حكايات عن «فن المقاومة» وأعلامه – إضاءات
للمقاومة وقعٍ مدوٍّ في قلوبنا وآذاننا، إذ ما إن نفكِّر فيها أو نسمع أزيز رصاصها حتى ترتسم في عقلنا الجمعيِّ صورة الطفل الشهيد «محمد الدرة» ووالده في فلسطين المحتلَّة، وتظهر ضحكة الرضيعة «يقين القرمازي» التي ماتت اختناقًا بالغاز المسيل للدموع إبَّان ثورة الياسمين في تونس، قبل أن تلوح لنا أخيرًا وليس آخرًا في الأفق البعيد صورة «آيلان»، ذاك الرضيع السوري الذي مات مرميًا على شواطئ اللاإنسانية، في محاولة بحثٍ عن الوطن.
المقاومة مشروع إنساني يتعدَّى البنادق وطبول الحروب، مُصافحًا الأدب ومُتشبثًا بالفنِّ الذي اعتبره المسرحي الألماني الكبير «برتولت بريشت» مطرقة يمكن بها تشكيل الحقيقة. في السياق نفسه يقول الزعيم الشيوعي الصيني «ماو تسي تونغ» إنه «يجب جعل الأدب والفن جزءًا فعَّالًا من جهازنا الثوري، ليصبحا سلاحًا قويًّا، به نوحِّد ونثقف شعبنا، ونهاجم ونحطِّم العدو، ونساعد شعبنا، ليتمكَّن من محاربة العدوِّ بقلب واحد وإرادة واحدة»، مؤكدًا بذلك على قوَّة القلم والكمان والمزمار في شحذ الهمم وكسب الحروب والدفاع عن الأوطان. ولكن أي فن وأي أدب هذا الذي تحدَّث عنه؟
ظل التفكير في ماهية الفن والبحث في معناه ونبش أهدافه سؤالًا فلسفيًّا لازم الإنسان منذ بداياته الأولى، حتى قيل إنه قد وُلد من رحم فكرة استعمال الإنسان الأول للحجارة، أي قبل ما يقارب 40 ألف سنة، فشارك البشرَ اكتشافاته الأولى وساعده منذ العصر الحجري القديم على توثيق انتصاراته فوق جدران الكهوف. تباينت الأطروحات والتفاسير حول الغاية من هذه الرسومات الكهفية التي عُثِرَ عليها آنذاك، حيث ذكرت مجلة Nature في إحدى مقالاتها عام 2018، أن كهفًا من كهوف جزيرة بورنيو يعود في جزء منه إلى ما بين 52 ألف و40 ألف سنة من قبل.
خرج بعدها الفن من ظلمة الكهوف إلى النور، ومن حيل الصيد إلى قصائد المقاومة. مشى معنا في دروب الحياة وعاش مثلنا النمو والخيبات، ثم تدفق كتدفق المياه والأنهار وصار قاعدةً وقانونًا من قوانين هذا الوجود. خرج هذا الفن المكتوب والمرسوم والمسموع من قوالب الإمتاع والإبهاج وإبعاد الخيبات، وخطا أولى خطواته بعيدًا عن البلاط وعن رغبات الملوك ولذَّاتهم، وذلك في قالب فن التزم بقضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية، فحرَّر الإنسان وتحرَّر معه من قيود الدنيا.
من البديهي أن نُعرِّف أولًا الفن الملتزم قبل ولوج عوالمه والسهر رفقة أبطاله، فنقول على لسان الكاتب الفرنسي «بونوا دوني» في كتاب «الأدب والالتزام (من باسكال إلى سارتر)»، إن: «هذه الكلمة [أي الالتزام] تعود إلى نوع من التعاقد بين أطراف مختلفة»، ويُقصد بالأطراف هنا الفنان والمجتمع، أو الفنان والفئة الشعبية التي ينزاح لها ويدافع عنها ويؤمن بقضاياها. هكذا، يُفهَم الالتزام على كونه وعدًا يجمع بين الأديب والفنان الصادق وجماعة تُشاركه رؤيته للأشياء أو للأوضاع دون أن تكون لها أدواته في التعبير عن ذلك بأساليب مختلفة، ويُلخِّص الملتزم في كونه صوت مَنْ لا صوت لهم وقلم مَنْ لا يكتبون.
بهذه الكلمات واجه «نجيب الريِّس»، صحفي سوري، سنوات سجنه بعد معارضة الاستعمار الفرنسي لسوريا، مُتجاهلًا الخوف والرعب الساكن في عصيِّ السجَّانين.
بكلمات وألحان مماثلة ورثت من هذه الأرض قوَّتها ومن هذه السماء نقاءها، استمرَّ آخرون في نضالهم حتى صاروا عنوانًا للمقاومة وللصمود في وجه العدو الداخلي والخارجي، سواءً كان غولًا دوليًّا أو نظامًا مستبدًّا.
يقول
الشاعر الفلسطيني «سميح القاسم»
في
قصيدته «سأقاوم»:
تغنَّت بهذه المقاومة التي كتب عنها سميح، لروحه السلام، فلسطينية الجنسية تونسية الهوى «ريم بنَّا»، رحمها الله، حتَّى صارت مفهومًا وممارسة قريبة منَّا ومن قلوبنا، وحتَّى استحالت ترانيم فلسطين جزءًا من يومنا. نجحت طيلة مسيرتها الفنيَّة في دمج التهاليل الفلسطينية التراثية بالموسيقى الحديثة وأعادت إحياء التراث والقضيَّة الأم بتحريك الذاكرة الجماعية وتأجيج نيرانها.
كانت صوت محمود درويش في أغنية «أثر الفراشة» وقلب بدر شاكر السياب في أغنية «لا تزيديه لوعة» وعراقه في «غريب في الخليج». كانت تغنِّي «يا طالعين للجبل» حتى يصير صوتها صراخ المواساة الذي تردده النساء الفلسطينيات كلما زرن الأبطال المحتجزين في سجون الاحتلال. كانت تبكي طول الليالي وظلامها فما إن تتنهَّد وتقول «يا ليل ما أطولك»، حتى نشعر أنه لا نهار في أيامنا ولا غربة أبشع من غربتنا.
وعلى بعد آلاف الكيلومترات ظلَّ الرابط بين تونس الخضراء وفلسطين رابطًا وطيدًا، دعمته تحركات شعبية كثيرة وأعمال فنية لا تُحصى ولا تُعدُّ، ومع إعلان «تأسيس إسرائيل» في 14 مايو/أيار 1948، هبَّ آلاف التونسيين نحو الأراضي الفلسطينية نصرةً لهم ولحقهم في استرجاع أراضيهم. ظلَّ الكثير منهم عالقًا في طرابلس في حين وصل آخرون إلى بيت لحم وخاضوا المعارك جنبًا إلى جنب مع شعبنا الفلسطيني. أثمر هذا الحراك الشعبي والجماهيري ووُلدت من رحم هذه العلاقة القائمة على اليقين الثابت بشرعيَّة القضية الفلسطينية أعمالٌ فنيَّة خرجت من الحيِّز الوطني لتكون مرآة تعكس الواقع الدولي.
من بين هذه الأعمال نجد أغاني رددتها سيِّدة قويَّة كطائر الفينيق تدعى «آمال الحمروني» التي كانت تغنِّي ضمن مجموعة «البحثي الموسيقي»، وهي فرقة موسيقية ملتزمة بدأت مسيرتها عام 1980. رافق آمال في هذه التجربة الخلاقة «نبراس شمام» و«خالد الحمروني» و«خميس البحري»، وأهدوا معًا أغاني للمظلومين والمحتجزين والمقهورين في تونس وخارجها، نذكر من بينها: «نشيد الانتصار» و«يا نخلة وادي الباي» و«هيلا هيلا يا مطر». زرعوا فينا حبنا للوطن وللأرض، وسقونا من كئوس القوة والحرية والكرامة حتى ارتوينا، وصرنا نبحث عن المقاومة بين درجات السلالم الموسيقية وخلف أبواب الزنازين.
ما زلنا في المغرب العربي الذي قد ترميه لهجاته المختلفة في طيِّ النسيان، ومن تونس نمرُّ للمغرب، حيث يحضر نموذجان للفن الملتزم والصادق والقوي، وهما مجموعة «ناس الغيوان» والمغني اليساري «سعيد المغربي».
ففي ستينيات القرن الماضي نشأت مجموعة «ناس الغيوان» في حي شعبي في الدار البيضاء. كبرت وترعرعت في بيئة فقيرة ومنسية قبل أن تُحوِّل ضعفها قوةً، وتعيد نفخ الروح في تراث موسيقي مغربي كان فريسة سهلة للتهميش. غنَّت هذه المجموعة التي قد نُفسِّر اسمها بتعبير آخر هو «أهل الفَهَامة» عن مجزرة صبرا وشاتيلا في أغنية تحمل نفس الاسم، وعن ظلم الدنيا والحياة والحرمان والفساد وسجن الأطفال في «مهمومة» ثم صلَّت بترانيم صوفية وروحية مغاربية رائعة منها «العفو يا مولانا» و«الله يا مولانا».
أمَّا بالنسبة لـ «سعيد المغربي»، فهو موسيقي ومناضل ماركسي لينيني، تحوَّل للعيش في فرنسا بعد مضايقات النظام، وظلَّ عوده ووجدانه يتغنيان بالمغرب المُقاوِم والجريء. يمضي سنوات في فرنسا، يتحصل فيها على شهادة الدكتوراه في الموسيقى ثم يعود عام 1994 نهائيًّا إلى المغرب بعد صدور عفو ملكي في حقه. كان صوته – وما زال – يصدح ضد القمع فيردد أشعار «معين بسيسو»، قائلًا: «نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا»، ويعادي الاستعمار بأغنية تحت نير الاستعمار قبل أن يشكو لنا أوجاع الوطن في «المحاكمة».
شاءت الأقدار أن ترمينا في أوطان كان الحزن مرتبطًا بعناوينها وأرضها وبتقاسيم وجوه ناسها، وشئنا أن نقاوم ونقاوم ونقاوم.
#حكايات #عن #فن #المقاومة #وأعلامه #إضاءات
تابعوا Tunisactus على Google News