لتاريخ المرأة يوقعنا في نسق مضمر آخر يمكن أن يُجزّئ المعرفة. فهل كان بمقدور الرجل اجتماعياً اقتحام مجالس النساء ومباغتة خصوصيتهن وتدوين أحاديثهن دون إذن، في ظل ضوابط حاسمة وضعها المجتمع لتنظيم دخول الرجال على مجالس النساء؟
إن لمجالس المرأة العربية خصوصيّة حدّدت سياقات انتقال المعلومة وتوثيقها، وإن ما نقل من أخبار النساء الأحرار هو ما أردن أن يُوثق عنهن. وهل هناك إثبات أو إشارة على أنّ المرأة مارست فعل التدوين ثم أزهق وأحرق ما دونته؟ إن التهميش فعل شمل مجالس النساء وغير النساء، بعيداً عن ثنائيّة الرجل والمرأة، قريبا من ثنائية السلطة والعوام. هناك مرجعيّة ثقافية سلطوية كان لها اليد الطولى في الإبانة أو الحجب. كقمع سيدات المجالس للجواري ومصادرة آرائهن مثلا، وقد كشف دراسة الحراثي عن الكثير من شخصيات النساء المثقفات اللائي مارسن سلطة ثقافيّة بيّنة كـ«حمنة» و«عائشة بنت طلحة» و«سكينة بنت الحسين» و«ليلى الأخيلية» و«عزة الميلاء» و«بوران» صاحبة إسحاق الموصلي، وسلطتهن لا يمكن أن تصب في صالح تدوين أخبار النساء بقدر ما كانت عوناً للسلطة.
أما التشيّوء فنسق بحدّ ذاته، إذ يكتمل الرجل بذاته وأفعاله، ولا تكتمل المرأة إلا بأشيائها وموجوداتها، وهذا يوقع أحياناً في نسق تشييء المرأة لذاتها، والسبب الاستجابة المفرطة للمعايير الاجتماعية لاتخاذ الحُلي وسيلة للتعبير عن الذات والمقام. والتشيّؤ تحوّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء، وفيه يتحول الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حوله فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء، والإنسان المتشيّئ إنسان قادر على الإذعان للمجردات المطلقة وأن يتوحّد بها ويتصرف على هديها، فتنطبق عليه الصفات التي تنطبق على الأشياء، مما يغيّر من طبيعته وماهيته. أما الرجل في رصده لذات المرأة فيتخذ من أشيائها مركزيّة للرؤية في الرصد والحديث، وتكون الأشياء كالحُليّ مثلاً منطلقاً في اكتشاف الآخر.
مقام المسكوت عنه
ومن القضايا التي سكت عنها الكتاب التعمّق في الوظيفة الأيروسية للحُلي كما قصدتها المرأة في إطار بيولوجي سامٍ، يقابله قدرة اللغة الشاعرة على ضبط انفعالات الجسد وتحويل ذلك إلى سياق استعاري راق أو طقس عبور إلى ذات المقصودة، ومن ذلك قول الأعشى ميمون قيس: «تسمع للحَلي وسواساً إذا انصرفت … كما استعان بريحٍ عشرقٌ زجلُ».
ومما سكت عنه الكتاب التعمق في سيكولوجية المرأة عندما تسيء استخدام الهديّة في إبراز سلطتها حتى على بنات جنسها كما فعلت عائشة بنت طلحة. ومما سكت عنه الكتاب التعمّق في مسألة أسبقيّة المرأة العربيّة في مفاهيم الإتيكيت المعاصرة، وكيف أن المرأة العربية تعدّ من المبكرات في استظهار أصول الضيافة وحسن استقبال الضيف، وهذا يحتاج إلى توسيع وتأمل.
أما في مبحث الأنساق الثقافيّة في وتحديداً «نسق السحر في سيدات القمر» فقد لاحظت وقوفاً طويلاً عند الأنساق المعلنة لا المضمرة، والنقد الثقافي يشتغل على المضمر أكثر، وقد وقفت حراثي عند نسق صنفته مضمراً وهو «دونية المرأة» وأرى أن هذا النسق مقصود لدى جوخة الحارثي في روايتها «سيدات القمر» وعليه لم يعد مضمراً لأنه دخل في وعي الكاتبة الموجّه، والمضمر يجب أن يمرّ من النصّ دون إذن صاحبه. أما تفسير وجود هذا النسق بالهيمنة الأيديولوجية للذكورة على المجتمع فأجده يتعارض مع فكرة أن الرواية كتبتها امرأة.
ختاماً
في السياق العام للدراسة، عزت حرّاثي قلة مدونات النساء الأدبيّة في المصادر وكثرة ما دوّن عن المرأة إلى العقليّة التي أشرفت على تدوين الموروث، والسؤال ألم تكن الذائقة العربية حريصة على تدون ما هو نخبويّ في الغالب الأعم، وما يستحق أن يُكتب ويُنقل؟ وبنظرة عجلى إلى عصرنا هذا عصر الانفتاح المعرفيّ، نتساءل: ما وزن أنتاج المرأة في الشعر إلى ما ينتجه الرجل مثلاً؟ ولماذا إنتاجها في هذا المجال ما يزال خجولاً قياساً إلى إنتاجها في السرد؟ ألم تكن بوصلة الإبداع في التراث تنطلق من الشعر وتتحلق حوله؟
ومع ذلك، فقد شكلت مجالس النساء وصالوناتهن الأدبيّة مساحة عريضة في تاريخنا الثقافيّ امتد عبر أربعة عشر قرناً، كانت المجالس القديمة للمرأة العربيّة مقدمات خصبه لانبعاثها في العصر الحديث، بينما الأوروربيون لم يعرفوا هذا المجالس إلا منذ ثلاثة قرون فقط. وقد فعلت هاجر حراثي خيراً عندما كشفت أثر الصالونات العربيّة المبكرة في نشوء مثيلاتها في فرنسا، فاتحة المجال في مشروعها البحثيّ هذا إلى العديد من الظواهر التي أفرزتها المجالس وتستحق الدرس والتأمل.
ناقد وأكاديمي من الأردن
#حفريات #في #أدب #النساء #لهاجر #حراثي #محاولة #وصل #ما #انقطع #القدس #العربي
تابعوا Tunisactus على Google News